أحمد السيد النجار
محمد عبد الهادي علام
ماذا لو خرجت بريطانيا من الإتحاد الأوروبى؟
20 يونيو 2016
لندن : منال لطفي

لقد وضعت بريطانيا يدا على مقبض باب الخروج من الإتحاد الأوروبي، وعلى أوروبا تجهيز الخطة (ب) فى حالة الخروج, لكن الأتحاد الأوروبى ليس لديه خطة (ب), فليست هناك خطة واحدة يمكن أن تجهز الإتحاد الأوروبى للرد على هذا الزلزال الذى قد يفتح الباب لانهيار المشروع الأوروبى كله.


ويقول جوناثان فاويل أحد أبرز مسئولى المفوضية الأوروبية خبير ملف العلاقات مع بريطانيا والإتحاد الأوروبى فى مناقشة حول العلاقات بين بريطانيا و الاتحاد الاوروبى حضرتها "الأهرام": "ليست هناك خطة ب"، لكن هناك خطة «باء وت وث وج وح وخ ود وذ» إلى نهاية حروف الأبجدية للتعامل مع طائفة واسعة من التداعيات الكثيرة المحتملة التى لا يمكن لأحد التنبؤ بها...فلا أحد يعلم ماذا سيحدث يوم 23 يونيو ولا أحد يعلم ماذا سيحدث يوم 24 يونيو أيضا. فلو قررت بريطانيا الخروج ستكون هذه سابقة خطيرة من نوعها. وتداعيات ذلك على الإتحاد الأوروبى والعالم لا يمكن التنبؤ بها".



هذه التداعيات أصبحت اليوم الشغل الشاغل للإتحاد الأوروبى ودوله الكبيرة وعلى رأسها المانيا وفرنسا. ويحبس زعماء أوروبا أنفاسهم مع كل استطلاع جديد للرأى يشير لتقدم معسكر المغادرة على معسكر البقاء. ومع ذلك لو قررت غالبية الناخبين البريطانيون الخروج فلن تتفاجئ أوروبا. فالعلاقات دوما كانت معقدة وذات خصوصية تاريخية وجغرافية. فبينما عاشت القارة الأوروبية قرونا من الحروب بسبب خلافات الحدود والصراعات على الثروات، كانت حدود بريطانيا، الجزيرة المعزولة، معروفة وثابتة.



وداخل الحدود الثابتة والمعروفة ظلت مؤسسات مثل الملكية والنظام البرلمانى الدستورى قائمة لقرون عديدة ووفرت لبريطانيا استقرارا ملحوظا على عكس التغييرات السياسية العاصفة التى اجتاحت أوروبا خلال المائة عام الماضية. فقد شهدت دول أوروبية مثل إسبانيا وإيطاليا والبرتغال صعود الفاشية، وحكمت النازية المانيا، ودخلت قوات هتلر فرنسا والنمسا وبولندا وروسيا وإندلعت حرب أهلية مريرة فى أسبانيا ونشبت إضطرابات داخلية عنيفة فى فرنسا وإيطاليا. بريطانيا على النقيض لم تشهد أيا من هذا.



لقد اعتادت مارجريت تاتشر القول إن أغلب مشاكل القرن العشرين «خلقتها أوروبا وحلتها بريطانيا». ففى نظر الكثيرين من البريطانيين «لولا دخول بريطانيا الحرب العالمية الثانية والقتال إلى جانب قوات الحلفاء ضد النازية والفاشية وهزيمتهم لكانت أوروبا اليوم تحكمها ديكتاتوريات».



بالتالى عندما وقعت الدول الأوروبية اتفاقية روما عام 1957 فضلت بريطانيا عدم الإنضمام. فلم تشعر بريطانيا «الأمبراطورية الكبيرة ومنقذة أوروبا» أنها بحاجة إلى تلك العلاقات الخاصة. لكن فى عام 1973 انضمت بريطانيا للمجموعة الأقتصادية الأوروبية بطلب منها بعد تدهور دورها الامبريالى وتحرر غالبية المستعمرات التى كانت تشكل جزءا من التاج البريطاني، وتراجع مكانة المدن الساحلية التجارية غرب بريطانيا مثل بلاكبول وليفربول وجلاسكو وبريستول والتى كانت تعج بالتجارة من الهند ومصر والعراق والسودان واستراليا ونيوزيلندا. إضافة إلى تدهور المدن الصناعية الكبيرة التى كانت تغذى المستعمرات السابقة بالمنتجات الصناعية مثل الآلأت والسيارات والمعدات الحربية مثل مانشيستر ونيوكاسل.



