لطالما شغلنى العرق الذهبى لتاريخ «الإنسان العادي»، فهو الفاعل الأصيل والمفعول به. يتوارى فى كتب التاريخ ليبرز الحكام كأبطال أو كأنذال. وفى صمت تنسحب ذاكرة الأمة إلى أفراد شاء القدر أن يتصدروا المشهد كأن البشر صانعو الحدث كتلة صماء.
فى طفولتى عشت حدثاً غيَّر روح الحياة فى مصر وحوَّل مصائر، وقلب موازين مجتمع عاش لسبعة آلاف عام كمجتمع زراعى يردد المثل الشعبى ( أهى أرض سوده و الطاعم الله).
كان السد العالى حدثاً فريداً فى حياة من عملوا فى الموقع، وبلغ عددهم 34 ألفاً إضافة إلى 1700 خبير روسي، وفى حياة النهر الذى لم نعد نرى دمار فيضانه وغرق الأراضى ابتداء من 1964، وفى واقع الحياة على الأرض حتى الآن وإلى مدى غير منظور. طوفان البشر الذى اجتاح مدينة صغيرة لا يزيد عدد سكانها على 35 ألف نسمة جعل المدينة خلية نحل لا تهدأ. تحولت مصائر من لم يكن لديهم بطاقات شخصية، وحين راحوا يستخرجونها كان البعض منهم له سابقة قانونية، ولحاجة العمل إلى عمالة كثيفة أصدر رئيس الجمهورية قراراً بألا يعتد بالسابقة الأولى. وباتساع حركة التعليم المجانى تعلم أبناؤهم وأصبحوا محامين ومهندسين وارتقوا إلى مناصب عليا فى الدولة. أصبح العامل الزراعى ابن المدينة واكتسب صفاتها وتعايش مع سلوكها، ونسى جريمته الأولى ليصبح مواطناً كامل الأهلية.
وجد هذا العامل لأول مرة السكن بالقرب من مكان العمل والعلاج فى حالة الإصابة وأندية رياضية وسينما ومسرح. ولأول مرة يأتى إليه المطربون والفنانون للترفيه عنه ـ حفل أضواء المدينة ـ ولأول مرة يمنح ميدالية يوم تحويل مجرى النيل، ويجد مدرسة للأبناء وأتوبيسات للنزول من الموقع إلى المدينة والعودة. شهدت حركة التجارة رواجاً غير مسبوق وصعد البعض من طبقات أدنى إلى طبقة أعلى وتنامت حركة المعمار بشكل هائل.
هذا المشروع هو الوحيد الذى تم عليه استفتاء شعبي، فمنذ استطاع «أدريان دانينوس» المصرى اليونانى الأصل أن يقنع مجلس قيادة الثورة بالمشروع فى أكتوبر 1952 بدأت الدراسات بتكليف الشركات الدولية المتخصصة فى السدود «هوختيف» الألمانية و«مارسيليا» الفرنسية ثم البنك الدولى، واستدعت الحكومة المصرية أكبر خبير فى السدود فى العالم الأمريكى «كيرزاكى». بدأت الحكومة المصرية فى عمل ندوات فى المدارس والجامعات والأندية والمصالح الحكومية ومراكز الدراسات والنقابات لشرح أبعاد المشروع وما سينتج عنه من فوائد أو عوارض وكيفية علاجها. وحين بدأ العمل كان كل عامل أو مهندس أو فنى يدرك حجم المشروع ويفهم دوره جيداً.
قال لى أحد العمال الذين شاركوا فى البناء:« كانت كل الناس فاهمة إيه الهدف من بناء السد العالى من خلال أغنية عبد الحليم حافظ، حتى الندوات اللى بتتعمل مكناش محتاجينها. أنا كنت بقبض 12جنيها فى الشهر، فى يوم قالوا نروح نقبض الإنتاج بتاع الشهر اللى فات، فوجئت الصراف بيدينى 60جنيها قلت له أنا لىّ شهر بس. قاللى الكرّاكة اللى انت شغال فيها كان انتاجها عاليا، وحسيت إن المجموعة اللى شغاله فى الكرّاكة من السواق للمساعد للعاملين اللى بيمسكوا الكابل بتاع الكهربا لأن قوته 6000 فولت، الكل عايز الكرَّاكه بتاعتهم تحقق أكبر عمل ممكن».
كان «دانينوس» رجلاً طموحاً لديه الكثير من المشروعات التى قدمها للحكومة المصرية،لكنه لم يلق استجابة. منها على سبيل المثال إقامة محطة لإنتاج الكهرباء من خزان أسوان، وكانت حكومات ما قبل الثورة تعلن فى خطاب العرش أنها ستعمل على بناء محطة خزان أسوان من دون أن تنفذ شيئاً. واللافت للنظر أن الرئيس عبد الناصر فى اليوم السابق لوضع حجر الأساس للسد العالى، افتتح محطة خزان أسوان لتمد موقع العمل فى السد ومصانع كيما بالطاقة الكهربائية. وقدم مشروعات لاستصلاح الأراضى وتوزيعها على صغار الفلاحين، ودعا لإقامة مصنع للصلب.
