أحمد السيد النجار
محمد عبد الهادي علام
كنت من المحظوظين
25 مارس 2016
وجدي رياض

منذ نصف قرن ويزيد‏,‏ كنت محررا علميا بجريدة الأخبار‏,‏ ومشرفا علي تحرير باب يحمل اسم أخبار العلموكان من النادر أن يشرف علي تحرير ركن ثابت يظهر في الجريدة صباح كل ثلاثاء‏..‏ ويحرره صحفي صغير لم يتجاوز من العمر‏25‏ عاما‏.‏ وكان ذلك بتشجيع التوأم الصحفي النادر مصطفي وعلي أمين‏,‏ وكان يحرره الراحل صلاح جلال قبل رحيله إلي الأهرام‏.‏
‏.........................................................................................‏
وفي أحد الأيام استدعاني صلاح جلال‏,‏ وطلب مني أن أقدم استقالتي من الأخبار لألتحق محررا بالأهرام في القسم العلمي الجديد‏,‏ الذي طلب هيكل‏,‏ إنشائه ليكون أول قسم معني بنشر الثقافة العلمية في الصحافة المصرية والعربية‏,‏ كنت مترددا مغادرة دار أخبار اليوم إلي الأهرام‏,‏ لأني ببساطة سوف أترك رئاستي لباب علمي ثابت في جريدة لها ثقلها‏,‏ إلي الأهرام مرؤوسا‏,‏ ولكن أستاذي ومعلمي صلاح جلال لا أرفض له طلبا‏.‏ قدمت استقالتي‏,‏ ودخلت الأهرام وجلست علي مكتبي وتم تعييني في نفس اليوم في المبني العتيق بباب اللوق‏.‏
كانت فرائضي ترتعش وأنا أخطو داخل المكان‏,‏ لأن طقوس العمل في الأهرام تختلف تماما عن الأخبار في طريقة تناول الخبر‏,‏ والمهنية‏,‏ والصدق المدعم بالوثائق‏,‏ لأن هيكل تربي في مدرسة أخبار اليوم‏,‏ ويعشق الخبر الصحفي‏,‏ ويعتبر الانفراد من أهم سمات الصحفي الناجح‏,‏ وأن الخبر هو فاكهة العمل الصحفي‏,‏ والملك المتوج علي رأس فنون العمل في الجريدة‏.‏
وكان لي مع الأستاذ موقفين مهمين تخص عشقه بالانفراد الصحفي‏..‏ أول هذه المواقف‏,‏ حين كلفني بمتابعة أخبار وزارة الصحة‏..‏ لأن الزميل الصحفي الأستاذ حامد عبد العزيز المكلف بمتابعة أخبار الوزارة مريضا‏(‏ والد الفنانة لبني عبد العزيز‏),‏ ذهبت إلي الوزارة لمتابعة أخبارها‏,‏ وفي إحدي الليالي عقب حضوري مشاهدة فيلم في سينما راديو‏,‏ خرجت في منتصف الليل معزما الاتجاه إلي منزلي في منشية البكري‏,‏ جاءني هاجس بأن أذهب إلي وزارة الصحة‏..‏ فخرجت من السينما إلي الوزارة في شارع مجلس الوزراء‏,‏ ولفت نظري أن مكتب الوزير مضاء في الدور الثاني‏,‏ دخلت الوزارة وأنا مفعم بالحصول علي خبر مهم‏,‏ وعند صعودي أول الدرج قابلت د‏.‏ مالك النمرسي‏,‏ مدير عام إدارة الاحصاء بالوزارة‏,‏ والسيجارة في فمه‏,‏ ورمادها يسقط علي الأوراق التي يتابعها وهو يصعد الدرج في طريقه إلي الوزير د‏.‏ عبده سلام‏.‏
