أحمد السيد النجار
محمد عبد الهادي علام
التغيير الحقيقى
18 يوليو 2016

ليس خافيا على أحد أن قضية التنوير قد أسالت الكثير من الحبر فى الفكرين الغربى والعربى على حد سواء، ففى الغرب حسمت أمورها ووصلت الى مقاصدها منذ زمن بعيد، ولكنها فى الفكر العربى مازالت تعانى التعثر والانسداد التاريخي


فعلى الرغم من اشتغال عدد من النخب فى مجتمعاتنا العربية بالتنوير الفكرى باعتبار أننا نمر فى ظلام يمنعنا من رؤية التقدم والنهضة مع استمرار هذا الجهد لعدة عقود مازالت مشروعات التنوير بكرا لم تنضج فى كتابات المثقفين العرب، وما قدمه الرعيل الأول فى بواكير عصر الحداثة كالطهطاوى ومحمد عبده والأفغانى والكواكبى لم يكمله من أتى بعدهم، فالمشروعات التى كانت تولد فى رحم التنوير تصاب بعد خروجها الى الساحة بردود وتصطدم مع المشروعات المضادة فتتقزم فى دوائر النزاعات الفكرية الضيقة والصاخبة.



واللافت للنظر والمؤسف فى آن واحد أن كتابات التنوير المعاصر فى المنطقة العربية تمحورت حول موضوع الدين والتراث وكأنه سبب ظلامات حالنا الراهنة ولو تركز النقد والتنوير فى الممارسات العربية الجانحة والمتطرفة لكان أحرى بالقبول العام لدى جميع التيارات لكن الكثيرين اقتصروا على النص وتاريخه وزلات فهم الفقهاء، ومرجعية التراث بينما تتمحور مشكلات الإنسان القائمة حول ضعف التنمية وفقدان الهوية وتخلف البحث العلمى والبطالة وتدهور التعليم، لكنها لم تشغل إلا القليل برغم وجود القدرة عند الكثيرين من مفكرينا على تناول هذه القضايا الملحة فى حياة الفرد والجماعة.



وعندما تستدعى التجربة ذاتها عند مفكرى عصر النهضة الأوروبيين نجد أن هناك من تناول الفكر المجرد ونقد اللاهوت باعتبار أن تلك الموضوعات كانت من أسباب التخلف والنكوص آنذاك لكن الغالبية العظمى اهتموا بالعلوم والمعارف الإنسانية الأخرى وفنون البناء المتنوعة سواء الإيطاليون السابقون كدافنشى ومايكل أنجلو وأيضا الإنجليز الذين مهدوا لطريق طويل من النهضة امتد من أوائل القرن السادس عشر حتى عصرنا الحاضر ومن أبرزهم توماس مور وفرنسيس بيكو، حيث أرسوا قواعد المنهج التجريبى وأطلقوا عنان المكتشفات الطبيعية والعلوم المصاحبة لها، ثم اشتغل الكثيرون من الفلاسفة بعدهم بهذا الهم العلمى الذى تجاوز اشتغالهم بالفكر «اللاهوتي» وهذا الانتقال أنشأ أول مجتمع صناعى قوى فى العالم نقل الفرد فى بريطانيا من فقير عائل، الى صانع مستقل، ثم الهيمنة الاقتصادية والسياسية والثقافية بعد ذلك على العالم، وحدث هذا كله بفضل عدد من الأعمدة الفكرية مهدت الطريق لحقوق أوسع وحريات أرسخ ثم جاء فيلسوف القرن التاسع عشر «جو ستيوارت» الذى قفز بهذه المرحلة نحو الفاعلية المجتمعية من خلال كتابه (فى الحرية) حيث زج بقدرات الفقراء والطبقات الوسطى نحو عملية التغيير الاجتماعى والاقتصادي، ونستطيع أن نخلص الى النقاط الآتية فى قضية التنوير التى أتت أكلها فى الغرب وانتكست فى العالم العربي:



{ تمر المجتمعات العربية بتحولات مهمة خصوصا بعد ثورات الربيع العربى ولم تنقذها حالات التنوير الثقافى الخالية من معطيات التنمية والبناء فى تقليص الكوارث التى مرت بها تلك الدول فالنموذج البريطانى كان أسرع فى تقبل التغييرات التى حدثت ولم تعاند الملكية فى توسيع المجال للمشاركات وفتح باب الحريات للمجتمع بخلاف الملكية الفرنسية التى أسهمت فى نشوء الثورة وانتكاساتها المريعة، فمرونة السياسى وعقل المثقف كفيلان بنهضة تقدمية تحافظ على مكتسبات المجتمع وتنميته.



{ إن استراتيجية التغيير تحتاج الى منطق إدارى صارم ولكن لن ينجح هذا المنطق ما لم يكن هناك فهم سننى لطبيعة المجتمع واحترام لثوابته (من حرية التعبير والعدالة الاجتماعية وترسيخ قيم المواطنة) وتصد لمشكلاته الآنية والمستقبلية مع الحذر من التعاطى مع الأمور الضرورية فى التغيير بمنطق نصف إصلاح يكفى أو نصف حرية أو نصف عدالة لأن تلك الأنصاف الناقصة قد تعود بالخراب على الكل.



{ التقدم الإنسانى فى التاريخ يأتى على شكل فرص ولحظات باهرة قد لا تتكرر وكتلة الدفع الحرجة لهذه اللحظة التاريخية هى كنز الوطن وجوهره الصامت وقد لا يكون هؤلاء نجوما تحت الأضواء ولا تروج لهم المنابر الإعلامية لكن حضورهم الغائب وهديرهم الصامت هما الطاقة التى تندفع بها عملية التقدم وأى تهميش لتلك الكتلة الحرجة أو شلة من المنافقين والوصوليين بها يعنى التعثر برغم النشاط والتضعضع برغم القوة.



{ الإنسان هو محور التقدم الحضارى المستدام وهذه قاعدة ربانية لأن التغيير الحقيقى يبدأ وينتهى بالأنفس كما قال تعالي: «إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم» فالإنسان اليوم يجب أن يكون جوهر الرؤى التقدمية وروحها النابضة، وما لم تراع حاجاته الروحية والفكرية والفطرية فإن حاجاته المادية الاقتصادية ستجعل منه مسمارا فى آلة يبقى ببقائها وينتهى بانتهائها، والانسان المستهدف فى النهضة لا يتبعض أى لا يستهدف إنسان المال والأعمال باعتباره الحافز المؤثر ويغفل عن إنسان القرى والبوادى وإنسان الماء الملوث وساكنى العشوائيات، فمن الحكم الحضارية التى تداولتها البشرية أن الوطن الذى يعلى من أفراده يعلو فى قلوبهم ويسمو على الآخرين.



{ يأتى التعليم دائما على رأس أولويات التغيير وتبدأ النهضة الحقيقية لأى حضارة من الجامعة والمدرسة فهى أكبر تجمع لأقوى مكون للتغيير وإعدادهم فى شكل مكثف وممنهج يختصر الكثير من الوقت والجهد والمال الذى تتطلبه فى العادة مشاريع النهضة التى تتوخاها الحكومات فى أى بلد بالعالم.



هناك مقولة شهيرة لمهاتير محمد عندما تولى مسئولية الحكم فى ماليزيا (نحن بلد فقير وعلينا أن نستثمر ونصرف على التعليم) ولكن يبدو أن المنطقة العربية تفضل الاستثمار فى الحجر دون البشر لأسباب مفهومة ضمنا.



د. عماد إسماعيل