فى عام 1948 توصل «دانينوس» بالاتفاق مع المهندس الإيطالى «لويجى جاليولي» لوضع تصميمات لبناء قناطر وخزان فى أسوان يمكن أن يختزن كل فيضان النيل، مع دفع مستمر للمياه قادر على توليد ستة عشر مليار كيلو وات ساعة. وقدم «دانينوس» دراساته للمجمع العلمى واتصل برئيس الوزراء ووزير المالية إلا أن أحداً لم يعره اهتماما. بعد قيام ثورة 52 عاوده الأمل، وتردد على مجلس قيادة الثورة، وعرض مشروعه وأحيل المشروع إلى مجلس الإنتاج لدراسته. وجدت لجنة مجلس الإنتاج المشروع أكبر من مجرد دراسة، وبدأت الدراسات تتوالى واتضحت جدوى المشروع وتم اتخاذ القرار بالتنفيذ.
هذا المشروع فرض نوعاً مختلفاً من التعليم. كانت الحاجة ماسة لعمالة كثيفة ولم يكن هناك عمالة مُدرَّبة، كما لم يكن جائزاً تفريغ المصانع من عمالها، أو استيراد عمالة من الخارج فصدر قرار لطلبة الدبلومات الفنية بالعمل فى السد العالى على أن يأخذوا شهاداتهم من الموقع. هذا النوع من التعليم العملى خلق طبقة من الفنيين المهرة اقتربت من مستوى المهندسين، ولأول مرة يعرف العمال تلك الآلة الجبارة «الكراكة»، ومكن التخريم «البوركيشن والبى وان»، وكانت بالنسبة لهم اختراعا، و لم يكن أحد منهم يعرف كيفية قيادتها سوى الخبراء الروس. تم تدريب البعض فى الموقع وأرسل البعض إلى الاتحاد السوفيتى للتدريب.
وهنا نتوقف قليلاً أمام العلاقة بين الخبراء الروس والعمال المصريين. فالعامل الذى لا يقرأ ولا يكتب يستطيع فهم الخبير الروسى بالإشارة أو بكلمة روسية التقطها أثناء العمل أو بكلمة عربية التقطها الروسي. وفسَّر أحد المهندسين العاملين فى السد الأمر بأن:« الروسى زى المدرس الغلبان الأقرب لتلميذه من الناحية الاجتماعية مش من ناحية العلم، فى العلم هو يفوق تلميذه وعلشان كدا هو يقدر يعلمه». وربما كانت العلاقة الدافئة بين الخبراء الروس والعمالل المصريين سبباً فى تكوين طبقة من الفنيين استفادت منها مصر كثيراً فيما بعد. ويذكر هذا المهندس مشهداً لأحد الخبراء :« لن أنسى أحد الخبراء الروس كان بيشرف على تدريب العمال الفنيين المصريين على الرشكته اللى بتخدش لقمة كرسى الضغط لحماية الكرسى من إنه يتحرق. لأن الضغط الكبير والوزن الواقع على اللقمة عبارة عن وزن المولد + العمود + التوربينة تحت + ضغط الميَة الواقع على التوربينة. كل دا يتحول على 14 لقمة. اللقمة دى لو كانت ناعمة قوى ومفيش زيت يسهل حركتها ممكن تتحرق. الراجل دا كنت أشوفه قاعد مقرفص والعمال حواليه يعلمهم، وفين لما يقف يولع سيجارة، يحرق نُصها ويطفى النص الباقي، ويشتغل من تانى ولا يتكلم أو ينطق، فقط يراجع الشغل لمدة وردية كاملة على هذا الوضع».
قلت لنفسي: هذا هو التاريخ الحى المُهدر من ذاكرة التاريخ. وعبر سنتين رحت أسجل شهادات صمتت عنها الكتب، قابلت خلالها عمالا ومهندسين وفنيين وموظفين وكل من استطعت الوصول إليهم ممن عملوا فى المشروع، وكانت شهاداتهم عفوية بشكل مذهل. كل من تحاورت معهم تحدثوا عن السد العالى «ككائن إنسانى حي»،وكانت جملة «أنا ابن السد العالي» افتتاحية لكلامهم جميعا على اختلاف تخصصاتهم. لم أشأ اللجوء إلى نظريات تاريخية أو تحليلات تستخرج الدلالات من التاريخ. كان اهتمامى الأساسى تسجيل الأحاسيس البينية لمشاعر بين العامل والحجر والنهر. العلاقة بين المهندس و العامل والآلة والموقع. توقفت طويلاً أمام عبارات قد تبدو عابرة،و ربما عاطفية. فلم أرها هكذا لأن دلالاتها الإنسانية والتاريخية تتجاوز العابر والعاطفي.
