أحمد السيد النجار
محمد عبد الهادي علام
الدكـــــــتور.. والأســــــتاذ
20 فبراير 2016
سناء البيسى


كـلاهما رحيله مر... صعب على الأذن والقلب.. ثِقل يرزح على أكتاف الثبات.. وقع له أصداء الكدرْ.. رثاء لا يقوى عليه القلم.. منزلة لا تدانيها منزلة.. مكانة عملاقة تصعد إليها بسلم ناطحة سحاب.. قلعتا فِكر حجارتها قُدّت من ذهب.. ريادتان أنجبتهما لمصرنا الأيام.. هرمان للحياة وليسا الموت.. رايتان خفاقتان فوق سارية الوطن.. نبعا معرفة لا يأتيهما فى إرثهما نضوب.. نموذجان محال أن يتكررا.. صنوانا اتجاه تباعدا وتلاقيا فى ميدان السياسة.. نهران زاخران حفرا مجرييهما فى أديم جغرافيا وتاريخ مصر الحديث.. كـلاهما ترك الساحة ومضى فغدت من بعدهما شاغرة هامدة قاحلة جوفاء.. كـلاهما فى رحيلهما التتابعى أمرٌ جلل.. كـلاهما كان لانقضائه إرهاصات وتوقعات يرفعنا بعضها لسماء الأمل وذكر كبوة الحصان الذى يستعيد لياقته بحكم قواه الذاتية الخارقة، وقوة شكيمته التى حطمت سدود عقود السنين ليعاود العدو الذى عودنا عليه للحصول من جديد على قصب السبق، وأخرى تهبط بنا إلى شر التوجس من سماع الخبر الأليم، وأنه قد آن للروح العودة لبارئها وإنا إليه جميعا لراجعون، وأنه قد أُذن فى النهاية للمريض بالرحيل.. لكنها التوقعات جميعها: فى أمانها وقلقها، وفى طمأنينتها وتخوفها كانت بمثابة الدرع الواقية من صدمة المواجهة، والوقوف لفترة التقاط الأنفاس على أرض لم تزل تحتفظ بثباتها لم يصلها بعد توابع الزلزال.. بطرس مات.. و.. هيكل مات.. وكل شيء على المدى بلون الموات.. سبحانه.. ولو كنتم فى بروجٍ مشيدة.. يااااااه.. كل تلك المساحات العريضة التى كانت ممتلئة بهما سقط حائطها الرابع وسقفها وذبلت حدائقها واشتد بردها وقيظها وفقدت مؤشر مناخها، لتدخل فى كردون المدينة وشواغلها وناسها وأقلامها التى أصاب كثيرها عوج، وشاشاتها التى أصاب كثيرها حول، وسكتها الحضيض، وأخلاقياتها التى ذهبوا يرممون انهياراتها بالاستعانة بصديق له ماض غير مأمون وعلى غير المستوى!!



يااااااه.. كل ذلك العطاء والتواجد والنشاط والحوار والسجال والمقال وبصراحة والفرانكفونية وبدر البدور والأهرام والأمم المتحدة والتحليل والرؤى وقراءة الأوضاع ورصد الاتجاه ومتابعة القضايا والقرب والبعد والقلم والورق والذهاب والإياب والطيران والهبوط وتأشيرات السفر وساحات القتال ومعاقل الاعتقال وحدود التعدى وتعداد المهاجرين وسياسات الدول وخيام اللاجئين وانهيارات الأنظمة وتقسيم الخرائط ولقاءات الملوك والرؤساء والزعماء وفنادق الكون وشاشات الأمم وميكروفونات المنصة وحوارات لميس والقضية الفلسطينية وانتظار بدر البدور ومذكرات الأمس!.. توليفة مصرية خالصة النقاء نشأت وترعرعت على أرض النيل لتغدو بإصرارها عظيمة عالمية يشار إليها بالبنان، وتنتظر الملايين قولها الحكيم، ويقف مجلس الأمن على حيّله ترحما عليها.. كل ذاك راح وانقضى وأصبح كما سنصبح جميعنا فى حكم الذى مضى.. الدكتور بطرس.. الأستاذ هيكل.. أين منى أحدهما أأتنس به فى غربة الآخر.. ولكنهما كأنهما كانا على موعد.. ولكنهما كأنهما قد قررا الذهاب معا.. ولكنهما كأنهما كان أسماهما مكتوبين على التوالى فى لوحة القدر.. ولكنهما كأنهما انتصفا التذكرة على متن جناح طائر الموت.. ولكنهما كأنهما أرادا أن يديرا ظهريهما معا ويغادران معا ويبكيانا معا ونستوحشهما معا ونرثيهما معا.. وتتداخل الحروف فى سرد الذكريات مع كل منهما، وتضع الحروف رءوسها على صدر الكلمات علّها تواسيها بشدّة تشد من أزر تداعيها، أو بواو العطف بعدما تركنا ينبوعا العطف فى عراء العسف، أو بعلامة السكون كى تسكّن من آلام الفراق الذى مزقنا برحيل الدكتور لتعقبه وفاة الأستاذ كفصل الختام للرجالات العِظام..