لكن بينما كان المشروع الأوروبى فى نظر الدول المؤسسة له، وعلى رأسها المانيا وفرنسا "الإجابة عن شرور القومية والتخلص من ذنوبها" عبر مشروع أوروبى واسع "عابر للدول القومية" و"عابر للقومية نفسها"، وأداة تعاون من أجل تعزيز وضمان تجربة الديمقراطيات فى أوروبا ومنع الحروب الداخلية، كان المشروع الأوروبى بالنسبة لبريطانيا لا يتعدى فكرة التبادل الحر وفتح الأسواق. بعبارة أخرى بينما كان المشروع الأوروبى منذ البداية بالنسبة لدول مثل فرنسا والمانيا مشروع اقتصادي-سياسي-أمني، كان بالنسبة لبريطانيا اقتصادي-تجارى فقط. وتدريجيا باتت كل أشكال التقارب السياسى داخل الإتحاد مصدرا للقلق والامتعاض البريطاني.



لقد توسع الاتحاد الأوروبى سريعا ووصل عدده من تسع دول إلى 28 دولة اليوم. وبات قوة أساسية على المسرح الدولى وتضاعفت مساحته عدة مرات. وبات عدد سكانه أكبر من أمريكا إذ يبلغ اليوم 513 مليون نسمة، بينما عدد سكان امريكا 321 مليون نسمة. كما أن اقتصاد الإتحاد الأوروبى أضخم من امريكا، إذ يبلغ الناتج المحلى الاجمالى له 11.3 تريليون يورو، بينما امريكا 10.6 تريليون دولار. أما اليورو، العملة الرسمية الموحدة لـ19 دولة أوروبية، فيستخدمها اليوم 339 مليون نسمة. كما أن الإتحاد الأوروبى أكبر سوق مفتوحة فى العالم، حيث تنتقل السلع والخدمات والبضائع والأفراد بدون قيود أو حدود أو تعريفات جمركية. واليوم يعمل فى الإتحاد الأوروبى نحو 55 ألف موظف. (يبدو هذا الرقم هائلا لكنه ليس كذلك، فالحكومة البريطانية لديها 393 ألف موظف مدني).



فكيف يعمل الإتحاد الأوروبى وما هى مؤسساته الأساسية؟



هناك خمس مؤسسات رئيسية فى الإتحاد وهي:



أولا: مجلس أوروبا (بمثابة الحكومة). وهو ربما أقوى مؤسسة داخل الإتحاد الأوروبى ويرأسه دونالد تاسك، ويتكون من رؤوساء حكومات وقادة الدول الـ 28 الأعضاء فى الإتحاد. هؤلاء القادة يجتمعون دوريا لوضع أجندة عمل الإتحاد وتحديد اولويات سياساته، ولإتخاذ القرارات فى القضايا الهامة بدءا من الهجرة والأمن وأزمة اليورو إلى الاقتصاد والديون وحصص الصيد من المياة المشتركة. وفى القضايا المهمة يجب أن يكون التصويت بالإجماع، لكن فى باقى المسائل يكون التصويت بالأغلبية.



ثانيا: البرلمان الأوروبي، (الجهة التشريعية). يعتبر البرلمان الأوروبى أكبر برلمان فى العالم إذ يمثل أكثر من نصف مليار شخص ويرأسه مارتن شولتز. وعدد نواب البرلمان الأوروبى 751 عضوا، يتم انتخابهم بشكل مباشر فى بلادهم لمدة خمس سنوات. هؤلاء النواب هم المسئولين الوحيدون فى الإتحاد الأوروبى الذين يتم انتخابهم بشكل مباشر من ناخبين بلدهم. ودور البرلمان الأوروبى هو تمحيص ودراسة القوانين المقدمة من قبل المفوضية الأوروبية، ثم التصويت عليها بالموافقة أو الرفض. وللبرلمان الكلمة الأخيرة فى ميزانية الاتحاد الأوروبي، والإشراف على عمل المفوضية الأوروبية.



