أحمد السيد النجار
محمد عبد الهادي علام
فرقع لوز
11 ديسمبر 2015
نبيل عبد الحميد

وتتشرب عيناي معالم المكان التي كانت‏.!‏ ويتراءي لي صخبهم في وسعاية الجرن الشرقي‏.‏
يتصارعون ويتضاحكون وينفضون تراب الأرض عن عرق الأبدان‏.!‏ شقاوة العيال في صهد الظهيرة تهد الحيل وتقطع النفس‏.!‏


ويجعر الواد أبو طرفاية بصوته المسلوخ.

يا عنكب شد وأركب.

ويهيج بنا الصخب طائشا متدافعا في عشوائية.

والمحها لابدة بمفردها عند رأس الجسر.

تراقب لعب الصبيان بعيون لامعة متوثبة.

تتصادم عيني بعينها فلم تستطع سحبها.

أتكاشف في تلقائية رفرفة القلب تلاغي ابتسامتها في عذوبة.

أومئ لها فيربكها تردد أنثوي يبزغ علي استحياء.

أجري بكل قوتي فتلاحقني بكل قوتها.

نزوغ من لعب العيال ونطير إلي الغيطان.

نتخاطف توهج الخدود وخفقات القلوب ونطير.

ونظل نطير والبراح يتمدد ويتسع بنا.

يموج في أحضان خضرة تملأ الدنيا. يتسرب بنا بين أحراش القصب. تسابق خشخشات أوراقه كركعات ضحكاتنا. تهرس أقدامنا أحواض الحلبة الطرية. تغوص بنا في بطن الطين المسقي.!

وأخيرا أراها هناك.

تفرح عيني وتطير وتحط عليها.

أراها شامخة متعاجبة كصدر الغازية.

متمايلة بأوراقها علي حافة الترعة الشرقية.

متعافية بجدائلها الزاحفة إلي مجري الماء.

هافة بميوعة أغصانها نسمات الجو الحريرية.

توته توته بدأت الحدوتة..

توته توته حلوة واللا ملتوته.!

وأنسلخ من جلبابي في رعونة طائشة, قافزا إلي بطن الترعة.

ترعشني قشعريرة الملامسة وتشكشك بدني.

وتتراءي لي نظراتها من بين قطرات الماء.

بللورة سحرية بألف وجه ووجه.. متردد ومرعوب ومتشوق.!

وأندفع وأغوص وأصارع الماء في حركات استعراضية.

ويغالبها الخجل فتعطيني ظهرها وتنكمش في نفسها.

أرشها بحفان الماء فتثور وتضحك وتضرب الأرض بقدميها.

تنفض جلبابها المبتل متوعدة في انفعال.

أما تطلع.. بس أما تطلع.!

أتمادي في حصارها بحفان الماء المتلاحقة.. مرة.. ومرة.. ومرة.!

تتركني وتجري مبتعدة نلاحقها ضحكتها السكرة.

تتوقف وتلتفت في تحد.

تندفع عائدة بكل قوتها وتقفز إلي الماء.

تكتم صرختها وتبحث بيديها وتشب بقدميها وتشهق بكل صدرها.

أسرع إليها وأمسكها وأحرص عليها.. أحرص كل الحرص عليها.!

أنا وهي في الترعة.

وحدنا أنا وهي وعفريت التيار الواعر يستفرد بنا ويعبث علي هواه.. مناوشا متسللا في جرأة.. ملامسا أشياء نا بطريقته الخاصة.. تائها بنا في دنيا غير الدنيا.!

. وهزتني الرجرجة العنيفة وصادمت رأسي بسقف السيارة فخطفتني مما كنت فيه.

انتبهت إلي عراك العجلات مع وعورة المطب المشاكس في وسط الطريق.

الطرق الزراعية المرشوشة بالجردل كانت علي أيامنا أفضل من الطرق الإسفلتية الحديثة.. آه يا زمن.!

وعادت الحسرة تسري بداخلي وأنا أراقب ما حولي.. ما أراه الآن!.

فلم يعد هناك براح خضرة ولا نسمة هواء ولا ترع جارية ترطب النفس وتريح العين وتشكل معالم قريتنا.!

أحقا هذه قريتنا التي كانت ثم أصبحت.؟!

أهكذا اجتاح المعمار الأسمنتي كل شئ.؟ اقتلع كل شئ؟.