توقفت أمام جملة لأحد العمال، جاء للعمل فى السد العالى وهو طفل ضمن عمال مقاول الباطن. قال:« رحت اشتغلت فى السد لأن كان نفسى اشترى قميص. فى الوقت ده كان القميص بربع جنيه ويوميتى ربع جنيه بياخد منها المقاول قرشين صاغ. كنا بنقبض كل 15 يوما. فى أول قبض اشتريت كل اللى نفسى فيه وبقى معاى فلوس، بس الأهم إن أبوى بقى يعاملنى كراجل بعد ما كنت مُهملا». وأضاف : «تعرف لما اشتغلت فى السد أخواتى البنات عرفوا الألوان وسألته ماذا تعنى؟، قال: يعنى الفقيرة تقضى السنة كلها بجلابية سودة».
حدثت إصابات كثيرة فى موقع العمل ومات كثير من العمال. ذات مرة انهار سقف النفق وسحق كل من كان بداخله، ولا يزال فى جسم السد بعض أشلاء العمال. وهناك إصابات حدثت نتيجة عدم التزام العامل بعامل الأمان فى أثناء التفجير. ويحكى أحد العمال عن الإصابات والموت: « كان فيه عمال أول ما يسمعوا صفارة الإنذار يروحوا يستخبوا ورا الحجارة اللى حتنفجر، أو يستخبوا فى جردل الكراكة اللى حتنزل عليه الحجارة. وفيه ناس كانت تضربها عربية سريعة،وواحد يكون نايم تحت اللودر وهو راجع يهرسه، واحد يكون نايم فى عربية من عربيات قطار الرمل اللودر يشيل الرملة ويدلقها فى العربية يندفن تحت الرمل. وساعتها كان فيه كلام متداول مثل «المرحوم كان غلطان»، هو صحيح الموت له رهبة، لكن هناك مثل يقول «ميتة الجماعة عُرس». كنت أتفرج على واحد يشيله الإسعاف ميت أو مصاب والشغل يستمر. يعنى الشغل أقوى من الموت، وأقوى من الجرانيت والبرد والحر».
والمتعارف عليه أن المشروعات الكبرى لها نسبة خسائر بشرية لابد منها، إلا أن الخسائر فى السد العالى لم تكن كبيرة. وكانت الرعاية الطبية التى يلقاها المصاب كفيلة بإنقاذ حياته فى كثير من الأحيان. ويحكى أحدهم:« كان الاهتمام بالعامل المريض غير عادى،أذكر سنة 1967 كان فيه خليط أسمنت بيصبوه على الأنفاق، الأسمنت دا بينزل على خوص. وكان فيه فنى معاه مسدس فيه مسمار يطلقه يخش فى الخوص ويمسك علشان يبقى زى جانش. وهو بيضرب الطلقة مدخلتش فى الخوص والأسمنت، يبدو جات بعيد فصدت وضربته فى دماغه المسمار دخل دماغه وقفل. نقل هذا المريض بالطائرة للقاهرة، الجراح طلب وقتها 2000 جنيه فقالوا له خد شيك على بياض. الطبيب استدعى زميلله من لندن وتم اجراء العملية خلال 3 أيام وانتشال المسمار ومازال حيا يرزق».
كان العمل فى السد العالى منظومة متكاملة فيه العمل مقدس وفيها الترفيه والرياضة وحتى الغذاء. يحكى أحد العمال:« كنت أروح ساعة الغدا أدفع 3 صاغات ويدينى الموظف تذكرة، واخد صينية مقسمة عيون وأمر على الراجل بتاع الخضار وبعدين أرز و حتتين لحمة أو ربع فرخة، والتانى يدينى الفاكهة والعيش ونقعد ناكل على الترابيزة، الوردية كانت كلها عمال ومهندسين وحتى لو فيه ضيوف ياكلوا معانا». أما عمال المقاول ــ وكان هناك الكثير من مقاولى الباطن يستخدمون عمالاً باليومية ــ فقد كانت لهم كافيتريات منتشرة فى الموقع بها كل أنواع المأكولات والمشروبات.
يحكون عن وزير السد العالى « صدقى سليمان» الذى نسف الروتين الحكومى تماماً. كانت له سلطات رئيس الجمهورية بحيث يتصرف بشكل فورى فى أى احتياجات تخص العمل متجاوزاً عراقيل البيروقراطية المزمنة. يحكى أحدالعمال:« مكنش له وقت معين يمر فيه، ممكن تلاقيه الفجر فى النفق العمال يقولوا له انت الريس تؤمنا فى الصلاة، وممكن الضهر أو العصر ممكن تبص وراك تلاقيه قاعد على كاوتش عربية بيتناقش مع المهندسين. ولما يسافر القاهرة كان يدِّى تعليمات إن أى حد جاى من السد العالى يستأذن من السكرتارية ويدخل فورا، مفيش حاجة اسمها انتظار. لأن فى المرحلة الأولى بالذات طبيعة العمل كانت بتتغير بشكل يومي، اللى الناس تشوفه فى شهر من الشهور ممكن يلاقوه اختفى أو غرق، الشغل كان 24 ساعة.
فى ذلك الزمن، لم يكن العمل من المكاتب، كان تعبير الموقع كأنه ساحة حرب حقيقية أمام الزمن والانجاز، وكان اختيار شخصية الوزير يمر باختبارات دقيقة. فأى زمن نعيش الآن؟