الدكتور بطرس



خارجة من فم الأسد داخلة غرفة الإنعاش تكبلنى سلوك وأنابيب تربطنى بالأجهزة وتجمع أنفاسى تحت طائل قناع الأكسجين أياما وليالى نزيلة جناح الحالات الحرجة بمستشفى القلب بكليفلاند بعدما أجريت لى جراحة القلب المفتوح.. وكان قلبه معي.. السكرتير العام للأمم المتحدة ــ وقتها ــ ابن بلدى وجار مكتبى لسنوات طويلة بالدور السادس بالأهرام عندما كان رئيسا لتحرير مجلتى «السياسة الدولية» و«الأهرام الاقتصادى».. الدكتور بطرس غالي.. من كان الدكتور استافنيوس المصرى مدير المستشفى الكبير يبلغنى باهتمام بالغ بأمر الاتصال اليومى العالمى بمكتبه للاطمئنان على حالتى ومتابعتها.. ورغم مرورى برحلة عنق الزجاجة كان التليفون الحميم القادم من مبنى الأمم المتحدة بمثابة لمسة تشجيع لضخ دفعة جديدة من الهواء للصدر الذى أخرج الطبيب قلبه ليرتقه ويعيده إلى موضعه فى الناحية الشمال ليدق إيذاناً بمولد جديد.. و..دكتور بطرس لسنوات طويلة ظل يجمعنا طبيب قلب واحد هو الدكتور لطفى بسطا وكانت عيادته فى أول دور بشارع ثروت بوسط البلد قبل سفره لأمريكا ليغدو أشهر أطباء الرئاسة بالبيت الأبيض بواشنطن، وليغدو مريضه الآخر أشهر شخصية عالمية فى الأمم المتحدة بنيويورك.



بالأمس رحل الإنسان الجميل الذى أنشأ منظمة حقوق الإنسان فى مصر بقناعة القاضى الذى يمليه نقاء ضميره ليحكم بالعدل، وعدل الإنسانية التى لا ترضى بالضيم لأحد من بنى الإنسان.. الدكتور بطرس من كان يسبق محاضرته فى السوربون مهرجان من التبجيل والتكريم والدعاية التى لم تنلها يوما شخصية أكاديمية أخرى حتى الفرنسية منها، فقد كانت صوره الشخصية تتصدر ملصقات الحوائط والأبنية الجامعية متجاوزا بذلك نجوم السينما الفرنسية مثل إيف مونتان وآلان ديلون.



الدكتور ابن الأكابر الصحفى والمحاضر والدبلوماسى ربيب حى الفجالة بالظاهر خفيف الروح والدم لاذع النكتة ابن الذوات وابن البلد الذى ولد فى سراى عائلته بالسكاكينى التى تضم مائة غرفة، وكانت أسرته وحدها تمتلك 2200 فدان.. عندما غادرت يوما جلسته الثرية الممتعة بمكتبه فى عام 1977 بعدما آثرت الجلوس إليه منصتة إليه على العمل المضنى معه ــ بعدما اختارنى لأرسم أغلفة مجلة الأهرام الاقتصادى التى يرأسها وظل وجه هتلر الذى رسمته لا يعجبه ليجبرنى على إعادته مرات أقسمت بعدها ألا يكون لهتلر ولا غيره الطريق الممهد إليه، وطوال معرفتى به كنت مقدرة ومواسية للعاملين معه لإصراره على طلب الكمال منهم ــ همست يومها لزوجى بأن طموح الرجل قد ذهب به بعيدا جدا، وذلك عندما جاء على لسانه بأن قناعته فى وصوله إلى منصب وزير الخارجية أمر حتمى وملزم.. وكان من حيثياته لهذا الوصول ذكره أن عائلته لها تاريخ فى تولى مناصب مصر المهمة، لأن جده كان رئيسا للوزراء ووزيرا للخارجية عندما كانت مصر جزءا من الإمبراطورية العثمانية، وعمه كان وزيرا للخارجية فى الفترة ما بين الحربين العالميتين، وأحد أعمامه الآخرين قد شغل منصبا مماثلا من عام 1914 إلى 1922 فى وقت الحماية البريطانية.. وكانوا يسألونه طفلا حتطلع إيه يا بطرس؟ فتأتى إجابته الفورية: عايز أطلع وزير!.. وتمر السنين وأذهب إليه فى بيته بالزمالك ليلة 2 ديسمبر 1991 لإجراء حوار صحفى شامل كان من حظى أن تنقله جميع وكالات الأنباء العالمية، فقد تم فى صباحه اختيار الأمانة العامة للأمم المتحدة له لشغل وظيفة الأمين العام ليستمر فى منصبه خمس سنوات، وكان الدكتور بطرس قد صرح فى حديثه لى بأنه متأكد من توليه المنصب ليغدو هذا التصريح بمثابة المانشيت العالمى للصحف الخارجية، وتمضى الخمس سنوات ليفشل الغالى فى النجاح بولاية ثانية بعد المعارضة الشرسة من الولايات المتحدة له بسبب التقرير الذى قدمه مؤكدا فيه مسئولية شيمون بيريز وجيشه عن مذبحة قانا، ورغم الضغوط الأمريكية والإسرائيلية التى مورست على بطرس غالى وقتها لإجباره على التستر على مضمون التقرير فإنه أبى ولم يحد عن موقفه، إلى جانب مطالبته من موقعه الدولى إسرائيل لدفع تعويضات لضحايا المذبحة، الأمر الذى استشاطت إسرائيل غضبا منه، ليحلل بعدها بطرس ذلك الرفض الأمريكى بقوله «أظن أن الهدف كان إعطاء درس وتوجيه تحذير إلى الأمناء العامين المقبلين مغزاه أن من لا يتبع تعليمات الولايات المتحدة الأمريكية فسيكون مصيره مثل مصير بطرس غالى».



