أحمد السيد النجار
محمد عبد الهادي علام
بريد الجمعة يكتبه : احمد البرى
العدو الغامض!
5 فبراير 2016

ينتابنى القلق وتقتلنى الحيرة منذ سنوات عديدة، ولم أجد من يعيننى على الخلاص مما أعانيه من متاعب وآلام، فقررت أن أكتب إليك عسى أن تجد لى مخرجا للوصول الى بر الأمان، فأنا فتاة فى سن الثالثة والثلاثين،


أعمل صيدلانية فى أحد المستشفيات ولى شقيقان يكبرانى بعدة سنوات، وقد وجدت كل شيء حولى منذ صباى غريبا، ويبعث على الدهشة والاستغراب حتى فى أدق تفاصيل حياتنا، والحكاية بشيء من التفاصيل أن أبى جاء الى القاهرة نازحا من الصعيد للدراسة فى كلية الطب، والتقى أمى فى الكلية نفسها، وشاء القدر أن يعملا معا فى نفس المستشفي، وأصبحا يلتقيان يوميا، فزاد ارتباطهما وتزوجا بعد قصة حب، ولم يكن لأبى سكن مستقل أو شقة مناسبة لأسرته الصغيرة، فاتفقت معه والدتى على الإقامة فى الدور الأرضى للفيلا التى آلت إليها هى وأخوتها الثلاثة «ولدان وبنت» بالميراث بعد رحيل أبويهم، والمكونة من ثلاثة طوابق فى إحدى المناطق الراقية حيث يسكن شقيقاها الدورين الأول والثاني، أما شقيقتهم الأخرى فلقد تزوجت وانتقلت للإقامة فى بيت زوجها، وبقى نصيبها فى الفيللا هو نصف الدور الذى سكنته أمي، لكنها تركت المكان كله باعتبار أنها تقيم فى مكان آخر، واحتفظت بحقها فى الرجوع اليه وقت الحاجة!! ومضت الحياة بأبوى بلا طعم، إذ سيطرت أمى على مقاليد الأمور تماما، فهى صاحبة الأمر، تأمر فتطاع وتنهى فيمتثل أبى لإملاءاتها، ودأبت على معايرته وتذكيره بأنه يعيش فى بيتها، وأنه انسلخ من أهله، وليس له أحد يسأل عنه، وهذه حقيقة مرة تغافل أبى عنها، إذ قطع كل صلة له بعائلته، ويبدو أنهم أنكروا عليه صنيعه فقاطعوه، وصار مقطوعا من شجرة، كما يقولون، إذ لم نر أحدا من أقاربنا فى المناسبات الاجتماعية أبدا، وحتى فى الأزمات الصحية والظروف الطارئة التى يتكاتف فيها الجميع غابوا عنا، ولم نعرف الى التواصل معهم سبيلا، ومع الضغوط الشديدة التى مارستها أمى عليه تحاشى المجيء الى المنزل طوال النهار، وأصبح يقضى معظم وقته فى المستشفي، ثم فى عيادته الخاصة، ولا يأتى إلا على موعد النوم، ليواصل فى اليوم التالى هذا النمط المتكرر من الحياة، وكانت أمى تخرج من المستشفى قبله وتأتى الى المنزل مسرعة وتتابع كل همسة فى حياتنا أنا وشقيقيَّ، ومع استمرارها فى أسلوبها الغليظ فى التعامل ابتعد أخوتها عنها وانصرفوا الى حياتهم الخاصة، ولم يعد بيننا وبينهم سوى «التحية العابرة»، واستراحت أمى لذلك، وكثيرا ما كنت استشعر أنها تكره الجميع، أو كأن هناك عدوا غامضا تود الخلاص منه، وشيئا فشيئا أصبح أبى يبيت خارج المنزل معظم الأيام، متعللا بأن «الشغل كثير عليه»، ولم تتنبه أمى لذلك، بل إن واقع حالها وقتها يقول إنها ملكته، ولن يستطيع أن يفعل شيئا هى غير راضية عنه، ومرت السنوات وكبرنا، والتحق شقيقاى بكلية الطب، ثم التحقت بعدهما بكلية الصيدلة، وسرنا نحن الثلاثة وفق النظام الصارم الذى وضعته والدتنا لنا، بعدم الاحتكاك بالآخرين، والتركيز على المذاكرة فقط، وعدم فتح التليفزيون إلا فى وجودها، وفى أوقات حددتها بدقة، والويل لمن يخالف تعليماتها.. أما والدنا فقد تبين أنه تزوج بأخري، وأخفى زواجه عن الجميع، لدرجة أنه أنجب منها ثلاثة أبناء «ولدا وبنتين»، وأنه يعيش مع زوجته الثانية وأولاده منها فى شقة بالحى الذى تقع فيه عيادته، وقد عرفت والدتى بزواجه مصادفة عندما تتبعته بعد خروجه من المستشفى الى منزله، وثارت عليه ثورة عارمة، ومنعته من دخول بيتها، ولم تجد نصائح أخوتها لها بأن تحسن معاملة زوجها، فهى السبب فى انصرافه عنها بتصرفاتها الحمقاء، وحذرتنا من زيارته أو التعامل مع زوجته الثانية، وأولاده منها، ولم يكن بأيدينا شيء سوى أن ننصاع لأوامرها، وساءت حالة أبى النفسية والصحية، ولزم الفراش بضعة أشهر ثم رحل عن الحياة بلا مودعين اللهم إلا نفر قليل من الجيران، فحتى أهلنا فى الصعيد لم يشاركوا فى توديعه الى مثواه الأخير، ويا له من موقف يشيب له الولدان، ولقد خرجنا أنا وأخوتى الى الجنازة نرتجف من هول المشهد، وتذكرنا الحياة التعيسة التى عشناها فى غيابه، وأننا حرمنا من أبوينا، ولم نذق يوما واحدا من السعادة بين أحضانهما مثل كل الأبناء، وكثيرا ما حسدت زميلاتى وأنا أراهن يمشين فى الطرق وقد أحاطهن آباؤهن وأمهاتهن، فالحب والاحتواء والقناعة والرضا والاطمئنان أهم مليون مرة من القصور والأموال، ولكن من يعى ذلك؟



