أحمد السيد النجار
محمد عبد الهادي علام
شيخ الأزهر الذى تربع على منصة القضاء والإفتاء جاد الحق .. صاحب المواقف المشهودة
15 مارس 2016
تحقيق ــ خالد أحمد المطعنى:

امتلك عقلية قانونية فقهية فذة، خدم الدين والعلم فى كل منصب تقلده، قاضيا ومفتيا ووزيرا، ثم شيخا للأزهر، له مواقف صلبة مشهودة لم يخش فى الحق لومة لائم، إنه الإمام الأكبر الراحل الشيخ جاد الحق على جاد الحق شيخ الأزهر الأسبق، الذى تمر ذكرى رحيله فى 15مارس من كل عام.


وكان الراحل حريصا على تأكيد الروابط بين المجتمعات الإسلامية فى مختلف الأقطار، قادة وشعوبا، وبذله الجهد لتحسين أوضاع الأقليات المسلمة فى البلدان غير الإسلامية، روحيا وفكريا وماديا، واهتمامه بالبحوث فى مختلف أصول الدين وفروعه والمعارف الإسلامية مما كان له نتائج طيبة وفوائد جمة، منها التوسع فى إنشاء المعاهد الدينية والكليات ومكاتب الدعوة، بحيث تضاعف عدد تلك المؤسسات أضعافا كبيرة داخل مصر وخارجها.



وفى عام 1978م حينما صار الشيخ جاد الحق على جاد الحق - رحمه الله - مفتيا للديار المصرية، صنع نهضة كبيرة فيها وسعى للحفاظ على تراثها الفقهى من خلال اختياراته الصائبة والرصينة للفتاوى الصادرة عن الدار والمتناثرة فى سجلاتها والتى تمتاز بمرجعيتها الفقهية والشرعية الصحيحة وقد جمعها وعمل على نشرها فى عشرين مجلدا ضخما ضم بين دفتى كل منها مئات الفتاوى المنتقاة لتعم بها الاستفادة والنفع لما تحويه من قضايا جادة كانت ولا تزال تهم الأمة الإسلامية.



ويقول الدكتور طه أبو كريشة عضو هيئة كبار العلماء، إن ما يذكره التاريخ من أحرف من نور للإمام الراحل الشيخ جاد الحق على جاد الحق شيخ الأزهر الأسبق، تواضعه الجم مع كل من حوله وزهده فى ترف الحياة، وليس أدل على ذلك من أنه لم يكن من ساكنى القصور والشقق الفارهة بل كان راضيا مطمئنا وهو يعيش فى شقته البسيطة فى حى المنيل، وحينما عرضوا عليه الانتقال إلى مكان أكثر سعة رفض الشيخ وظل فى شقته المتواضعة، ولو أراد الدنيا لكانت بين يديه، حتى لقى الله عفيف النفس طاهر اليد.



مواقف فى الحق

وأضاف: كان الإمام الراحل صاحب مواقف فى الحق وللحق مشهودة، وله جرأة فى قول الحق والتمسك بها مهما يكن من وراء ذلك من تضحيات متوقعة، ومن هذا موقفه من مؤتمر السكان الذى عقد فى عام 1994ميلادية بالقاهرة، حيث رفض فضيلته أن يصدر عن هذ المؤتمر ما يتنافى مع حقائق الاسلام وهو معقود فى بلد الأزهر الشريف، وأوضح- رحمه الله - أنه يضحى بمنصبه فى سبيل عدم إصدار أى توصية تتنافى مع ثوابت الدين، وبالفعل رضخ الجميع إلى ما دعا اليه الإمام الراحل، كما كان يتابع جهود تطوير الأزهر متابعة تتعلق بالنهضة العلمية التى تجمع بين المحافظة على التراث ومستجدات العصر فى قضايا كثيرة، صدرت بشأنها كتاب قيم بعنوان”هذا بيان للناس”، وهو كتاب شامل لكثير من القضايا العصرية التى حرص فضيلته على أن يكون فيه الرأى الإسلامى حول هذه القضايا ما يجمع بين الأصالة والمعاصرة.