التهم الأخضر واليابس وخرب معالم المكان؟

تاركا من خلفه البوار وكتل الخرسانة وأكوام الطوب والزلط والرمل وشكاير الأسمنت وأسياخ الحديد.!

لا فائدة.. فعلا لا فائدة بعد أن اغتصبت كتل المسلح بكارة الأرض وخصوبتها وتركتها كالبيت الوقف كما يقولون.

انحرفت عن طريق القرية لأركب طريق القاهرة السريع.

حرارة الجو وشريط الإسفلت وركود الهواء زادوني خمولا وضيقا.!

لا أعرف لماذا اخترت هذا الوقت بالذات للسفر؟.

الإسفلت يئز بإطارات السيارة في رتابة مملة والصهد يتراكم علي زجاج السيارة والرطوبة تعتصر الجو في ندف ضوئية متداخلة.

خلعت النظارة ومسحتها لأستوضح الرؤية.

كان هناك شئ كالح اللون يرابض في نهر الطريق.

ما هذا؟ لم أتبينه جيدا وإن بدا كخيال المآتة فاردا ذراعيه.

هل يضعون خيال المآتة هكذا علي الطريق السريع؟..

حاولت بآلة التنبيه ولكنه لم يستجب.. لم يتحرك.. لم يتزحزح من مكانه.!

انحرفت بالسيارة قليلا لكي أتفاداه.

هاجت ذراعاه ملوحة مرتعدة وهو يصر علي اعتراض طريق السيارة في استماتة.

ضغطت الفرامل في ارتباك قبل أن أصطدم بهذا الشئ.

ووجدتني أدفع رأسي خارج الشباك ساخطا لاعنا.

تحرك هذا الشئ متقافزا كالضفدعة وفتح باب السيارة وإرتمي إلي جواري في سرعة مذهلة وصفق الباب بعنف.!

تجمدت شاخصا لحظات فقد كانت المباغتة أسرع مما أتوقع.

- إطلع يا سطي.

لاحقني صوته خشنا آمرا وهو منكس الرأس إلي تابلوه السيارة.

زعقت فيه مستنفرا غضبي.

- إطلع يا سطي.؟

من أنت وماذا تريد وما الذي...؟

ورفع وجهه يصادم وجهي. بدت ملامحه جادة معبأة بالقلق والتوجس. حاجبان كثيفان ينفران من أسفل كوفية كالحة تزم الرأس في إحكام, وشارب متهدل علي الفم الكبير غليظ الشفتين, ولحية هيش متشابك من الأشواك الجافة, وأذنان مروحيتان مشرعتان للأمام.

- قلنا إطلع ألا تفهم.؟

سيطر التردد علي رأسي فزاد إرباكه. هل أطاوعه وأتحرك.؟

أم أهيج فيه كاشفا له العين الحمراء.؟

وهل أنا عندي بالفعل هذه العين الحمراء.؟.. شئ مشكوك فيه.!

إجتاحتني رائحة الحرام الوبر الذي يلف كل جسده.

عفونة قبر تستثير القئ.!

تحركت بالسيارة في غير إرادة.

لا أعرف لماذا توقفت له أصلا.؟!

فالرجل منظره لا يطمئن وطريقة كلامه عدوانية.!

ورحت أختطف النظرات إليه من مرآة السيارة.

لا أعرف كيف طاوعته وتحركت هكذا في بساطة.؟

يبدو أنني خفت منه.

حجمه ضعف حجمي علي أقل تقدير وقد يكون حاملا سلاحا تحت الحرام وأنا وهو وحدنا علي الطريق ولا أثر لمخلوق.. ويعني العقل زينه علي أي الأحوال.!

سألني عن طريقي.؟ إلي أين أنا ذاهب.؟ وعما إذا كان يمكنه أن يركب معي.؟

ورحت أبتلع غيظي.. فهو راكب بالفعل معي.. فرض نفسه في بجاحة وقحة وركب في المقعد بجواري وأمرني بالتحرك.

الأدهي من ذلك قوله إطلع يا سطي.!

هل شكلي أنا شكل الأسطي.؟

عموما فنحن نقترب من كشك المرور وهناك سأعرف كيف أتصرف معه.. كيف آخذ حقي من هذا الجلف.