لقد تصورت أمى أنها بضغطها المتزايد والمتواصل على أبي، وتذكيره كل يوم بأنه يعيش فى بيتها، سوف تسيطر عليه، ولن يجرؤ على النظر الى غيرها، فإذا بالعكس هو الذى يحدث، ونكون نحن الضحية لعنادها الغريب، حيث ازدادت شدة وتحكما فى كل خطواتنا وقطيعة لأخواتها، وحتى أختها المتزوجة فاجأتنا بطلبها ميراثها فى الفيللا، وتمسكت به بعد رحيل زوجها، وهو نصف الدور الأرضى الذى نسكن فيه، واجتمع أشقاء والدتي، وأقاموا حائطا فاصلا بنصيب كل منهما، وأصبحنا نعيش فى نصف الدور، وأخذت خالتى النصف الآخر، وأقامت مدخلا خاصا بها.. وكان أخى الأكبر وقتها قد تخرج، وعمل فى مستشفى خاص، ولم يمض وقت طويل حتى استقل بحياته وتزوج بعيدا عنا ولم نعد نراه أو حتى نسمع صوته إلا بين الحين والحين.



وصرت أنا وشقيقى الثانى فى مواجهة أمنا التى لاحقتنا فى كل خطواتنا، وفرضت علينا «ستارا حديديا» أشد قسوة من ذى قبل، ولم نشأ أن نعارضها فى أى شيء، وإذا كان شقيقنا الأكبر قد نفذ بجلده من أسرها وقاطع الجميع، فإننا نأبى أن نفعل مثله أو أن نضايقها، فشقيقى الآخر يرفض بإصرار أن يتزوج ويستقل بحياته إلا بمشورتها، لكنها لم توافق على كل من عرضهن عليها للارتباط بإحداهن، وتشعر أن هناك من يدبر أمرا غامضا لخطفه منها، مثلما حدث مع شقيقنا الذى وجد أنها تغالى فى كل شيء، وكان يردد دائما أنها سوف تدفننا أحياء إذا ظللنا أسرى لأفكارها المغلوطة عن الآخرين، وبصراحة فإن كلامه سليم، فما عانيته ومازلت أعانيه منها، أمر لا يصدقه عقل، فجميع من تقدموا لطلب يدى رفضتهم بلا نقاش، خشية ألا أرتاح مع من سأتزوجه، وأواجه فيما بعد ما سوف يظهر من مساوئه التى يخفيها الشاب عادة عن الفتاة التى يتقدم لخطبتها، وأن الزواج فى حاجة إلى تمحيص دقيق، ويتطلب وقتا طويلا، ومعرفة سابقة بأهل العريس، وهكذا مضى أحد عشر عاما على تخرجى وعملي، وتزوجت معظم زميلاتي، وصار لهن بيوت وأسر وأبناء، وأنا «محلك سر»، بل إننى على المستوى الشخصى لا أجد راحتى فى المنزل نهائيا، ووالدتى موجودة به ليلا ونهارا لا تغادره أبدا بعد أن خرجت إلى المعاش، وليست لها عيادة خاصة تشغلها ولو بعض الوقت، وليس لها أى نشاط، ومنذ معرفتها بزواج أبى ثم بعد رحيله، وأنا ألازمها فى حجرة النوم رغما عني، إذ وضعت فيها سريرين لأنام على أحدهما، وتنام هى على الآخر ولنا دولاب واحد مشترك، وقد انتهكت خصوصياتى