أحمد السيد النجار
محمد عبد الهادي علام
من الإصلاح والإحياء إلى تجديد الخطاب
12 يوليو 2016
د. عمرو رياض

من قبيل القدر أن يوافق شهر يوليو من كل عام وفاة كل من المجدد المصلح الشهير الشيخ محمد عبده مفتى الديار المصرية (ت 1905)، والدكتور نصر حامد أبو زيد (ت 2010)، والذى كان يعتبر نفسه – كما كان يردد فى حياته – ابناً روحياً للشيخ محمد عبده فى فكره وبغيته للإصلاح والتجديد.


وإن امتد الفارق الزمنى بينهما لأكثر من قرن، وإن اختلفت الظروف التاريخية والمؤثرات بل والاصطلاحات الرامية إلى الإصلاح بين محمد عبده ونصر حامد أبو زيد، فإن المسائل والمعضلات التى تواجه الفكر الإسلامى المعاصر لم تتغير، فما العوامل التى أدت إلى التكلس على أصعدة عدة، والذى ما زالت تشهده الأمة الإسلامية على الرغم من محاولات الإحياء فى نهاية القرن التاسع عشر على أيدى المصلحين من أمثال رفاعة الطهطاوى وجمال الدين الأفغانى ومحمد عبده، ونداءات من هم أمثال نصر حامد أبو زيد إلى تجديد الخطاب الديني؟



أصل الداء



كان الشيخ محمد عبده يصف العلة التى تنهش فى جسد الأمة المسلمة بأن سببها فساد السلطة وجمود العلماء وتقليد العامة، مما يجعل نتيجة الإصلاح منقوصة مهما تضافرت الجهود. وكان من رأيه أن المشكلة تكمن فى أن الغالبية من المسلمين تؤمن أولا ،وبعد ذلك تبحث عن الدليل، لكن القليل منهم من ينظر فى الدليل أولا ليؤمن. وقد قام عبده وأمثاله باتباع هذا المنطق فى كثير من القضايا حسب ظروف عصره بطريقة فعالة. لكن من وجهة نظري، فإن من أهم الأسباب التى لم تفتح مجال التجديد على مصراعيه لتحقيق النتائج المرجوة من دون المساس بالثوابث العقدية الواردة فى النصوص الظاهرة بين الرعيل الأول من منادى الإصلاح من أمثال عبده والأفغانى هى أن محاولاتهم - على الرغم من كونها رائدة فى ذاتها - كانت اعتبارية انتقائية تهتم بالرد على إشكالات معينة كانت تطرحها مفاهيم الحداثة تحت وطأة المستعمر،من دون وضع أسس نظرية مطولة يمكن الاعتماد عليها كمعيار للتحليل الفكرى العام لمثل هذه التحديات. وهذا ما تسبب فى طرح بعض الإجابات بشكل جدلى أبولوجيتكى يقدم حلولا منطقية مقنعة عقلية لبعض القضايا، وحلولا شكلية لقضايا أكثر تعقيدا، قد لا تسبر غور من يطرح هذه التساؤلات. ولنوضح هذا أكثر، فعلى سبيل المثال طرحت أسئلة عديدة حول مفهوم الجهاد وحد الردة وتعارضها مع الحرية التى يكفلها الإسلام فى الأصل. وكان رد الشيخ محمد عبده وغيره أن مفهوم الجهاد يجب أن يفهم على أنه فى إحدى صوره خط الدفاع عن الإسلام، وأن هذا المفهوم الدينى يجب أن نفهمه على أنه المؤسسة التى كانت تحمى الإسلام وحدوده، مما يعوضه فى عالمنا المعاصر بمؤسسات الجيش والدفاع فى الدولة الحديثة. أما عن مفهوم الردة فقد فهمها عبده وأمثاله على أنها لا تعنى الارتداد عن العقيدة والدين، حيث أنه "لا إكراه فى الدين قد تبين الرشد من الغي". أما الأخبار والآثار الواردة فى هذا الصدد بعيدا عن النص القرآني، فيجب أن نحصرها فى معناها السياسي، وهو الخروج من الإسلام فى بداية عصره والإصرار على إفشاء أسرار الجانب المسلم الذى هو فى حالة حرب مع العدو فى مرحلة النشأة مما يهدد بقاء الدين الجديد النشأة. وهنا يضفى محمد عبده وأمثاله معنى يشبه عقوبة الخيانة السياسية العظمى التى قد تنتهى بالإعدام فى بعض القوانين المعاصرة.



