أحمد السيد النجار
محمد عبد الهادي علام
تركيا أردوغان والأحضان الإسرائيلية
28 ديسمبر 2015
د. حسن أبو طالب

مر إعلان تطبيع العلاقات التركية الإسرائيلية قبل أسبوعين بعد أزمة استمرت خمس سنوات، مر الكرام رغم ما فيه من دلالات سياسية واستراتيجية عميقة بالنسبة لأنقرة وتل أبيب بصفة خاصة، وللتحولات السياسية المتسارعة فى المنطقة بشكل عام. وكلا الأمرين يهمان مصر بدرجة كبيرة. والظاهر، أو لنقل إن التفسير البسيط لمثل هذا التحول فى العلاقة التركية الإسرائيلية يقع فى وجود تحديات تبدو مشتركة بين البلدين وعنوانها الأساسى مواجهة تنظيم داعش والوضع المتأزم بشدة فى سوريا، وتدهور العلاقة التركية الروسية بعد إسقاط الطائرة القاذفة الروسية وما تبعها من عقوبات اقتصادية وتجارية أقرتها موسكو بحق انقرة لم تصل إلى حد وقف إمدادات الغاز الروسي، ولكن الاحتمالات واردة مستقبلا. والسببان متكاملان غير أنهما لا يفسران هذا التحول التركى بشكل كاف، لاسيما أن سمعة أردوغان فى وقت سابق بنيت على أساس دفاعه المستميت عن حقوق غزة وحكم حماس لها، وكذلك وقوفه مع تنظيمات المعارضة السورية بكل أطيافها السياسية والعسكرية اعتقادا منه بأن ذلك كفيل بإسقاط النظام السورى فى أسابيع أو أشهر محدودة، وهو ما لم يحدث بل جاءت التطورات الأخيرة لاسيما بعد التدخل العسكرى الروسى لتقلب الأمور رأسا على عقب وتضع رهانات أردوغان السورية فى مزبلة التاريخ.

سقوط الرهانات التركية فى سوريا أكد عدة نتائج، أولها أن هناك حدودا لقدرة تركيا على تغيير الأوضاع فى بلاد مجاورة مهما وظفت الدولة التركية من إمكانات سياسية ومالية ودعائية وعسكرية، وثانيا أن ما ينطبق على فشل انقرة وأردوغان فى الحالة السورية ينطبق بكل قوة ووضوح على رهاناته الخائبة بشأن مصر بعد 30 يونيو 2013 وليبيا وغيرهما. ويطول الأمر أيضا مغامرته الأخيرة فى العراق ومحاولات إقامة وجود عسكرى دائم على أجزاء من الأرض العراقية بما كشف نيات تركيا أردوغان الحقيقية فى التمدد الجغرافى فى العراق لأغراض تتعلق بمواجهتها العسكرية مع حزب العمال الكردستانى المتصاعدة منذ أغسطس الماضى والتى أنهت تماما كل الاتصالات السياسية وغير السياسية مع قيادة الحزب ومع مجمل الحركة الكردية، بما فى ذلك حزب الشعوب الديمقراطى الذى يقبل العمل بقواعد الدولة التركية كنوع من الجهاد السياسى المشروع لتغيير واقع الأكراد سلميا، وكان قد حصل على 13% من اجمالى أصوات الناخبين فى انتخابات يوليه الأولى التى لم يفز فيها حزب اردوغان إلا بنسبة اقل من 40% ، وهو ما لم يرض به أردوغان وحزبه الحاكم، فقام بحملة تأديب للناشطين الأكراد السلميين، تبعها باغتيال رموز الحركة الكردية السلمية مثل نقيب محامى ديار بكر فى 30 نوفمبر الماضي، وتكميم أفواه الصحفيين بزعم أنهم يناصرون الإرهاب، وهم الذين ينادون بحقوق الإنسان للأكراد وفق الاتفاقات الدولية وتعهدات الحكومة التركية للأوروبيين، والذين كشفوا علاقات الحكومة التركية مع داعش تسليحيا وعبر شراء النفط المهرب وتطبيب الجرحى من قيادات داعش الإرهابيين فى المستشفيات التركية الرسمية. وصاحب ذلك حملة عسكرية كبرى فى المدن الكردية فى جنوب شرق البلاد مطبقا حظر تجول وحصارا شديدا للعديد من أحياء المدن والقرى وعزلها عن بعضها، واعتقال الشباب الأكراد وقتل العديد منهم فى مواجهات مع مسلحين رأوا ان مواجهة هذه الحملة الشرسة عسكريا لا يأتى إلا عسكريا رغم فارق القوة والتسليح والعدد. وفى ظل هذه التراجعات فى أحوال المناطق الكردية زادت عمليات فرار الأهالى إلى مدن فى الوسط والشمال بحثا عن الأمن النسبي، وزادت معها عمليات التفريغ السكانى المقصودة، كل ذلك فى ظل تصريحات ومواقف رسمية عبر عنها أردوغان ورئيس وزرائه بأن هذه الحرب لن تنتهى إلا بالقضاء على أخر مسلح كردي، وهو ما يعنى صراحة إعلان حرب أهلية ممتدة فى المناطق الكردية، تعيد ذكريات التسعينيات الأليمة لعل ذلك ينهى ما تعتبره تركيا تهديدا وجوديا لها باحتمال زيادة الدعوات المنادية بالانفصال للأكراد خاصة فى ضوء نجاحات مجموعات الأكراد المسلحين فى كل من سوريا والعراق على مواجهة تنظيم داعش كما حدث فى مدينتى عين كوبانى بسوريا وسنجار بالعراق. والتهديد بالتهديد يذكر، جاءت تصريحات قيادات فى حزب العمال الكردستانى من جبال قنديل وغيرها بأن الحرب هذه المرة ستكون أسوأ من سابقتها، ستمتد إلى الداخل التركي، خاصة فى ضوء خروج أجيال من المقاتلين الشباب الأكراد لا يتقيدون بأوامر الحزب، والذين يعيشون حياة بائسة ولا أمل لديهم، ويرون أن الأمر هذه المرة لا يعرف الوساطة أو السياسة، وكما سيأتى إليهم الجنود فى ديار بكر وغيرها، فهم بالمقابل سيذهبون إلى داخل المدن التركية، وبالتالى فمن المرجح أن تتوسع رقعة المواجهات، ولن تحصل تركيا على الأمان الذى يبشر به أردوغان شعبه بعد أن حصل على غالبية مريحة تتيح له الحكم منفردا.