تماما، فليست لى أدواتى الخاصة، وحقيبتى التى لا يفتحها أحد، ولا أستطيع أن أنظر فى المرآة أو أقوم بتسريح شعرى مثلا أو حتى تغيير ملابسى إلا على مرأى ومسمع منها، وتبدد حلمى فى أن تكون لى حجرة خاصة فلقد سعيت لتحويل حجرة المعيشة إلى غرفة لى أو حتى اقامة غرفة فوق سطح الفيللا ولكن هيهات أن يتحقق هذا الحلم، ومازلت على هذا الوضع مع أمي، ويبيت شقيقى الأعزب فى الغرفة المجاورة لغرفتنا، وقد تحدثت معه كثيرا فى أمرنا لكنه فى كل مرة يلتزم الصمت، وأضطر أنا الأخرى إلى السكوت، فلا يعلم بسرنا أحد.



أما أغرب الغرائب، فهو أنها مازالت تستخدم «الإريال العادي» لاستقبال القنوات الأرضية للتليفزيون. ولا نستطيع مشاهدة أى قناة فضائية، وحذرتنا من شراء «طبق دش» و«ريسيفر»، وقالت إذا فعلتما ذلك فسوف ألقيهما فى الشارع، ففى رأيها أن الفضائيات لا تقدم شيئا مفيدا، وأن كثيرا من برامجها وأفلامها يؤدى إلى الانحلال الأخلاقي، وفشل شقيقى فى إقناعها بأنه لم يعد هناك وجود يذكر للإريال العادي، وأن كل البيوت تستخدم الدش وأنه حتى البسطاء فى الكفور والنجوع يستعملون «الوصلة» نظير اشتراك شهرى قدره عشرة جنيهات، وهى طريقة ابتدعها البعض لزيادة دخولهم على غير سند من القانون!، وقال لها «يا أمي» إن ما تفكرين فيه شيء عجيب، لكنها لم تدعه يكمل حديثه، وأسرعت إلى «حجرتنا المزدوجة» التى أشاركها المعيشة فيها رغما عني، ونظر إليّ شقيقى قائلا: أنا ممكن أشترى الدش، وأقوم بتوصيله ولكنى أريد أن أحصل على موافقتها حتى تمضى الأمور فى سلام»!



تصور: إلى هذا الحد بلغ تسلط أمى وقسوتها علينا، وهى لا تشعر بأنها تقتلنا، بل تتصور أنها تحارب «عدوا غامضا» يريد أن يسيطر علينا، ويحرمها منا!!.. إننى أخشى أن تسوء حالتى النفسية أكثر من ذلك، فقد أصل إلى مرحلة «الجنون» التى لا يرجى شفاؤها، لكنى لا أدرى كيف أقنعها بخطأ ما تتصوره تجاه الآخرين، وبأن الحياة المستقرة المريحة تقتضى التعامل البسيط والمباشر، وافتراض حسن النية لدى من نتعامل معه، وأن الدش و«الريسيفر» لابديل عنهما فى عالم اليوم، فلقد توقفت بها الحياة عند أفكار وتصرفات عفا عليها الزمن وهى تدركها، لكنها تعاندنا وتعاند نفسها، ثم هل يعقل أن تفعل ذلك وهى الطبيبة المتعلمة، ونحن أيضا أطباء، وبإمكان أى واحد أن يشاهد ما تخشاه من أفلام وخلافه على «اللاب توب» أو «الموبايل»!