بطرس.. صاحب المبادرات والأفكار السياسية المستقبلية والتاريخ الحافل الحائز على جوائز وأوسمة ورتب فخرية من 24 بلدا منها جائزة السلام التى منحتها له مؤسسة يوثانت فى عام 2011 كان من دعا وأعد وافتتح أول مؤتمر دولى للمناخ بالبرازيل عام 1992 مرحباً بنتائج مؤتمر باريس الأخير وما عبر عنه الرئيس عبدالفتاح السيسى فيما يتعلق بتداعيات وتأثيرات مشكلة التغيير المناخى على الشعوب.. ومن آرائه فى الرئيس المصرى عبدالفتاح السيسى أنه منذ توليه المسئولية لديه رؤية ثاقبة وبرنامج عمل وطنى يشمل مجموعة من السياسات المتناغمة تبدأمن الدفاع والذود عن الوطن وتحقيق أمنه واستقراره، وتحقيق التنمية وإقامة المشروعات القومية الضخمة، وإعادة رسم خرائط المحافظات بما يجعلها مناطق جاذبة للاستثمار، وأضاف بطرس أن السيسى يعمل بإخلاص بالغ ولديه إرادة وعزم على اقتحام المشكـلات المتجذرة والعمل على حلها، وفى آخر حواراته الصحفية لصحيفة (جون أفريك) الفرنسية جاء قوله: «عرفت السيسى قبل توليه السلطة، وهو رجل يجيد الاستماع، وأسئلته ذكية، وكان قد تردد كثيرا فى تولى السلطة لكنه قرر أن يفعل ذلك لأنه لا يوجد حل آخر، وهو يحتاج من سنتين إلى ثلاث لتحقيق الاستقرار الكامل للبلاد، وهو الذى أنقذ مصر من أصولية الإخوان».. ومن أبرز أطروحات غالى وقت وجوده فى الوزارة فى فترة حكم السادات والوحدة بين مصر وليبيا إنشاء (الولايات المتحدة العربية) مع إنشاء عاصمة عربية تتوسط مصر وليبيا.. ومن مبادرات غالى عام 1977 كيفية جعل «البحر الأحمر بحيرة عربية» مادامت الدول المطلة على شواطئه تكاد تكون كلها عربية، ومادامت مفاتيح منافذ البحر الأحمر فى أيد عربية حيث يجب أن يصبح أداة تكامل وترابط بين الدول العربية المطلة على شواطئه.. أحلام غالية للراحل الغالى الذى أكد فى قضية سد النهضة أن يكون الحل سياسيا، وأن النيل لابد وأن يكون مصدر تعاون للدول وليس للخلاف والنزاع بين الشعوب.