هذه هى تركيا الآن التى فشلت فشلا ذريعا فى تطبيق سياستها السلامية التى بشرت بها المنطقة قبل عقد، سياسة أدعت تصفية المشكلات مع الجيران، فإذا بها تنتهى إلى تحولات وتقلبات بائسة أسالت الدماء فى أكثر من بقعة وبلد بما فى ذلك تركيا نفسها، والتى أثبت رئيسها أنه بقدر كونه براجماتيا يسعى وراء مصالحه الشخصية قبل مصالح بلاده وفق تقديرات ثبت خيبة معظمها، فأثبت أيضا أنه لا يقيم وزنا للمبادئ التى يتشدق بها عن حرية الشعوب وحقها فى المقاومة للمحتلين، وإذا به يجسد ذلك ثانية فيما يعرف الآن بتطبيع العلاقات مع إسرائيل، وهو الاتفاق الذى اشترطت فيه أنقرة لذر الرماد من العيون أن تقوم تل أبيب برفع الحصار عن قطاع غزة، وهو الشرط الذى رفض جملة وتفصيلا، واقتصر الأمر فى النهاية على تعزيز العلاقات ووقف الدعاوى القضائية التركية ضد الجنود الاسرائيليين المتورطين فى حادثة السفينة مرمرة قبل خمس سنوات نظير تعويضات، وأن يتم بحث استيراد الغاز من إسرائيل، وتوسيع العلاقات التجارية وصادرات السلاح بين البلدين. وعلى الذين ينظرون لتركيا باعتبارها بلدا داعما لمصالح عربية عليا أن يعيدوا التفكير قليلا فى تقويمهم لتقلبات أردوغان التى وضعت بلاده على مشارف حرب أهلية ضروس، بعد أن صدر الكثير منها إلى دول عربية عديدة من قبل، وأن يتريثوا قليلا فى الاعتماد على أى دعم تركى مفترض قد يسهم فى تهدئة الوضع السورى أو محاربة داعش الإرهابي. فهذا لن يحدث أبدا.