ثالثا: المفوضية الأوروبية، (الجهاز البيروقراطي). المفوضية هى محرك الإتحاد الأوروبي. وتتكون من رئيس المفوضية جان كلود يونكر، و28 مفوضا، أى ممثل عن كل دولة (تختاره دولته ثم يصدق عليه البرلمان الأوروبي). وأغلب بيروقراطية الإتحاد الأوروبى تعمل فى المفوضية إذ يعمل بها 25 ألف شخص يتحدثون 24 لغة رسمية. والمفوضية مستقلة عن الحكومات، ودورها هو التأكد من التزام وتطبيق كل الدول قوانين الاتحاد الاوروبي، ومن حقها معاقبة الدول المخالفة. كما تنظر فى قواعد التجارة والمنافسة داخل الاتحاد. ومن حقها التدقيق والتمحيص فى ميزانيات الدول الأعضاء خاصة بعد أزمة اليورو. وهى الجهة الوحيدة التى يحق لها اقتراح قوانين، لكن البرلمان الأوروبى هو الذى يحدد تبنى تلك القوانين أم لا.



رابعا: المحكمة الأوربية وتحكم فى كل الخلافات بين المفوضية ومجلس أوروبا والبرلمان الأوروبي، كما تتأكد من التزام جميع الدول بالقوانين وتنفيذها. ومقرها لوكسمبررج.



خامسا: البنك المركزى الأوروبى وهو مسئول عن كل ما يتعلق باليورو ويرأسه ماريو دراجي.



ينتقد الكثيرون فى أوروبا الإتحاد بسبب بيروقراطيته وتوسعه وفساده وتحركه ضد حكومات وطنية منتخبة، حيث استبدل مثلا رئيسى الوزراء المنتخبين فى كل اليونان وإيطاليا وعين محلهما حكومات تكنوقراط خلال الأزمة الأقتصادية.



كما ينتقد الإتحاد بسبب فشل سياساته الرئيسية. فالسوق المشتركة والعملة الموحدة كان الهدف منهما تحقيق النمو والرخاء الأقتصادي، لكن هذا لم يتحقق. فقد تقلص النمو الإقتصادى وأرتفعت البطالة. فمنذ الثمانينيات يتقلص النمو فى القارة بمعدل 1% كل عشر سنوات، فمن 4% نمو فى الثمانينيات إلى 0% نمو حاليا فى الكثير من الدول الأوروبية حاليا. بينما حصته من الناتج الأجمالى المحلى العالمى أنخفضت منذ السبعينيات من 37% إلى 17% حاليا. (جزء من هذا طبعا مرتبط بزيادة حصة قوى كبرى مثل الصين والهند والبرازيل).



كما أن الهيمنة الألمانية المتزايدة باتت مشكلة أوروبية. فالمانيا هى من قادت عملية الإنقاذ للاقتصاديات المتعثرة بعد أزمة 2008 وأصرت على سياسات تقشف فى اليونان وأسبانيا وايطاليا, ويرى البعض أنها أدت إلى استمرار ضعف النمو وارتفاع البطالة. كما أن ألمانيا كانت وراء أزمة اللاجئين التى اجتاحت أوروبا بعدما فتحت حدودها وحدود القارة لاستقبال نحو 2 مليون لاجئ. ومع احتياج المانيا بشدة لدعم باقى الدول الأوروبية لعلاج أزمة المهاجرين واللاجئين والتصدى لها، لم تستطع انجيلا ميركل الضغط عليهم أكثر من اللازم لإعطاء ديفيد كاميرون اتفاقا جيدا يمكن ان يقنع به الناخب البريطانى بالبقاء داخل اوروبا. بمعنى اخر الأخطاء التى ارتكبتها ميركل فى قضية اللاجئين قد تسبب خروج بريطانيا من الإتحاد، وهو ثمن باهظ جدا ستدفع ميركل وفرنسوا أوولاند، ثانى أقوى زعماء أوروبا، ثمنه، لكن المشروع الأوروبى كله سيكون أيضا فى مهب الريح.