الدكتور غالى مازلت أذكر سهرة تمنيت ألا تنقضى بزخمها وثرائها وحلو حواراتها وندرة مفرداتها الأدبية والفنية والإنسانية التى أضاءها فى منزلى بنور عقله وسمو تذوقه واشعاعات حضوره صاحبته فيها قرينته السيدة ليا غالى مع الدكتور سامى الدروبى أعظم أدباء سوريا ـ الذى قام بمهمته الخالدة فى ترجمة جميع أعمال الأديب الروسى دوستوفسكى إلى العربية التى تنافس فى بلاغتها لغتها الأصلية ــ ليلتها استمتعت إلى ثنائى العطاء الفكرى والإنسانى عندما تصافح عيناهما العطاء الفنى ممثلا فى لوحات زوجى الفنان منير كنعان المعلقة حولنا فوق الجدران.. وإذا ما كانت ثروة الدكتور بطرس بطرس غالى ــ الذى لم ينجب من زوجتيه السابقة والحالية ــ يشار إليها بالبنان بحكم إرث العائلة العريق إلى جانب ما استحقه مقابل مناصبه الكبرى فجميعها تنزوى خجلا إلى جانب قيمة قطعة من القماش فى حجم المنديل أو المفرش الصغير لكنها تحمل رسما زيتيا ممهورًا بإمضاء صاحبها الفنان العالمى «ماتيس» الذى خرجت أسعار لوحاته عن حدود العقل والتى اصطحبنى الدكتور بطرس ليُرينى موقعها بين رفوف مكتبته الثرية بكتب التراث والفقه والقانون والفن الإسلامى، وتجولنا معا بين مقتنياته الفريدة من الفنون الشعبية الافريقية التى تتصدرها جوقة من البجع المصنوع من الفضة تشكل أوضاع سيقانه الطويلة هارمونى بحيرة بجع أخرى للموسيقار تشايكوفسكى.. ويعود للدكتور بطرس الفضل فى إهدائه عام 2009 درة الكتب المخطوطة باليد فى نسخة أصلية من كتاب «وصف مصر» لمكتبة الاسكندرية الذى يمثل أثمن وأهم الكتب عن أرض مصر بكل جوانبها فى 20 جزءا وشارك فيه أكثر من 150 عالما و2000 متخصص من خيرة الفنانين والرسامين والمثقفين الذين رافقوا نابليون أثناء الحملة الفرنسية، وقبل رحيله كان حريصا على إهداء 13 ألف كتاب نادر لمكتبة المجموعات الخاصة بالجامعة الأمريكية بالقاهرة إلى جانب أرشيفه الخاص بما يحتويه من مكاتبات ومحاضر اجتماعات وصور وخرائط فى مسيرته الشخصية والمهنية.



ومضت السنوات وما بيننا تأهيلا بقدومه للقاهرة عبر التليفون ورغبة دائمة فى الجلوس إليه على الطبيعة ولم تشأ لنا الأيام حتى التقيته أخيرا مُلبية دعوته للعشاء بمنزله لأؤكد له مجاملة أن لا شيء فيه قد تغيَّرَ فيشكرنى قائلا: لم أفهم أبدا أصدقائى الذين يدّعون أننا نتوصل بمرور الوقت إلى التحرر من سيطرة الزمن، ومن أسره، وأن الشعور بمضى الزمن يخْف مع العمر كأن الشيخوخة تدخله فى سبات!!