أما بالنسبة للجيل اللاحق للشيخ محمد عبده وقاسم أمين وغيرهما، من أمثال الشيخ أمين الخولى والباكستانى الأصل فضل الرحمان (ت 1988) أستاذ الدراسات الإسلامية فى جامعة شيكاغو، وحسن حنفى ونصر حامد أبو زيد، وغيرهم، فقد اتفقوا مع الجيل السابق لهم من المصلحين فى المنهج وقدروا لهم الجهد، لكن الأجوبة لم تكن بالشكل المرضى فى عديد من القضايا التى تخص مفهوم الوحى والفلسفة ومعضلات المجتمع والاقتصاد وغيرها، وهذا ما دعاهم إلى وضع مفاهيم تتفق فى المنهج لكن تختلف فى النتائج الجذرية لمثل هذه القضايا فى كثير من الأحيان. وفى هذا المقام يرى نصر حامد أبو زيد أن التجديد حاجة دائمة، بل وسيرورة اجتماعية وسياسية وثقافية. ولا يجب أن ينبع هذا التجديد من رغبة شخصيّة عند هذا المفكّر أو ذاك، فالتجديد يصبح أكثر إلحاحاً حين تتأزّم الأوضاع المجتمعية، مما يؤثر سلبا فى الفكر والنشاط العلمي، كما على كافة أوجه الحياة. لذا فأى تكرار لما قاله الأولون لا يعد تجديدا يناسب اللحظة التى يعيشها المفكر، وأن مسألة التجديد يجب أن تتخلى عن فكرة الخوف أمام هيمنة الأفكار التى تنتمى إلى الماضي. ومن هذا المنطلق يختلف نصر حامد أبو زيد عن الرعيل الأول فى أن تجديد الخطاب الدينى هو ضرورة معرفية، وليس استجابة لاستحقاقات وضغوط زمنية مرتبطة بسياسات معينة. لذا يرى أبو زيد أن ثمة قضايا مؤجلة تتعلق بالمرأة والأقليات وحقوق الإنسان فى الإسلام يجب النظر إليها ووضعها تحت مفهوم العدل الأشمل للإسلام بعيدا عن تفسيرية تاريخية بعينها، لذا "لا ينبغى إذن أن نتقاعس عن التعامل مع هذه القضايا وغيرها لمجرد أنها تثار وتنعكس علينا من مرايا الآخرين فيركبنا العناد متصورين أننا بذلك ندافع عن هويتنا، على حد قوله. لذا فالمعيار الذى ينبغى على المرء اتباعه هو الحاجة إلى التطور." لذا فتجديد مثل هذه القضايا المؤجلة هو تجديد خطاب "فى الدين"، ولكنه ليس "هو الدين". ويجب أن نؤكد على أن نصر حامد أبو زيد لم يكن يعنى بالخطاب الدينى "الوعظ" فى المساجد والزوايا أو على شاشات التلفاز، ولكنه كان يقصد المفهوم الفكرى لمسائل الدين والذى هو أعمق من هذا بكثير، والتى فيها يجب أن توضع المسائل الفكرية تحت مظلة مفاهيم عامة تحقق العدل والمساواة والأخلاق. لذا كان نصر دائما ما يردد ما قاله أمين الخولى من أن "التجديد يبدأ مع قتل القديم بحثا."



وبين جيل رواد الإصلاح فى عصر الاستعمار وجيل "تجديد الخطاب الديني"، يبقى السؤال الملح الذى طرحناه فى البداية عن سبب التكلس الذى أصاب فكرة الإصلاح. ولأن الأسباب كثيرة ففى الختام يمكن أن نعدد منها ما يلي: يجب أن تطرح قضايا التجديد بعيدا عن الشكل المؤسسى السياسى منها والدينى مما يكفل الحرية التى تدفع عجلة التجديد بعيدا عن أى محددات تعيقها، وأن الجمع بين الإحياء والنقد والإصلاح والتجديد يجب أن تكون عملية موازية، وأن التشرذم الواقع بين المسلمين يجب أن يكون مسئولا عن فشل محاولات التجديد لأنها لم تخلق الحاضنة المناسبة لنمو هذه الأفكار الجديدة والجعل منها حركة ناجعة تعمل بخط متاوز فى شتى أنواع المعارف التى تخدم قضايا الإسلام فى عالمنا المعاصر وواقعه الملح.