سألت د‏.‏ مالك‏..‏ مالك يا دكتور مالك؟‏,‏ أجابني قائلا أسكت لأننا في مصيبة‏!‏ قلت له خير‏..‏ وعيوني علي الورق الذي يقرأه وكانت عبارة عن جداول بها أسماء المحافظات‏..‏ قال لي‏:‏ الكوليرا منتشرة في المحافظات وطالع للوزير لابلاغه بأرقام الاصابات‏..‏
اختلست نظرة علي أرقام الاصابات‏(13‏ ألف اصابة‏),‏ وأسماء المحافظات‏,‏ وعدت أدراجي عائدا إلي المنزل دون أن يدري أحد‏,‏ وفي صباح اليوم التالي قدمت الخبر كاملا إلي الأستاذ هيكل من خلال سكرتيرته الأستاذة نوال المحلاوي‏,‏ وبعد خمس دقائق طلبني الأستاذ هيكل وهو مذعورا وقال لي بحدة‏..‏ هل أنت متأكد من هذا الخبر؟‏..‏ أجبته نعم متأكد تماما‏,‏ سألني كيف حصلت عليه؟‏..‏ حكيت له الحكاية فسألني لماذا لم تقابل الوزير وهو صديقك؟ قلت له‏..‏ سوف يأخذ علي عهدا بألا أنشر الخبر‏!..‏ وبعد ساعتين استدعاني لمكتبه مرة ثانية وكنت خائفا رغم ثقتي من صحة الخبر‏..‏ وكانت المفاجأة‏..‏ لقد قرر الأستاذ هيكل صرف مكافأة قدرها خمسون جنيها وتصرف من الخزينة فورا‏..‏ هذه المكافأة كانت ضعف مرتبي‏!.‏
أما الموقف الثاني عندما كنت مندوبا للأهرام لتغطية أخبار مستشفي القوات المسلحة بالمعادي‏..‏ باعتباره المستشفي المتفرد في مصر والمنطقة العربية بالتجهيزات‏,‏ وكان قادة الدول العربية يلجأون إلي المستشفي للعلاج بالاضافة إلي المشاهير‏..‏
وفي أحد الأيام أثناء متابعتي لأخبار المستشفي وأهم زوارها علمت أن الفريق عبد الغني الجمسي داخل المستشفي سرا في الحجرة‏601‏ بالدور السادس‏,‏ مصابا بكدمات وجروح لسقوطه في الحمام‏,‏ كتبت الخبر وسلمته إلي مكتب الأستاذ‏,‏ وطلبني وسألني بطريقته المعهودة يا أستاذ أنت متأكد من هذا الخبر؟‏..‏ قلت نعم‏..‏ ومرت عشر دقائق واستدعاني في مكتبه وأمر بصرف‏50‏ جنيها تسلمتها من سكرتيرته عبارة عن ورقة في حجم طابع البريد مكتوب يصرف له خمسون جنيها هيكل‏..‏
كنت من الصحفيين المحظوظين الذين عملوا خلف وبجانب الأستاذ هيكل خرجنا من مدرسة الأخبار إلي مدرسة الأهرام وهم الأساتذة صلاح هلال‏,‏ وصلاح جلال‏,‏ وصلاح منتصر‏,‏ وسناء البيسي‏,‏ ومحمد يوسف كبير مصوري الأهرام وزميله محمد لطفي‏,‏ وعبده مباشر وأنا وأندمجنا مع باقي الزملاء‏.‏ وعندما تدخل مكتبه لا تجده مكدسا بالأوراق‏,‏ نظيفا تماما من أي ملفات‏,‏ أو أوراق‏,‏ يكتب كمحلل للأحداث أديبا مؤرخا فنانا صاحب حكمة ورؤية عريضة‏..‏ عندما يرأس مجلس تحرير الجريدة‏..‏ وكان يري الجمال هو النظام‏.‏ واضح وعميق‏..‏ تبوأ مكانته بجدارة‏..‏ فاستحق كل هذا التكريم‏.‏