الأستاذ هيكل



فى الليلة الظلماء يُفتقد البدر وها قد فقدنا البدر.. لا يا سيدى لست كأى واحد فينا يتركنا ويروح لحاله ولمصيره المحتوم.. لا.. أنت بالذات دون أى غيرك لغيابك وقع ولموتك هلع ولحزنك ورع، وفى رثائك يسقط الدمع يبلل الحبر والورق لتغدو الكلمات المتشحات بالسواد مغسولة بالوفاء والحنين والأنين.. سألتك يوماً عن دموعك فقلت لى إنك بكيت مرتين.. «الأولى فى جنازة عبدالناصر لأنه كان صديقا قريبا منى للغاية، وسيبقى أبدًا اعتقادى بأنه ليس فقط إنسانا عظيما وإنما تاريخ عظيم»، والمرة الثانية عند علمك بوفاة السادت وأنت فى ليمان طرة فى اليوم التالى لمقتله «لأننا كنا معزولين داخل الأسوار عزلا كاملا عما يجرى خارجها، وعندما صدرت التعليمات بإمكانية نقل الخبر إلينا أتانا مأمور السجن لينقل لنا نبأ الوفاة على أنها نتيجة أزمة قلبية، فوجدتنى لا أستطيع التحكم فى دموعى».. ولابد وأنها كانت المرة الثالثة يا أستاذى التى أبكتك عندما أبلغت وأنت فى الخارج بحريق مزرعتك فى برقاش عقب فض اعتصام رابعة والنهضة بساعتين بقرار إرهابى من جماعة الإخوان الذين أعلنوا ما أسموه القائمة السوداء بأسماء الكتاب الذين دعموا الفض وضمت فى المستهل اسمك الرنان ليشتعل الحريق الذى أتى على كنوزك من الكتب والمخطوطات والمراجع والمذكرات التى بلغت ثمانية عشر ألف كتاب إلى جانب اللوحات الفنية النادرة التى كان بينها أروع لوحات الفنان كنعان والتى نزل اقتناؤك لها بردا وسلاما على القلب لأنها أصبحت من بعد مكمنها فى الحرز الأمين والعرض الجميل، ومن هنا كانت وجيعتنا واحدة عندما التهمت ألسنة نار الإخوان كل غال علينا وثمين... وعلى ذكر الدموع فقد جعلتها يا أستاذى يوما تترقرق فى عينى عرفانا بالجميل عندما هبط فجأة الأمر العلوى من فوق بإزاحتنا بين يوم وليلة من مواقعنا كرؤساء تحرير، فأزحت القلم والورق، وصورة الغلاف، وحملت حقيبتى، وروحت بيتى ويمين اللـه لم تكد تطأ قدمى عتبته، حتى كان الأستاذ على التليفون يواسينى.. يشجعنى.. يشد من أزرى.. يقسم ألا أحد يهمه غيرى فى كل من استبعد عن منصبه، وأن مجالات العمل الصحفى كلها مفتوحة أمامى للتصدى.. ووضعت السماعة ووضعت حمل حقيبتى، وتنفست الصعداء، فعلى نبرات صوته الذى أسقط دمعى أزحت هماً كبيرًا، كان يقرض سنين العمر ويزرعنى كل أسبوع فى الإعصار.. وكان لى ميلاد جديد فى صحافة المقال.. وها أنت برحيلك بذاتك بشخصك بهيكلك بعظمتك بعبارتك بعمقك بفكرك بقلمك بعطائك بثاقب رؤيتك، باحتوائك، تحرق القلب من جديد، وتقطع خيط الحديث للأبد، وتحرق أسلاك المعارف واليقين، لينتهى زمن جميل كنتُ فيه مؤتنسة بوجودك ولو من بعيد، وأبدًا لن أسمع لمن عهدته يسدد خطاى يقرص أذنى أو يقرظنى من جديد.. وواللـه يا سيدى يا أستاذى يا معلمى وموجهى عندما اصطدمت بنبأ رحيلك شعرت بالتقهقر للخلف وكأنما صُوّبت نحوى لكمة فى الصميم، وكأننى كنت فوق قمة جبل دحرجتنى الصاعقة للسطح، وكأننى قد زرعت فجأة فى كهف الشيخوخة الثلجى، فقد كان وجودك يغلفنى بمشاعر أننى لم أزل تلميذة صغيرة أرفع الإصبع للسؤال فيأتينى جواب الأستاذ كالحلوى مكافأة على يقظتى لدوام السؤال والتساؤل.. الآن أصبحت وحدى متوحدة فى مهب الريح عارية الظهر خاسرة السند خاوية العناية والرعاية والصح والخطأ والشطب والإعادة والتذنيب والمسطرة ووشى للحيط.. مفتقدة الأستاذ..



