أحمد السيد النجار
محمد عبد الهادي علام
الأستاذ هيكل ... كما عرفته
19 فبراير 2016
لواء. د : سمير فرج

مع نسمات صباح يوم الأحد ... وأنا أخرج من محطة مترو الأنفاق فى لندن، عند ناصية حديقة الهايدبارك ... وهو يوم إجازتى الأسبوعية وأنا طالب فى كلية كمبرلى الملكية ... منتهزا هذا اليوم


حيث تكون متاحف لندن مفتوحة مجانا ... خرجت ولمسات برد الشتاء تستقبلنى ... ومعها صوت صبى إنجليزى ينادى Sunday Times ... Road to Ramadan .. Heikal ... تماماً، مثلما نفعل فى شوارع القاهرة، آنذاك ... »اقرأ الحادثة« ... صوت ذلك الصبى يعلن أن صحيفة التايمز اللندنية، أكبر الصحف البريطانية، وأشهرها أوروبياً، تنشر كتاب محمد حسنين هيكل »الطريق إلى رمضان« ... تنشره الصحيفة فى عددها الرئيسي، الأسبوعى ... يوم الأحد. والحقيقة أننى لم أصدق نفسى ... فأنا الضابط المصرى ... الذى يدرس فى لندن ... والذى خاض حرب أكتوبر 73 منذ عام ... والآن هنا ... على مشارف الهايدبارك أسمع من ينادى »هيكل« ... و«حرب أكتوبر« ... ذلك الكتاب العلمي، الوحيد، عن حرب أكتوبر ... ها هو قد وصل إلى العالمية.



وقد استدعى هذا الموقف شريطا من الذكريات مع الأستاذ هيكل ... وعدت عاما إلى الوراء ... لأجد نفسى فى مركز القيادة الرئيسى للقوات المسلحة أثناء حرب أكتوبر ... وكانت أول مرة يحضر هيكل للقاء العقيد صلاح فهمى لتسلم الجزء العسكرى الخاص بالتوجيه الاستراتيجى لحرب أكتوبر ... ليعيد الأستاذ هيكل كتابته بعدها بساعات ... ويتم إيداعه فى ملف وثائق حرب أكتوبر ... بعدما عرضه على الرئيس السادات، والمشير أحمد إسماعيل وزير الدفاع، والفريق الشاذلى رئيس الأركان، واللواء الجمسى رئيس عمليات القوات المسلحة.



وتابعت خطواتى إلى متحف الفن الحديث، سيراً على الأقدام ... فالهواء منعش ... ولندن، يوم الأحد، هادئة إلا من القليل من العربات والمارة. وساعدنى هذا الهدوء على تذكر علاقتى بالأستاذ هيكل منذ طفولتي، بعد ثورة 52. فقد كان ملايين المصريين والعرب ينتظرون جريدة الأهرام المصرية يوم الجمعة ... أما وقد كنت أكبر أخوتى ... وحيث انه يوم عطلة ولن يذهب والدى إلى عمله ... فكانت مهمتى أن أتوجه فى الصباح الباكر من ذلك اليوم لأحضر لوالدى الأهرام ... ليقرأ »بصراحة« ... وهو عنوان أشهر، وأقدم مقالة فى العالم العربى ... وحذوت حذو أبى فى قراءة هذه المقالات ... التى حرص على قراءتها قبل إفطاره ... ومن تفوته فرصة قراءتها فى ذلك اليوم، كان يستمع إلى هذه المقالة على إذاعة صوت العرب ... حيث يذيعها الراديو ... وينتظر العالم العربي، كله، بلهفة تحليلات .. وآراء هيكل العظيمة.



