ليس بالخطبة «المكتوبة» وحدها .. تتحصّن المنابر
أتابع بتقدير واحترام جهود الدكتور محمد مختار جمعة وزير الأوقاف، لضبط مسار الدعوة بالمساجد .. يملك إيمانا قويا، ويقينا وطنيا بضرورة مواجهة الفكر المنحرف والمتطرف، وسد المنافذ أمامه، لحماية عقول الشباب، وهو هدف لو تعلمون عظيم.
لم أتشرف بلقاء فضيلته من قبل.. وأخشى أن يعتبر البعض شهادتى بحقه «مجروحة» فقد شرّفنى بقراءة مقالى بالأهرام ـ صباح السادس والعشرين من مايو 2015 ـ فى الجلسة الافتتاحية للمؤتمر الإسلامى الدولى لبحث آليات تجديد الخطاب الديني، بحضور صفوة من وزراء الأوقاف، والمفتين، والمفكرين، والعلماء ضيوف مصر المشاركين فى المؤتمر.
أقول هذا بمناسبة حديث طال وقته، وتعددت حججه، وتباينت أهدافه، واختلفت أطرافه.. شهدته الأسابيع الماضية عن «الخطبة المكتوبة» التى أثارت جدلا بلغ حدّ إنكارها من كبار علماء الأزهر الشريف، فى مقابل إصرار عليها من بعض قيادات وزارة الأوقاف.
أحسب أن وراء فكرة الخطبة “المكتوبة” نيات حسنة، ومكاسب مهمة أبرزها نشر الفكر الإسلامى الصحيح، ومكافحة الغلو وفتاوى العنف والتكفير، وتجفيف منابع الإرهاب، وتطهير العمل الدعوى من الدخلاء والأدعياء والخبثاء، وتحصين «الوحدة الوطنية» ضد محاولات الوقيعة بين الأشقاء: المسلمين والمسيحيين، وعدم إقحام المنابر فى القضايا السياسية، والخلافات المذهبية، والصراعات الحزبية.
والحقيقة أن هذه المكاسب ـ رغم أهميتها ـ لم تمنع وجود «سلبيات» للخطبة المكتوبة، أبرزها:
■ تهميش دور الأزهر الشريف فى تسيير أمور الدعوة، خلافا لنص المادة السابعة من الدستور التى تقضى بأن الأزهر يتولى مسئولية الدعوة ونشر علوم الدين واللغة العربية فى مصر والعالم.
■ إمكانية الاستغناء عن جهود خريجى الأزهر، فأى شخص يُحسن القراءة يمكنه تلاوة الخطبة على المصلين.
■ غلق منافذ “الاجتهاد» وهو أساس تجدد الفكر الإسلامى واستمراره على مرّ العصور.
■ قطع الصلة بين الدعاة ومصادر التراث الإسلامي، وتحويلهم من باحثين مجتهدين إلى “ناقلين” لفكر بعض قيادات الوزارة.
■ تجميد الخطاب الديني، وإهدار الجهود المبذولة لتجديده وتطويره.
أما أخطر معايبها فيتمثل فى أنها أشعلت «الخلاف» بين العلماء.. وإذا كان الشائع عند الناس أن «اختلاف» العلماء «نعمة» فالثابت أيضا أن خلافهم «نقمة».
وكعادته، أحسن فضيلة الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر المبادرة لاستعادة وحدة الصف، وإنهاء أى مظاهر خلافية، فدعا إلى اجتماع عاجل قبل أيام ـ فور عودته من لقائه بالرئيس عبد الفتاح السيسى سارع إليه العالمان الأزهريان الجليلان وزير الأوقاف، والشيخ الدكتور شوقى علام مفتى الجمهورية، فى بيتهما الكبير «الأزهر الشريف» بحضور قيادات المؤسسات الأزهرية.
الاجتماع كان إنجازا كبيرا فى ذاته.. انطلاقة جديدة لعمل دعوى جماعى بقيادة الأزهر الذى تتطلع إليه أنظار الدنيا كلها.. تتعلم منه صحيح الدين، وتتعرف على سلام الإسلام، وأمنه، وسماحته.
التجارب التاريخية أثبتت أن أى عمل دعوى لا يحقق أهدافه «كاملة» بعيدا عن قيادة الأزهر الشريف، وعطاء علماء الأوقاف، وتعاون دار الإفتاء.. كما أثبتت أن توحيد جهود المؤسسات الدينية الرسمية يقويها جميعا فى مواجهة الجماعات الانتهازية، والأفكار الإرهابية.
مهام دعوية كبرى انتهى الاجتماع إلى ضرورة تعاون الأزهر والأوقاف ودار الإفتاء لإنجازها.. أبرزها:
ــ وضع خطط تدريبية لرفع كفاءة الأئمة والوعاظ، وصقل مهاراتهم.
ــ التنسيق فى اختيار موضوعات الوعظ والدروس بما يلبى احتياجات المجتمع.
ــ إبعاد غير المؤهلين والمستغلين للمنابر عن المجال الدعوي.
وإذا كانت هيئة كبار العلماء قد رفضت “الخطبة المكتوبة” فقد أبى الأزهر ـ خلال الاجتماع ـ إلا أن يُهدى وزارة الأوقاف، ودار الإفتاء، ودعاة مصر وأئمتها ووعاظها مشروعا رائدا يستهدف إنشاء “أكاديمية الأزهر لتدريب الأئمة والوعاظ والمفتين”.
ولا يخفى أن تدريب الدعاة والأئمة وتأهيلهم وتعظيم مهاراتهم ورفع كفاءاتهم أعظم ضمان لاستمرار الاجتهاد، وتجديد الخطاب الديني، ونشر الفكر الإسلامى المعتدل، وتصحيح صورة الدين، ودحض الشبهات ضده، ومعايشة مشكلات المجتمع وقضايا الناس، وفضح فتاوى التكفير والعنف، وتجفيف منابع التطرف والإرهاب، وهى أمور لا تحققها مجتمعة “الخطبة المكتوبة” وحدها.
وأحسب أن وزارة الأوقاف وأئمتها سيكونون أول المستفيدين من الأكاديمية المقترحة، وأول المؤيدين لها، الداعمين لأهدافها. فمرحبا، بأكاديمية تدريب الدعاة تحصينا للمنابر وضبطا للفتاوى.. ومهلا، أيتها المكتوبة.