لقد تغيرت الدنيا كلها إلا أمى التى مازالت تعيش فى الماضي، الذى لم يعد منه شيء موجود إلا الفيللا التى كرهت الحياة فيها، وإنى أسألك: هل أواجهها أنا وشقيقى ونفعل ما نريد كأمر واقع، وليكن ما يكون؟.. أم أن هناك وسيلة أخرى أفضل لنيل موافقتها وإقناعها بالعدول عن فلسفتها الخاطئة؟ وكيف نتواصل مع أخوتى من أبى الذين لا نعلم عن أمرهم شيئا؟ وكذلك الحال بالنسبة لعائلة أبي.. وهل سيستجيبون لنا إذا طرقنا أبوابهم من باب صلة الرحم؟



لقد بلغ بى العجز مداه، وأرانى مشلولة العقل واليدين والقدمين، ولا أستطيع أن أخطو خطوة واحدة إلى الأمام، فبماذا تشير عليّ؟



ولكاتبة هذه الرسالة أقول:



يستطيع المرء بقليل من الحكمة والحوار الهادئ المستنير أن يكسب من حوله، انطلاقا من قوله تعالى «وجادلهم بالتى هى أحسن»، ويمكنه أن يجعل الآخرين ينفضون بعيدا عنه، ويتحاشون لقاءه أو الجلوس معه اذا أساء معاملتهم، وكان قاسيا فى الحديث معهم ولا يعرف غير إملاء الأوامر عليهم، حيث يقول الله فى كتابه العزيز «ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك».. وهذه القاعدة الربانية فى التعامل ينبغى أن تكون هى السراج المنير الذى نهتدى به جميعا فى أفعالنا وأقوالنا، بل وسلوكياتنا مع الناس فما بالنا لو أن من نتعامل معهم هم الأهل والأقارب، لكن هذه الفلسفة التى تساعد على رأب الصدع وإصلاح ما يتهدم من العلاقات الإنسانية غابت عن والدتك تماما منذ البداية، فظنت أن الجزء الذى تملكه من الفيللا يبرر لها صنيعها غير السوى بزوجها، فراحت تذكره دائما بأنه يعيش معها، وانها صاحبة البيت، ونسيت أن القوامة للرجل، وأنه هو الذى ينفق على الأسرة، ويواصل الليل بالنهار فى سبيل توفير حياة كريمة لأبنائه، وبدلا من أن تؤازره وتشد عضده، اذا بها تفعل العكس.، فظلت النار مشتعلة تحت الرماد، الى أن جاءت اللحظة التى انفجر فيها البركان، ولم يكن هناك سبيل لإخماده، حيث تزوج والدك، وصارت له حياة أخرى فيها زوجة وأولاد.



ومع أننى أتفهم دوافعه ـ رحمه الله ـ الى الزواج الثانى الذى نشد به الراحة والطمأنينة، بعد أن أحالت والدتك حياته الى نكد دائم، إلا أننى كنت أتمنى لو أنه وضع النقاط على الحروف عند ارتباطه بوالدتك بأن يكون السكن فى الفيللا مؤقتا الى أن يحصل على شقة مناسبة، وأن يدفع إيجارا لوالدتك مقابل السكن ويتعامل معها كمستأجر لنصيبها فى الفيللا، وقد يقول قائل: وهل بين الزوجين تقاس الأمور بهذا المقياس؟.. وأرد عليه، بأن هذا هو الأمر الطبيعي، فإذا أرادت زوجته أن تتخلى عن الإيجار، وتضعه فى مصروف البيت، كما تفعل الفضليات، فإن ذلك يقرب المسافات، ويزيل الحواجز بين الزوجين، أما اذا أرادت أن تحتفظ بالايجار لنفسها كذمة مالية منفصلة، فليكن لها ذلك، لكنها لن تجرؤ حينئذ على الخوض معه فى كلام من قبيل ما قالته أمك لأبيك، وكان الأفضل أيضا الانتقال الى شقة أخرى بديلة، ووضع النقاط على الحروف، فالبدايات تحدد دائما النهايات، وكلما كانت نقطة البداية واضحة لا لبس فيها ولا غموض تكون النهايات ناجحة.. هكذا تقول التجارب الحياتية.