عاد يسألني عن وجهتي فأجبته في تأفف بأنني نازل مصر.

ارتاحت ملامحه وأرخي الحرام عن كتفيه.

بدا الرجل عاريا يلف الحرام علي اللحم.

- يا سلام أنت ابن حلال.! ننزل مصر علي خيرة الله.

قالها وهو يضع شنطة بلاستيكية أمامه علي أرضية السيارة..

ويأخذ راحته في المقعد.

- فعلا ارتحت لك أول ما شوفتك.. إنسانيتك وصراحتك.. يعني.!

قالها وهو يربت علي كتفي بيده الكبيرة ويحملق في وجهي بعينين متسعتين.. ثم يسألني إذا كان معي سيجارة.؟

أخبرته أنني لا أدخن ولا أطيق رائحة الدخان.!

بدا صوته مغايرا وهو يطلعني علي شئ خطير.. فقد قتل ثلاثة أنفار منذ قليل.!

أحسست بسخونة تهيج في جسدي وجفاف يسري في حلقي.. ثلاثة أنفار.؟ قتل ثلاثة أنفار مرة واحدة.؟

معني ذلك أنه قاتل قتله كما يقولون.!

رجل محترف القتل واصطادني في طريقه.

أتراه يريد أخافتي.؟ مجرد إخافتي.. ليستولي علي ما معي.. أو مثلا يأخذ السيارة أو.. أو ماذا.؟

المهم كيف أتصرف الآن.؟

هل أوقف السيارة وأفتح بابها وأنطلق جريا.؟

هل أبادره وأطيح فيه وأضربه بأي شئ.؟

وهل أي شئ يمكن أن يؤثر في هذا الكائن الهمجي.؟.. ثم إن يده وحدها يمكنها أن تقاوم كل الأشياء.!

سألني عن زجاجة ماء فناولته زجاجتي صاغرا.. وأنا أراقبه في توجس من خلال المرآة.

أعاد الزجاجة فارغة بعد أن أتي علي ما فيها بسرعة رهيبة.

وبعدها مع هذا الحيوان.؟

وزاغت عيناي في أنحاء المكان.. لا أحد هنا أو هناك.. لا أحد علي الإطلاق.!

أين الناس.؟ أين البشر.؟ أين نحن بالضبط.؟

بدا صوته حزينا ينوح بالأسي.. أنهم كانوا يستحقون الذبح بالفعل فذبحهم.!

أمر الله يا خال.!

ثم فاجأني مستشهدا إن كنت معه في هذا التصرف أم أن لي رأيا آخر.؟

استنجدت بضحكة مجاملة قد تشفع لي عنده.. فقد كنت كالأطرش في الزفة.. وسألته مغيرا مجري الحديث..فإلي أين يريد أن يذهب بالضبط.؟

أخرج يده من الشباك ومال بصدره يتلقي الصهد المندفع للداخل ويتشممه بصوت مسموع.

- بلاد الله لخلق الله يا خال.!

قالها وهو يلقي برأسه إلي الخلف مسبلا عينيه يقاوم النعاس.

أين تراه يخبئ السكين التي ذبح بها الثلاثة أنفار.؟

هل ما زالت معه.؟

وماذا يوجد في الشنطة البلاستيك المستقرة بين رجليه.؟

ما هذا.؟ رجل خشبية.؟ الرجل برجل خشبية.؟

رجله اليمني قطعة خشب تحوطها تلبيسة معدنية.!

هدأ صدري وارتاحت الأنفاس فيه بعض الشئ.

معني ذلك أن هذا السفيه لا يستطيع أن يلاحقني إذا ما فاجأته وجريت مبتعدا.

أكيد لا يستطيع أن يطولني وهو يحجل بالرجل الخشبية.

زعق فجأة وهو يتطلع ناحية الجبانة الكامنة بين التلال.

- حاسب عندك.. دس فرامل.. أربط بسرعة.!

اضطرب قلبي متوجسا وأنا أدوس الفرامل.. بينما يده الكبيرة تنتزع المفتاح من تابلوه السيارة في شراسة.

انسلخ من الحرام بسرعة وتركه مكوما علي المقعد ونزل ممسكا بفأس صغيرة في يده.

كان عاري البدن إلا من سروال طويل متسخ ومتهدل يستر نصفه الأسفل.

التقط الشنطة البلاستيك وأمرني بالنزول من السيارة.

