أحمد السيد النجار
محمد عبد الهادي علام
محمد حسنين هيكل
20 فبراير 2016
د. أحمد يوسف أحمد


كتب الأستاذ محمد حسنين هيكل صفحة غير مسبوقة فى تاريخ الصحافة المصرية وبلور عبر مسيرته الاستثنائية معنى أصيلاً فى تطورها سواء من حيث المستوى أيضاً وهذا هو الأهم من المنظور المؤسسي، ناهيك عن أن صفاته وقدراته الشخصية جعلته قامة متفردة فى هذه الصحافة ومن بابها دلف إلى لعب دور بالغ الأثر فى تطور الحياة المصرية ذاتها . تولى منصب رئاسة التحرير فى ريعان شبابه إشارة إلى نبوغ لازمه طيلة مسيرته ، فلما انتقل إلى رئاسة تحرير الأهرام العريقة فى 1957 جعل منها الصحيفة الأولى فى مصر والوطن العربى دون منازع وأسس لها مكانة دولية ضمن أهم الصحف العالمية، وفى عهده أسس لفكرة ترسخت يوماً بعد يوم إلى الحد الذى استمرت فيه ونمت بعد مغادرته كرسى رئاسة التحرير، وهى أن الأهرام ليس مجرد صحيفة تتفوق فى تغطيتها الخبرية أو تحليل ما يرد بها من أخبار وإنما حقيقة ثقافية متكاملة، فكانت ساحة لإبداع عظماء الفكر والثقافة فى مصر المعاصرة، ومازلت أذكر انبهارى بملحق الجمعة فى مطلع شبابى وكيف كنت أوزع قراءته على أيام الأسبوع حتى أوازن بين أعباء الدراسة ومتابعة مساهمات قامات مصر الشامخة من أمثال توفيق الحكيم وحسين فوزى ولويس عوض ونجيب محفوظ وغيرهم.



فى منتصف ستينيات القرن الماضى وبالتحديد فى عام 1964 أضاف هيكل بعدا أكاديميا لمؤسسة الأهرام، مثل فى حينه سبقا ومازال يميزها بصدور مجلة « السياسة الدولية « وزاد من قيمة هذا السبق أن هيكل قد اختار بطرس غالى عالم السياسة ذا السمعة الدولية المرموقة كى يرأس تحريرها، وبالتدريج اكتسبت هذه المجلة مكانة كبرى بين الأكاديميين المصريين والعرب بل وصارت لها مكانتها الدولية وأصبحت مصدراً رئيسياً لهم فى المعرفة بالشئون الدولية، وكنت حينها على مشارف دراستى الجامعية فزادت ارتباطى بالأهرام لما وفرته لى ولزملائى من عون دراسى وبحثي، وتولت رئاسة تحريرها بعد أن اختطف عالم السياسة العملية بطرس غالى وزيرا للدولة للشئون الخارجية فى 1977 قامات شامخة فى الساحة الأكاديمية المصرية كعبد الملك عودة والسيد يسين ومن بعدهما أسامة الغزالى حرب ووحيد عبدالمجيد ، وازداد التميز الأكاديمى لمؤسسة الأهرام لكنه ارتبط هذه المرة بمهمة وطنية وقومية حين أسس هيكل «مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية»، عقب هزيمة 1967 ليكون رافداً أصيلاً للعقل الاستراتيجى المصرى بل العربي، وتصدى المركز الذى كان حاتم صادق أول رئيس له لقضايا الصراع العربى - الإسرائيلى لكنه سرعان ما شملت موضوعاته جميع القضايا ذات الأهمية على المستويات المحلية والعربية والإقليمية والعالمية، وزادت قيمة المركز وأهميته بعد التحولات الجذرية التى طرأت على عالمنا منذ منتصف ثمانينيات القرن الماضى وظهور جورباتشوف فى الاتحاد السوڤيتى وتداعيات سياساته، وتنوعت الإصدارات البحثية للمركز لتغطى جميع جوانب اهتماماته، وأصبح إنتاجه العلمى مُدخلاً ثابتاً فى عملية صنع القرار فى مصر وربما فى غيرها، وساهم المركز فى مزيد من تميز صحيفة الأهرام بما كانت تنشره من انتاجه العلمي، ويضاف إلى ذلك كله أنه أصبح مدرسة لتنشئة أجيال جديدة من الباحثين سرعان ما احتلوا مكانة مرموقة فى الساحتين الأكاديمية والسياسية فى مصر .



يمثل ما سبق جانباً من الإنجازات المؤسسية لهيكل فى الأهرام فماذا عنه كقامة فردية ؟



تربع هيكل على قمة العمل الصحفى دون منازع مع أنه عاصر قامات صحفية شامخة عديدة، وكثيراً ما كان خصومه يدعون أن الفضل فى تميزه يرجع إلى علاقته بالزعيم جمال عبد الناصر الذى اصطفاه معبراً عن سياساته وشارحاً لها ومدافعاً عنها ومحاوراً ومستشاراً وهو ما يُحسب للرجلين معاً ، فلا شك أن عبد الناصر قد وعى القدرات المتميزة لهيكل وأن الأخير كان على مستوى المسئولية فكان علامة على عصر بأكمله، غير أن وفاة عبد الناصر ومغادرة هيكل موقعه فى الأهرام عقب خلافه مع السادات قد أثبتتا تفرده فقد أخرج بعد ذلك عدداً من الكتب التى كتبت بحق التاريخ المعاصر للمنطقة وأصبحت مرجعاً أصيلاً لهذا التاريخ يواجه طوفان الكتب الأجنبية المنحازة عنه ، ومعلوم أن كتبه كانت تترجم عادة لأكثر من لغة أجنبية وتلقى اهتماماً معتبرا، ومرة أخرى قيل إن تميز تلك الكتب اعتمد على ما كان بحوزته من وثائق بسبب ارتباطه بعبدالناصر غير أن موضوعات كتبه امتدت بوضوح لقضايا بالغة الأهمية، بدأت بعد عبد الناصر وانتهاء علاقته بالسادات .



تميز هيكل بأنه صاحب مبدأ فاختلف مع السلطة كما وقع فى عهد السادات، وكان صاحب التعبير الشهير عن سلطة « شاخت فى مواقعها « فى عهد مبارك ، ولم تكن مصريته وعروبته موضع شك فى أى وقت من الأوقات ، وربما كان هذا بحد ذاته سبباً من أسباب الهجوم عليه، فالكثيرون ممن هاجموه فعلوا ذلك لارتباطه بعبد الناصر وتجربته وهذا حقهم، وهناك من اختلفوا مع أفكاره وهذا حقهم أيضاً لكنه تعرض للهجوم كذلك من شخوص تافهة لا وزن لها لم يكن يحركها إلا البحث عن شهرة يكتسبونها من افتعال معارك معه حتى تقترن أسماؤهم باسمه، توهماً بأن هذا الاقتران سوف يرتفع بهم. استأذن هيكل فى الانصراف منذ سنوات طويلة لكنه بقى حاضرا معنا فى كل حدث جلل يحدث فى مصر والوطن العربي، شارحاً وناصحاً بكل وسائل التعبير إلا الكتابة المباشرة ، وستبقى كلماته دوماً مغروسة فى أرض مصر تنفعها وتزودها بخبرة لا غنى عنها وهى تشق طريقها إلى المستقبل الذى يليق بها، والذى حلم به هيكل فى كل حرف من حروف كلماته .