أستاذى.. هيكل... محمد حسنين هيكل.. رئيس التحرير ورئيس مجلس الإدارة ومشيّد صرح الأهرام بيتنا وقلعتنا وجامعنا وجامعتنا وملعبنا وحديقتنا ونادينا وصحيفتنا الذى مرت عليه من بَعدك عهود وعقود لكنك من بُعدك كنت راعياً ومُوجهاً وناقدًا وخبيرًا.. وكأنه اليوم الذى جلست فيه أسألك عن الاعتزال الذى أعلنته يوماً لشعورك بالمرض ورجعت فيه عندما مّن اللـه عليك بالشفاء.. أجبتنى: «كل واحد منا عنده ثلاثة أشياء.. عنده عمره الافتراضى، أى زمنه الطبيعى.. ثم ماذا يستطيع أن يساعد به هذا الزمن، وماذا يقدم أيضا لمساعدة عقله.. وأنا من أنصار القول إلى الأمام.. امش طالما أنت قادر على المشي، وانتج طالما أنت قادر على الإنتاج».. ويحضرنى السؤال الملّح عن الممكن والمستحيل لتجيبنى بأن «ليس هناك ممكن مطلق ولا مستحيل مطلق، وإنما هناك فقط ما هو إنسانى، وما هو ممكن فى هذه اللحظة بعدها بساعة يدخل فى دوائر عدم الإمكان، هذا إذا ما كنا نتكلم فى مطلقات وهى ما لا نملكها، أما إذ تكلمنا فيما هو إنسانى فهذا مرتبط بظروف وتوقيت ومناخ، فأنا أعتقد مثلا أن ثورة 52 لم تكن ممكنة إلا فى لحظتها.. اللحظة مهمة جدا لأن المسألة مسألة توقيت وتوافق بين الأشياء والعناصر والعوامل.. نابليون لم يكن ممكنا إلا بعد الثورة الفرنسية.. جمال عبدالناصر كان مستحيلا بدون الفترة السابقة وبالتحديد حريق القاهرة.. البابا شنودة لم يكن ممكنا إطلاقا بدون التجربة الغريبة لاحتجازه فى دير، ولم يكن ممكنا أن يأخذ الاهتمام إلا بذلك.. خلاصة القول إن الممكن والمستحيل ليسا من المطلقات، فإذا كنا نتكلم عنهما كذلك ينتقلان من اختصاص الإنسان إلى اللـه وحده.. لكن الممكن والمستحيل كقضية إنسانية يبقيان معلقين بالظروف والتوقيت والمناخ.. ويبقى كيف يمكن دفع الممكن إلى أقصاه.. وكيف يمكن الوصول بالممكن إلى مداه.. وهذه هى الإرادة الإنسانية، مع فهم التوقيت.. وأعقب بالسؤال فيما إذا كانت تجربة السجن فى حكم المستحيل أم الممكن فيجيبنى الأستاذ الذى ذاق مرارته: «أعتقد أن سجن أى كاتب سياسى فى العالم الثالث قضية واردة.. فى العالم الخارجى ليس هناك سجن إلا لجريمة.. وعندما أعود لوقائع التحقيق السياسى الذى أجراه معى المدعى الاشتراكى لا يتقبل العقل ما جرى.. يسألنى عن رأيى.. إن رأيى حر لا يشكل جريمة ولا يدعو للاعتقال طالما لا يدعو إلى تكوين تنظيم إرهابى ولا أقود مظاهرة.. أنا رجل أعتقد فى أمور أضعها على الورق وأعرضها على الناس ليتقبلوها أو يرفضوها بمقدار ما يجدون فيها من أشياء تهمهم.. لكن مالك أنت وهذه العلاقة.. وهنا أذكر تعبيرا قاله لى أحد أولادى بعد خروجى من السجن.. قال لى: «كانت لك دائما أمامنا وفى عيوننا صورة معينة ويمكن السجن كان لمسة ضرورية لاستكمال هذه الصورة».. وسألت صاحب الفكر السياسى إذا ما كان وقتها متوقعا من السلطات اعتقاله فسرد لى وقائعا تاريخية: «فى عام 80 زادت حملة الرئيس السادات تجاهى بشكل حاد.. وكنت مع زوجتى فى سويسرا وكان معنا هنرى كيسنجر وآخرون وسألنى: ما هى علاقتك الآن بالسادات؟ واقترح أن يكتب له فى هذا الأمر، فرجوته ألا يتدخل بينى وبين رئيسى.. بعدها ذهبنا إلى باريس وسألنى ميتران نفس السؤال، وكانت أول سنة له فى الرئاسة، فقلت له إن الرئيس السادات مشغول الآن عنى بالجماعات الدينية.. لكن حملة السادات زادت وبعدها طلع قانون العيب الذى كان يسميه مستشارو مجلس الدولة «قانون هيكل».. فى هذا الوقت كنت بمحض المصادفة فى زيارة سريعة فى لندن، وحضر لزيارتى أكثر من شخص لنصيحتى بألا أعود لمصر.. كان أول شخص «دنيس هاملتون» رئيس مجموعة التايمز الذى قال لى إنه يستشتف من الحملة ضدى أننى قد اعتقل فى القريب، ولقينى كيسنجر الذى يقيم فى فندق «كـلاريدج» نفسه الذى أنزل فيه وسمعت منه كـلاما مشابها، وأتى «أيان جيلمور» وكان وقتها وزير الدولة بوزارة الخارجية البريطانية وقال لى إن التقارير التى وصلتهم تشير إلى تحرك قريب ضدى، وسألنى أن أبقى لفترة فى انجلترا، فأجبته بأن تأشيرة إقامتى قاربت من الانتهاء فقد كانت لشهر واحد، فقال إنه سيرسل أحد معاونيه لأخذ الباسبور ليعطونى ستة أشهر إقامة.. حقيقة أن حديث الثلاثة جعلنى أعاود التفكير.. بعدها بيومين علمت بوجود الملك حسين فى لندن، ونحن أصدقاء رغم ما هناك من خلافات فى الرأى، لكن ما حدث يومها أن اتصلت به تليفونيا فأجابونى بأنه سيقوم بالاتصال بى.. وبعد قليل تحدث قائلا إنه سيمر لزيارتى فى «الكـلاريدج» وكان بالمصادفة كما قال يصطحب ابنته للطبيب لإصابتها بمرض جلدى بسيط والعيادة بالقرب من الفندق.. وأتى لنتحدث ليقول لى وسط الحديث: إنك ذهبت إلى أكثر من مكان فى الشهور الأخيرة لكنك لم تأت إلى الأردن.. قلت له: الحقيقة ليس لدىّ شغل كثير فى الأردن.. فعاد يقول: تأتى للمكوث معنا قليلا.. قلت معتذرا بجامعات الأولاد، فأجابنى بأن فى الأردن أيضا جامعات.. وأضاف «واللـه أنا شايف مزاج فخامة الرئيس تجاهك على غير ما يرام.. فكر جيدًا ونحن بلد لسنا فى حدة بيروت أو.. أو تعالى فترة فى الأردن».. ورتبنا السفر إلى القاهرة فى الصباح التالى فحقيقة لم أكن مستعدا أبدا أن أكون لاجئا سياسيا.. وحصل السجن.. بعدها بسنة!