عقلية قانونية فقهية

وفى سياق متصل، يؤكد الشيخ عمر البسطويسى وكيل أول وزارة رئيس قطاع مدير مكتب شيخ الأزهر(سابقا)، أن الإمام الراحل الشيخ جاد الحق كان عف اللسان نظيف اليد طاهر النفس يمتاز بروح الدعابة مع الأدب الجم، وكان عقلية قانونية فقهية، لديه دأب ومثابرة فى العمل، وهو من الرجال القلائل، حيث كان إنسانا بمعنى الكلمة، يحترم الكبير والصغير داخل المشيخة وخارجها، وكان يرفض أخذ مال مقابل كتاباته فى وسائل الإعلام المختلفة، وكان يقف بجانب الجميع، فذات مرة أرسلت له امرأة - لا يعرفها - من إحدى المحافظات، استغاثة تطلب فيها الحماية، فاتصل بوزير الداخلية لذلك الأمر، وطلب الإفادة، وبالفعل تمت الاستجابة لهذه المرأة.



وأضاف: كانت له رؤية ثاقبة فى الأشخاص الذين يتولون المناصب القيادية فى الأزهر، بحيث يولى صاحب الكفاءة وليس أهل الحظوة والمعارف، فقد جاء تقرير إليه حول قدرات شخص ما لا يعرفه وهو يعمل بالأزهر فى إحدى المحافظات، فسأل عنه وبعث إليه وولاه منصبا فى المكتب الفنى بالمشيخة، وقد طور فضيلته نظم إدارة المعاهد للخروج بها من شكلها التقليدى إلى الشكل الذى نراه حاليا، وأيضا تطوير الشئون القانونية والمكتب الفنى للمشيخة، كما أنشأ فى جميع المناطق الأزهرية (27منطقة)، لجان فتوى يتولى رئاستها رئيس المنطقة، بهدف التيسير على الناس فى الحصول على الفتوى بدلا من عناء السفر للقاهرة، وقد كلفنا بشراء جميع كتب الفقه على المذاهب الأربعة وإرسالها إلى تلك اللجان للاستعانة بها فى جهود الفتوي، وكان يستعين بعلماء الأزهر المحالين إلى المعاش من أصحاب الخبرة فى جهود الفتوى ويعطيهم مكافآت مالية على ذلك.



وتابع: كان قامة وقيمة فى مجال الإفتاء، حيث كان يمارس مهام الإفتاء وهو فى منصب شيخ الأزهر، فيرسل بعض الأسئلة الى لجنة الفتوى بالأزهر ويجيب عن كثير منها بنفسه ويتابعها حتى تصل الى صاحبها سواء فى الداخل أو الخارج، وكان يكتب الفتوى بأسلوب موضوعى وليس مختصرا.



قيـــــادة الأزهـــــر

من جانبه، أوضح الشيخ عبد المنعم فودة وكيل أول وزارة(سابقا) لمدن البعوث الإسلامية بالأزهر، أن الإمام الراحل الشيخ جاد الحق شيخ الأزهر- رحمه الله- كان شديد الحريص على أن يكون الأزهر قائدا وليس تابعا لأحد، ونموذجا يقتدى فى العالم الإسلامى كله، فأنشأ الأمانة العامة للجنة العليا للدعوة الإسلامية، وكنت مديرا لهذه الأمانة، كما كان له الفضل فى عقد دورات تدريبية للأئمة والوعاظ الوافدين من العالم الإسلامي، وقد بدأ عمل هذه الدورات فى عام 1984 ميلادية بهدف نشر الفكر الوسطى فى البلدان الإسلامية، وقد تم تدريب أكثر من خمسة آلاف واعظ وإمام حتى وفاة الشيخ جاد الحق، وكان من أهم قرارات وتوصيات اللجنة العليا للدعوة الإسلامية برئاسة الإمام الراحل، والتى تضم وزراء الإعلام والثقافة والتربية والتعليم والتعليم العالي، تدريس مادة الثقافة الإسلامية فى جميع الجامعات فى مصر، حتى تكون لدى الطلاب والطالبات خلفية دينية صحيحة تحميهم من التطرف والانحراف الفكري، ولو طبقت هذه المادة لما وصل شبابنا إلى الفكر المتطرف ولا إلى الإلحاد.