- إمشي أمامي يا خال.

ملوحا ناحية الجبانة الكامنة هناك.

تخشب حلقي وتفككت مفاصلي.. وزاغت عيناي.

أيأخذني إلي الجبانة.؟ لا شئ أمامي سوي شواهد القبور المصلوبة في الشمس. لا شئ علي الإطلاق يتحرك أو يحدث صوتا أو حتي يتنفس. أين البشر والشجر والحيوان والطير.؟

هل تجمد العالم هكذا فجأة من حولي.؟

أيقنت أن الرؤية قد اتضحت والمسائل انكشفت علي حقيقتها.!

هو يأخذني إلي المقابر ليقطع رأسي بهذه الفأس ثم يدفنني في الرمال الملتهبة. أو لا يدفنني من أصله.. فلماذا يكلف نفسه عناء الدفن ووجع الدماغ.. فقد ذبح بالفعل ثلاثة أنفار ورابعهم علي وشك اللحاق بهم.. فأين المشكلة إذن.؟

وبعد لحظات سيكون طائرا بالسيارة وبكل ما أملك إلي حيث يشاء.!

معقول جدا.. كل الشواهد تؤكد ذلك.

ليس أمامي إذا سوي المجازفة بالفرار المفاجئ.

الفرار بجلدي بكل قوتي ويا روح ما بعدك روح.!

لن أعطيه فرصة اللحاق بي وهو يحجل هكذا برجله الخشبية.

فاجأني فانتبهت لذراعه الثقيلة ترتمي علي كتفي وتحوط رقبتني.

بعرقها النتن.!

أتراه أحس بما يدور في رأسي.؟

تساءل وهو منكس الوجه يرشق رجله الخشب في الرمال الثقيلة وينتزعها في عناء.

- هل يجوز أن يصلي النفر منا علي نفسه.؟

ولم أفهم ما يقول.. فمن يصلي علي من.؟

أيعني مثلا أن يجعلني أصلي علي نفسي قبل أن يقتلني.؟

وهل يعبأ هذا القاتل الجلف بموضوع الصلاة علي الميت.. خاصة بعد أن يذبحه بيده.؟

الحل الوحيد أن أفاجئه وأتملص من تحت ذراعه.

هل أستطيع الإفلات من هذه الذراع الأخطبوطية المحكمة حول عنقي.؟!

أنتزع نفسي وأطير في أي اتجاه.

ذراعه قوية ومحكمة القبض علي عنقي.. ولكن لا مفر.!

لابد أن أغامر وافعلها.. أستجمع كل ذاتي وأفعلها.

علي الأقل أنال أجر المحاولة.

وقف بي محاذيا لأطلال قبر متهالك.. مستكين تحت شجرة السنط الوحيدة في المكان.

قال في خشوع.. السلام عليكم دار قوم مؤمنين.. وراح يتمتم بقراءة الفاتحة.

كنت أراقبه في ذهول وأنا أطاوعه وأتمتم بالفاتحة.

لا أعرف من أين جاءتنا هذه النسمة الطرية. كانت رائحتها مختلفة تماما عن رائحة الجو من حولنا.

ورحت أتلفت متوسلا للمكان.. فإلي أين يمكن أن أفر وأختبئ بين المقابر.؟

ولكن المشكلة أن مفتاح السيارة معه.!

لا يهم السيارة وكل ما فيها.. المهم أن....!

ورأيته يخرج جبيرة تشبه المومياوات المحنطة من الشنطة البلاستيك.

كانت تشبه الساق بالقدم البشرية.

وضعها علي الأرض في أسي وظل يربت عليها ويتمم هامسا.

رأيت في عينيه ملامح التوسل وهو يمسكني ويتراجع بي قليلا خلف الجبيرة المتوسدة الرمال.

الجبيرة ملفوفة بطريقة فائقة البراعة تدل علي خبرة فاعلها.

- توكل علي الله وصل بنا صلاة الجنازة.

تعلقت عيناي بوجهه الساهم للحظات.. ثم رنت إلي الجبيرة المستكينة أمامنا.. فعلي من بالضبط يريدني أن أصلي.؟

- صل يا خال الضرورات تبيح المحظورات.

قالها وهو يدفعني للإمامة في نفاد صبر.