ومرت الأيام ... وتخرجت فى الكلية الحربية ... وانضممت إلى القوات المصرية المحاربة فى اليمن ... فكنا، جميع أفراد الكتيبة، نلتف كل يوم جمعة، فى تمام الساعة السابعة مساء، حول الراديو ... لنستمع إلى مقال هيكل »بصراحة«. وأذكر جيداً مقالاته حول حرب اليمن ... خاصة تلك المقالة الشهيرة »يا جبال صرواح .. رفقا بأبناء مصر« ... وعشنا مع هيكل ثلاث سنوات كاملة قضيتها فى حرب اليمن ... كان لنا هو فيها همزة الوصل من جبال صرواح إلى دلتا نهر النيل.



وعدنا من حرب اليمن إلى هزيمة 67 ... ورغم حبى الشديد للأستاذ هيكل، فإننى تألمت، حقاً، من كتاباته بعد الهزيمة ... لست أنا فقط، ذلك الضابط الصغير، وإنما كل ضباط الكتيبة. ولكن، للأسف، فيما بعد ... عرفنا أن الحقيقة، دائماً، مؤلمة ... وموجعة ... وأننا نسعى دوماً للتفاؤل، والأخبار السارة. ورويداً .. رويداً ... بدأ الأمل يدب فى مقالات الأستاذ هيكل ... ومنه إلى وجدان كل رجال الجيش على ضفاف القناة. حتى جاء نصر أكتوبر 73 ... وكان كتابه هو الوحيد الصادر عن كاتب مصرى له مكانته بين دور النشر فى العالم.



وأنهيت جولتى فى متاحف لندن ... فلم يكن مرتبى كطالب علم فى لندن يسمح لى إلا بهذه المتعة المجانية يوم الأحد. وفى المساء، وأنا أشاهد محطة BBC1 ... كان ثانى خبر فى نشرة التاسعة مساء هو استقبال هيكل فى لندن، بمناسبة نشر كتابه Road to Ramadan ضمن مؤسسة التايمز البريطانية ... وصدوره فى حلقات أسبوعية يوم الأحد. وأحسست، يومها بالفخر ... هيكل فى التليفزيون البريطانى ... إنه الكاتب العربى الوحيد الذى ظهر فى التليفزيون البريطانى ... وعلى أهم محطاته ... وكتاباته فى أهم الصحف البريطانية.



ودارت الأيام ... وحدث ما حدث بينه وبين السادات ... وقبض عليه ... وانتهى زمن »بصراحة« ... وابتعدنا، طويلاً، عنه، حتى جاءت ثورة يناير 2011 ... التى شاءت أن ألتقيه عدة مرات فى منزله المطل على نهر النيل ... وتكلمنا كثيراً ... ونقلت عنه معلومات، وأفكار إلى المجلس العسكرى ... وأعترف، وبكل صدق، أننى لم أر فى حياتى شخصية تجمع هذا الفكر ... الممزوج بخبرة السنين ... وذابت كلها فى بوتقة حب الوطن.



وأذكر أننى تكلمت معه بعد أول لقاءاته مع الأستاذة لميس الحديدى ... وأبديت بعض آرائى المتواضعة لأستاذى العظيم ... التى تقبلها بكل تواضع ... وقال لى »لو سمحت كلم لميس الحديدى ... صديقتك ... وبلغها بالراحة على فى الأسئلة» ... وضحكنا سوياً. وكثرت بيننا المحادثات التليفونية ... للاطمئنان. وطلبت منه نسخة من حلقاته مع قناة الجزيرة، التى تحدث فيها عن تاريخ مصر قبل ثورة 1952، ثم أحداث الثورة يوماً بيوم ... والتى أكملها بتاريخ مصر الحديثة. ويمكن القول بأن هذه الحلقات شاهد على تاريخ مصر الحديث ... وستكون مرجعاً لكل الباحثين ورجال العلم.



رحم الله الأستاذ العظيم ... فخسارته ليست لمصر وحدها، ولكن للعالم العربى بأسره. ويبدو أن قدر مصر أن تخسر العظام من رجالها الأكفاء فى هذه الأيام.