ولأنه نجيب محفوظ كان دوماً بمثابة ولعى وغرامى ومقصدى فى أى مما يكتبه فسألت الأستاذ هيكل فيما قاله أديبنا الكبير من أنه عند نشره لروايته «أولاد حارتنا» فى الأهرام كان يحتمى بك لقربك من عبدالناصر وقتها، وتلك الرواية بالذات مُنعت بعدها من مصر، فشرح لى الأستاذ أصل الحكاية بقوله «لم يكن هناك تهديد حتى تكون هناك حماية.. أولا عبدالناصر كان يقدّر نجيب محفوظ وهو يعرف ذلك تماما، ولقد قرأت الرواية ورأيت فيها عملا أدبيا بديعا، وأدركت ما قد تحدثه من حرج، ولهذا وللمرة الأولى فى الأهرام تنشر رواية يوميا لأنى أردت أن أفرغ من نشرها سريعاً قبل أن يتنبه أحد بأن هناك محظورا، وبالفعل بعدما وصلت إلى الجزء الـ40 بدأت الضجة الكبرى، ومع بداية الضجة كانت الرواية قد انتهت.. كل أعمال نجيب محفوظ النقدية مثل (اللص والكـلاب) و(السمان والخريف) و(ميرامار) نشرت فى الأهرام وأنا رئيس تحريره وفى عصر جمال عبدالناصر ودون أن تحذف منها كلمة واحدة».



وعدت «أنكش» الأستاذ بسؤاله عن هجوم توفيق الحكيم عليه؟ فأجابنى مستنكرا: «لم يحدث إطلاقا أن هاجمنى توفيق الحكيم، بل على العكس كان كثير المدح ليّ، بل دائما.. الإشكال الذى حدث بيننا فى فترة من الفترات بسبب كتابه (عودة الوعى)، والسبب فى زعلى منه أن الرئيس السادات كلمنى قائلا: هل تعرف أن توفيق الحكيم يكتب حاجة يهاجم فيها عبدالناصر.. أجبته لا أظن.. وذهبت بدورى أسأل الحكيم فرد بالنفي، وقتها كان الرئيس السادات يهاجم توفيق الحكيم بعبارات الحبر الأسود والحقد الأسود، وذلك لأن الحكيم كتب بيانا مع الأدباء أثناء وجودى فى الصين، ووصل البيان لوزير الإعلام وقتها وكان الدكتور عبدالقادر حاتم، وعند عودتى فوجئت بالضجة الصاخبة حول البيان الذى اتهمنى الرئيس السادات بالعلم به، وهذا غير صحيح فلم يكن لدى أى فكرة عنه.. فى ذلك الوقت قال لى الرئيس السادات عن حكاية ما يكتبه الحكيم من هجوم على الرئيس عبدالناصر.. بعدها بأسبوعين أرسل لى الرئيس السادات فصلا كاملا من كتاب توفيق الحكيم جاءت به المباحث العامة ليقول لى ضابطها هذا هو الذى يقول لك إنه لم يكتب.. فذهبت لتوفيق الحكيم لأقول له أليس هذا ما كتبت؟!.. فجاء رده: هذه حاجة تجريبية.. وكان زعلى أننى عندما سألته لم يقل لى وخبأ عنى، وهذا هو ما آلمنى رغم أنه ذكرنى فى كتابه مادحا أكثر من مرة.. أما ما بداخل الكتاب إذا كان هذا هو رأيه فهو حرُ فيه وأنا لا أعترض.. وعندما كتب «بنك القلق» وقرأت القصة قال لى إنه لا يريد نشرها متخوفا مما جاء فيها.. قلت له لقد كانت عندك الشجاعة لكتابتها، وأنا عندى الشجاعة لنشرها.. وبالفعل تم النشر لتثير غضب المشير عبدالحكيم عامر وقتها الذى أثار ضجة كبيرة فقد كانت الرواية تحوى نقدا لاذعا للمخابرات.. كلمنى الرئيس عبدالناصر يسألنى عنها لأنه لم يقرأها، فقلت له إننى أعلم ما بها من نقد للمخابرات، فقال إن عبدالحكيم ذهب إليه غاضباً وطلب منى أن نحضر إليه معاً أنا والمشير لنسوّى المسألة حتى لا يكون هناك توتر فى الأجواء.. وحتى يحين الموعد أرسلت للرئيس بروفة لما سوف ينشر من الفصل القادم فى «بنك القلق».. والتقينا عنده أنا والمشير عامر فقال لنا الرئيس: أنا لم أقرأ ما كتب من القصة ولن أقرأ الجديد فيها.. وقال موجهاً كـلامه للمشير الذى كان يرى القصة مساسا وتشكيكا فى المخابرات.. قال الرئيس إنه إذا كان توفيق الحكيم قد كتب فى عصر الملكية «يوميات نائب فى الأرياف» فمن غير الممكن أن تمنع له قصة فى العصر الجمهوري.. وأكملنا نشر القصة، ولا شيء حدث رغم تخوف الحكيم.. ولقد كانت هناك بالطبع مشاكل وتجاوزات، لكن كل شيء يجب أن يوضع فى حجمه فى وقته بالمقارنة مع مثيله فى أوقات أخرى.. ولا ينسى أحد أن الأهرام وقتها قد حارب معارك ضد كل التجاوزات.. هناك البعض داخل الأهرام الذين جرى تخويفهم من جانب بعض الأجهزة فى قضايا الرأى، وكان كلهم من داخل الأهرام وليس مكان آخر مثل الدكتور جمال العطيفى الذى كتب عن سيادة القانون واعتقل لمدة خمسة أيام وقلبنا الدنيا.. وحمدى فؤاد اعتقل هو الآخر بسبب نشره لبعض الأخبار.. كان الأهرام يعلم أنه فى معركة مع بعض الأجهزة المتجاوزة، لكننا فى النهاية كنا مع فكرة التغيير، وفكر الثورة».