وعن علاقته الأسرية يحدثنا النجل الأكبر للإمام الراحل، على جاد الحق، قائلا: والدى - رحمه الله - كان حنونا عطوفا، ولا يتدخل فى الشئون العملية لأبنائه إلا بالنصح فقط، ولا يتدخل فى قضاء مصالحنا فى الأمور المتعلقة بمؤسسات الدولة، ولم يستغل منصبه كشيخ للأزهر فى تحقيق مكاسب شخصية له أو لأولاده، وقد عملت بالأعمال الحرة، أما شقيقاى مدحت وأسامة، فكانا ضابطين بالقوات المسلحة، وكان الإمام الراحل بارا بأهله ودائم التردد على زيارتهم فى مسقط رأسه فى قرية بطرة بالمنصورة محافظة الدقهلية، حيث كان يسعى فى قضاء حوائجهم، مطبقا تعاليم الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد مول وأسهم فى إنشاء مجمع إسلامى خدمى فى قريته على مساحة ألف متر يشمل عيادة طبية تقدم خدمات علاجية بأسعار رمزية، ومكتبة إسلامية، وكذلك مسجد، كما وجه صندوق الزكاة الكويتى لإنشاء العديد من المعاهد الأزهرية والمدارس فى قريته والقرى المجاورة لها، وإنشاء وتجهيز المستشفى المركزى ببطرة، وكان هذا أول نشاط للصندوق فى هذا الاتجاه، حيث إنهم أرادوا أن يؤسسوا مسجدا فقال لهم الإمام الراحل: إن القرية مملوءة بالمساجد ولكن تحتاج إلى مستشفى ومعاهد أزهرية ومدارس، وبالفعل وافقوا على رأيه.



وتابع: تم طبع جميع مؤلفات الإمام الراحل فى حياته إلا الجزء السادس والأخير من كتابه”فتاوى وبحوث فقهية”، فتم طبعه بعد وفاته، وبناء على رغبته وأمنيته فقد تم إهداء مكتبته الخاصة بما تحويه من أمهات الكتب ومراجع ومؤلفات له إلى مشيخة الأزهر وتسلمها الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر، وقد استقبل فضيلته حرم الإمام الراحل بالمشيخة. الإمــــام الراحـل فـى ســــطور

ولد الشيخ جاد الحق على جاد الحق بقرية بطرة مركز طلخا بمحافظة الدقهلية، حفظ القرآن الكريم بكُتَّاب القرية، ثم التحق بالمعاهد الأزهرية حتى حصل على الشهادة الثانوية عام (1357هـ/ 1939م ), بعدها التحق بكلية الشريعة، وحصل منها على الشهادة العالمية عام (1361هـ/ 1943م )، نال الإجازة فى القضاء الشرعى عام (1364هـ/ 1945م )، وعُين فور تخرجه موظفاً بالمحاكم الشرعية ليتدرج فى وظائف عديدة حتى وصل إلى مفتش أول بالتفتيش القضائى بوزارة العدل فى عام (1396هـ/1976م )، واختير فى عام (1398هـ/ 1978م ) مفتياً لمصر حيث كرس كل وقته وجهده فى تنظيم العمل بدار الإفتاء وتدوين كل ما يصدر عن الدار من فتاوى فى تنظيم دقيق، وفى عام (1400هـ/ 1980م ) عين عضواً بمجمع البحوث الإسلامية فى الأزهر الشريف فتابع مسيرته فى إثراء البحوث الفقهية والدراسات الإسلامية، وفى عام ( 1402هـ/ 1982م ) عين الشيخ جاد الحق وزيراً للأوقاف، وفى العام نفسه تم تعيينه شيخاً للأزهر، وللشيخ جاد الحق إنجازات كثيرة, حيث بلغ عدد المعاهد الأزهرية أكثر من ستة آلاف معهد فى عهده، وأنشأ فروعاً للجامعة الأزهرية فى معظم أنحاء مصر، وقد تميز الشيخ بآرائه ومواقفه القوية تجاه الكثير من القضايا المهمة مثل:القدس، والأقليات الإسلامية، ومؤتمر السكان بالقاهرة...وغيرها، وله العديد من المؤلفات فى مجال الفقه والفتاوي، منها: الفقه الإسلامى مرونته وتطوره، وبحوث وفتاوى إسلامية فى قضايا معاصرة، ورسالة فى الاجتهاد وشروطه، ورسالة فى القضاء فى الإسلام، بالإضافة إلى عشرات البحوث الفقهية، وتم منحه أرفع الجوائز والأوسمة مثل: وشاح النيل عام 1983م فى مناسبة العيد الألفى للأزهر، ووسام الكفاءة الفكرية والعلوم من الدرجة الممتازة من جلالة الملك الحسن الثاني، ملك المغرب، إلى جانب فوزه بجائزة الملك فيصل العالمية، وظل خادماً للإسلام والمسلمين حتى توفاه الله يوم الجمعة 25 شوال عام 1416هـ/15 مارس عام 1996م.