وبصراحة، فإننى لا أتحفظ على زواج أبيك الثاني، وإنما لا أؤيد زواجه السري، إذ ان الحقيقة ستظهر، ولو بعد حين، كما حدث بالفعل عندما اكتشفت والدتك زواجه بأخرى وانجابه منها ثلاثة أبناء، فمن حقه أن يتزوج ما دام لم يجد راحته مع أمك التى أحالت حياته الى جحيم بلا أسباب واضحة، ويعذره المجتمع فى صنيعه هذا، حيث انه عانى اهمال أمك وتسلطها عليه، وغاب التفاهم عنهما، وانعدمت سبل الراحة معها، ولا أعتقد أنه تزوج انتقاما منها، وانما سعيا للسكن والمودة، ويبقى الدرس الأكبر بضرورة إعلان الزواج الثانى ومد جسور الصلة بين الأبناء، فهم فى النهاية اخوة، وليعلم كل رجل أن القوامة تعنى القدرة على تحمل المسئولية، ومواجهة المشكلات وليس الهروب منها، فالزواج الثانى شرعه الله للتكافل الاجتماعي، وليس للعقاب والانتقام، ويجب على كل زوج أن يفكر كثيرا قبل الإقدام على هذه الخطوة، إذ غالبا ما يكون الزواج الثانى هو السبب الكامن وراء تشرد الأبناء من كلتا الزوجتين.



أما عن علاقتكم بوالدتكم فإن شقيقك الأكبر قد أخطأ بانصرافه عنها وعنكم، فلم يعد يطمئن عليكم، ولا أن يتواصل معها، فحتى لو أنها تغالى فى السيطرة عليكم، وتخشى أشياء يصورها لها خيالها المريض كحكاية «الدش» اللامعقولة، فإن من حقها عليكم أن تتعاملوا معها بالحسني، وأن تقنعوها بالحوار الإلحاحى بأنها هى كل عالمكم، وأنكم بدونها لن يهدأ لكم بال، وأذكر هنا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما سأله أعرابى : من «أحق الناس بحسن صحابتي، فرد عليه الرسول: أمك، ثلاث مرات، ثم قال أبوك».. فمنزلة الأم عظيمة، وتذكروا قول الشاعر:



أحسن الى الناس تستعبد قلوبهم



فطالما استبعد الإنسان إحسان



فما بالنا لو أن من نحسن إليهم هم أمهاتنا وأباؤنا، كما يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم «ما كان الرفق فى شيء إلا زانه، ولا نزع من شيء إلا شانه».



وأعتقد أنك أنت وشقيقك الثانى لو فتحتما حوارا معها، فسوف تلين، وسيتغير موقفها من «حكاية الدش العجيبة»، وأرجو أن تدرك خطأ تصورها، فليس هناك «عدو غامض» تخشاه كما تتخيل بسبب حالة «الانطوائية» التى عاشتها على مر السنين، وجعلتها لا تدرك أن الدنيا تغيرت، وأن فى الحياة جوانب مشرقة كثيرة يجب أن نحياها، بل إن «الخوف المرضي» الذى تعانيه سوف ينعكس عليكما، وربما عليك أنت بصورة أكبر من شقيقك بحكم أنك موجودة معها طوال الوقت، باستثناء ساعات العمل التى تقضينها بين جدران المستشفي، وأعتقد أنك سيكون فى مقدورك بمرور الوقت أن تصنعى حدودا وفواصل بينكما، تكفل لك قدرا من الخصوصية.



ولتكن لك غرفتك الخاصة التى لا يشاركك فيها أحد، وجربى أن تكتبى لها رسالة قصيرة بأنك تحبينها، وأن تتوقفى عن الحديث معها ولو ليوم واحد، فوقتها سوف تحاول هى الحديث معك بقلب الأم، وستكون الفرصة متاحة لكى تطلبى منها هذا الطلب البسيط، والأمر نفسه بالنسبة للتليفزيون والدش.



وأرجو أن تتجنبى الحديث معها فى فترات الغضب، وعليك بالوصفة النبوية لتفاديه، فلقد نصح الرسول صلى الله عليه وسلم، الغضبان بأن يستعيذ بالله من الشيطان، وأن يسكت ويخرج من المكان، ويكثر من ذكر الله، قال تعالى «فسبح بحمد ربك، وكن من الساجدين».. ويجب أن يطوى الجميع صفحة الماضي، بكل ما فيها من اضطرابات وعداوات، وبدء صفحة جديدة تتواصلون فيها مع إخوتكم من أبيكم، وعائلتى والديكما، عائلة والدك فى الصعيد، وعائلة أمك فى القاهرة، فلا أحد يحيا بمفرده إلى الأبد، وكلى ثقة فى أن المرارات التى ترسبت بالنفوس سوف تختفى ويتلاشى أثرها، وسوف تتفتح الجوانب الإيجابية، وتسير الأمور فى مسارها الصحيح، وستمضى سفينة الحياة بكم جميعا الى المرفأ الآمن بإذن الله.