وكأنه كان استشعارا عن قرب عندما سألت الأستاذ هيكل عما كان من مدى توقعه لفوز الدكتور بطرس غالى بمنصب السكرتير العام للأمم المتحدة، فأجابنى بأنه لم يكن متوقعاً له قبل أن يوضع اسمه فى كشف الخمسة المرشحين عن افريقيا، وأن الرئيس موبوتو رئيس زائير من أشار عليه بالتقدم للترشح، حيث استأذن بطرس غالى القاهرة قبل التقدم.. وفى الوقت الذى لم يكن هناك من يعتقد فى نجاحه كان هيكل يرى أنه سيفوز بالمنصب بنسبة لا تقل عن 90٪ لأنه من الصعب مقارنته بالآخرين، ويعقب الأستاذ باختصار: «الدكتور بطرس متسق مع آرائه.. فى علاقتنا معا نحن مختلفان سياسيا لكن بيننا كثير من الود عندى وعنده»..



وسألته السؤال العويص الذى فحواه أن وفاة عبدالناصر كان خلفها جريمة وأن المخابرات الإسرائيلية قد استخدمت فى ذلك مادة سامة تؤثر فى جسد الضحية عن طريق الملامسة فأجابنى «لا أزال أظن أن الوفاة طبيعية حتى يثبت العكس.. أنا حضرت وفاة عبدالناصر وكنت موجودا إلى جوار سريره وكتبت عن ذلك.. وهناك أقوال بالفعل عن أن المخابرات الأمريكية CIA لديها نوع من السموم يجعل الوفاة تبدو طبيعية، لكنى لا أقدر أقول غير ما رأيته بعينى.. أنا عارف أنه كانت هناك محاولات عديدة جدا لاغتياله، وذلك أمر طبيعى، لكن ما رأيته لا يقيم لدىّ دليلا يدعونى إلى الشك، وحتى أجد دليلا أو وثيقة أو حاجة تجعلنى أشك، فالشك هنا يجعلنى أبدأ على الأقل فى البحث والتدقيق وقراءة الملابسات بعمق.. لكنى حتى الآن ليس لدىّ».



ولم تزل تحضرنى عبارات الأستاذ التى حفظتها عن ظهر قلب لتكون زادى وزوادى عندما استحضره فى غيبته بالسمع والبصر.. قال: «هناك خلط شديد يحاول أن يجعل من الوطنية نوعا من الهيستريا، فالوطنية ليست حفل زار أو حلقة ذكر.. حب الوطن ليس بالكـلام ولكن بالأفعال لناس هذا الوطن.. لست رجلا لكل العصور.. الشعب لم ينهزم ولهذا أسميتها النكسة التى تتعثر فيها وتقع وتستجمع قواك وتقوم، والشعب قد استجمع قواه وعبر..



ويظل صدى ما أسمعنيه يوماً يعيش فى أذنى عندما قالها لى من بعد ما كتبت له برجاء حار بألا يعتزل ويترك الميدان شاغرا.. قالها وعجبت وأعجبت بها عندما قال: «لقد أبكتنى كلماتك».. طيب يا أستاذ هيكل ماذا بيدى الآن وقد اعتزلتنا نهائيا لتترك لنا نحن أمر البكاء!..



[email protected]