وبإختصار يعانى الإتحاد الأوروبى اليوم من أزمة وجود. وآخر استطلاعات الرأى حول شعبية الإتحاد الأوروبى فى الدول الأوربية تشير إلى هذا. فثلثا الألمان لا يريدون بقاء ميركل بسبب فتحها الأبواب أمام اللاجئين، و34% من الألمان يريدون الاستفتاء على البقاء فى الإتحاد الأوروبي. و48% من الإيطاليين يريدون مغادرة الاتحاد الأوروبي، مقابل 44% من الفرنسيين يريدون المغادرة.



لكن هناك الكثير من التجنى على الاتحاد أيضا. ففكرة أن الهدف النهائى للإتحاد الأوروبى هو دولة كبرى أوروبية موحدة أو "سوبر ستيت" لا تدعمها الأدلة. فالرأى العام الأوروبى إجمالا ضد المزيد من التقارب السياسي. وبرغم كل عيوب الإتحاد الأوروبي، فإنه لا شك له دوره فى احلال السلم فى اوروبا منذ 1945، وتعزيز التعاون الاقتصادى والنمو والرخاء والتقدم العلمى والاكاديمى وفتح الأسواق وتحسين مستويات المعيشة إجمالا.



وأمام الإتحاد الأوروبى يوم الخميس المقبل أكبر تحدى يواجهه منذ تأسيسه. فما هى خطواته المتوقعة فى حالة تصويت بريطانيا بالبقاء أو المغادرة؟.



إذا قررت بريطانيا البقاء فإن الإتحاد الأوروبى لن يظل كما هو. فاتفاق فبراير مع بريطانيا عند تطبيقه سيغير الدينامكيات وطريقة عمل الاتحاد الأوروبى فيما يتعلق بالهجرة والدعم الأجتماعى للمهاجرين. ففى حالة التصويت بالبقاء ستبدأ المفوضية الأوروبية تحويل بنود الأتفاق بين الإتحاد ولندن إلى قوانين ومن تلك البنود البند الذى ينص على أن المهاجرين من أوروبا الشرقية لا يحق لهم التمتع بنظام الدعم الأجتماعى قبل مرور 4 سنوات على وجودهم وعملهم فى بريطانيا. أما إذا قرر البريطانيون المغادرة ففى هذه الحالة سيطبق الإتحاد البند 50 من ميثاقه والذى لم يستخدم أبدا فى تاريخ الإتحاد الأوروبي. وينص البند 50 على أن تبلغ الدولة المغادرة الإتحاد بقرارها من أجل بدء "مفاوضات الخروج" وتحديد ملامح العلاقات المستقبلية وهذه العملية قد تستغرق عامين تظل خلالها قوانين الأتحاد الأوروبى سارية. ويمكن ان تغادر الدولة الإتحاد دون أن تنجح فى التوصل لإتفاق حول شكل العلاقات المستقبلية إذا كان هناك خلافات حول الشروط. فبريطانيا مثلا تريد فى حالة الخروج بقاءها فى السوق الأوروبية الموحدة، لكن الإتحاد يشترط حرية حركة العمالة للإنضمام للسوق الموحدة وهو ما ترفضه بريطانيا.



وسواء بقت بريطانيا أو غادرت الإتحاد الأوروبي، فإن الأشهر المقبلة ستكون أشهر مفاوضات صعبة ومعقدة. ويعرف الأوروبيون أن بريطانيا إن بقت ستطلب المزيد من الاصلاحات الجذرية، خاصة فيما يتعلق بالهجرة. فخلال السنوات القليلة الماضية هاجر إلى بريطانيا نحو مليونى ونصف المليون شخص. لكن البريطانيين، وهم أقل شعب فى القارة يعرف هويته بأنها "أوروبية" يريدون سوقا موحدة بدون هجرة.