ووجدتني أتجرأ عليه محتجا.. فعلي من أصلي صلاة الجنازة.؟

أين هو الميت الذي سندفنه.؟

أمسكني وضغط علي يدي في انفعال.. وتردد صوته متأسيا.

فها هو الميت أمامنا.

هذه الجبيرة الملفوفة هي رجله المقطوعة.!

هي جزء من بدنه عزيز عليه ولابد أن يكرمه.. أن يصلي عليه قبل دفنه.

والتقط عيني وتعلق بهما في استطلاع.

- ألا تستحق رجلي أن نصلي عليها قبل دفنها.؟!

طاوعته وصلينا صلاة الجنازة علي رجله.. وإن كان قد التبس علي الأمر.. هل يجوز شرعا أن نصلي علي الرجل المقطوعة وصاحبها ما يزال من أهل الدنيا.؟

طلب مني أن أرتاح علي حجر تحت شجرة السنط.. وراح يحفر في عزم بالفأس الصغيرة وعرقه يتقاطر علي الرمال.

حمل الجبيرة في تأثر واضح يضمها ويقبلها وفي عينيه طفرات دموع بينما تتمتم شفتاه في وداعة.

بعد أن وضعها في الحفرة غرس يد الفأس فوقها كالشاهد وارتمي إلي جواري منهكا.

- البقية في حياتنا يا بلدينا.!

واجب برضك النفر منا يعزي نفسه إن مالاقاش حد يعزيه.

أومأت برأسي مهاودا.

أخرج بعض رقائق المرحرح وقطعتي جبن قديمة وحزمة جرجير من الشنطة البلاستيك راح ينتفض أوراقها الندية.

- بسم الله يا خال.. مد يدك وأجبر الزاد.

أنا أجبر الزاد.؟ أيريدني أن آكل الآن.؟ أن أبتلع أي شئ في جوفي.. ثم لماذا يريد أن يطعمني الآن.؟

أيطعم مثلا الضحية الرابعة قبل ذبحها.؟

ممكن.. كل شئ ممكن مع هذا الملتاث.

اعتذرت في كلمات هزيلة.

أندهش وأطبق علي يدي يشدها في إصرار.

- رافض الزاد خسيس الأصل.. هم يا بن أبوي.

ابتلعت متغصبا بعض اللقمات.. بينما راح هو يجرش ويبتلع في نهم.. بدا لم يأكل من سنوات.!

التقط زجاجة مياه من الشنطة ولوح بها في طفولية.

- طلعت في وقتها.. صح.؟

وناولني الزجاجة لأبدأ أنا.

مالت الحرارة منكسرة من حولنا.

وإن ظل السكون جاثما علي شواهد القبور.

أين تراه يخفي مفتاح السيارة.؟

الخوف كل الخوف أن يقع منه علي الرمال ويضيع.!

هل وضعه في جيب سرواله.؟

ليس علي بدنه إلا السروال الذي يستر نصفه الأسفل.

سألني في تودد عن اسم الكريم فأخبرته باسمي.

وأخبرني هو باسمه الرباعي ولقب العائلة.

- لك الأمان وعليك الأمان يا بن أبوي.. حق العيش والملح علي رقاب العباد يا خال.

كانت عيني تراقب نملة عنيدة تحاول مع ندفة مرحرح تقع منها للمرة العاشرة.!

أسند ظهره إلي شجرة السنط وأرخي عينيه.

كان جوفه يجتر المرارة ويتضح الأسي علي ملامحه وهو يحكي.

فقد أشعل عمه وأولاد عمه النار في بيت أبيه والكل نيام.

أخذوهم علي خوانة بعد أن أغلقوا عليهم كل الأبواب.!

وظل يلقي حبات الزلط علي شاهد القبر المقابل في غيظ مكبوت.

أكلت النار أمه وأباه وإخوته الثلاثة.

أكلتهم أمام عينيه ولم تطل منه إلا رجله.!

بدا شكل الدموع نشاذا علي صلابة الوجه بينما يواصل.

فكله من أجل الميراث.!

مجرد ثلاثة قراريط دخلت كردون المباني فأشعلت فتيل العداوة بين العائلتين.

مجرد ثلاث قراريط دخلت زمام المباني سعرت الخلق يا هووه.!

وظل ساهما للحظات يراقب الأفق البعيد.

هو أيضا أخذهم علي خوانة.

كان لابد أن يأخذهم علي خوانة.

أقسم علي تربة جده أن لا يدفن ساقه المحروقة قبل أن يأخذ بتار لحمه المشوي في النار.!

ذبح الثلاثة فجر اليوم.. عمه وولديه وأيضا في دارهم.

ذبحهم وشرب من دمائهم لعل صدره يبترد بعض الشئ.

ولمعت عيناه في نشوة.

فالآن يستطيع أن ينام.. ينام ملء جفنيه ويشبع نوما.. فقد راح كابوس همه الثقيل.!

نظرت إلي شعيرات صدره النافرة وكانت أثار دماء جافة تلتمع علي جذورها.

كيف يستطيع الإنسان أن يمسك بسكين ويمررها علي رقبة أخيه الإنسان.؟

كيف يذبحه هكذا في بساطة ويشرب من دمه.؟

أي قسوة.. أي قلب.!

نظرت إلي عربتي المستكينة علي الإسفلت هناك.

هل أظل هكذا تحت رحمته.؟ وإلي متي.؟

فاجأني شخيره خشنا متقطعا.

كان رأسه مائلا علي جذع الشجرة وفمه مفتوحا علي آخره يردد هواء كريه الرائحة.

اقتربت ونظرت في عينيه المسبلتين في تتمر.

هل هو نائم بالفعل.؟

هل يريد أن يختبرني فينام نوم الثعالب.!

يري كيف أتصرف معه إذا جاءتني الفرصة.!

اندفعت ذبابة كالسهم واقتحمت فمه ثم خرجت هائجة إلي الجو.!

هو بالفعل نائم.

أين إذن مفتاح السيارة.؟

وتمعنت في البحث فاكتشفت جيبا سحريا جانب السروال.

هو بالفعل جيب سحري منتفخ.

مددت يدي وحاولت في حذر. تلمست المفتاح بداخل الجيب. هل أستطيع أن أخرجه.؟

يقتلني إذا انتبه.. أكيد يقتلني.!

فهو قاتل متمرس علي القتل.

أي نعم قتل آخذا بالثأر من عمه وأولاده.. ولكنه قتل.!

يقولون أن القتل كشرب الماء المالح كلما شربت منه كلما ازددت عطشا.!

ولكني لم أفعل شيئا يسئ إليه فلماذا.؟!

ثم إن بيننا حق العيش والملح كما يقول هو بلسانه.

وعدت أحاول وعيني علي وجهه.

سحبت المفتاح سنة سنه في حذر شديد حتي أخرجته.

زاطت الفرحة في صدري وملأته انتشاء.

أخذت المفتاح وطرت إلي السيارة.. مستشعرا أني أجري في مكاني بالتصوير البطئ. وأن الرمال تسحبني إلي الخلف وتدفعني إليه.!

فتحت باب السيارة ودفعت المفتاح وأدرت الموتور وانطلقت بكل سرعتي.

ما هذه الرائحة التي تملأ السيارة.؟

انتبهت لحرام الرجل المكوم بجواري علي المقعد.. أنا ناقص.؟!

كيف أتصرف.؟ هل القيه علي الطريق.؟ هل آخذه معي.؟ أنا لا أطيق رائحته. ثم هل أترك الرجل يمشي عاريا.؟ هل حق العيش والملح يسمح بذلك.؟

هو أرعبني بلا شك.. عطلني وشل تفكيري.!

ولكنه لم يقتلني أو يستولي علي ممتلكاتي.

أأرجع والقيه هناك علي الطريق.؟ بالقرب منه وألوذ بالفرار.. هل أفعلها.؟ أجازف وأفعلها.؟

استدرت بالسيارة وعدت مسرعا.

كان جالسا في نفسي المكان وبنفس الوضع هناك تحت شجرة السنط.!

نزلت وطوحت بالحرام ناحيته بكل قوتي وأخذت السيارة وطرت.!

... بدت مشارف القاهرة باهته في دغيشة المغربية.

فتحت شباك السيارة لا تلقي نسمة الهواء الرطبة.

انزلق قرص الشمس خلف الأفق فارشا ظلاله علي إسفلت الطريق.!

أحسست براحة الاطمئنان تلاغي صدري وتخدره.

ندف الظلام تتكاثف علي زجاج السيارة.

خلعت النظارة ومسحتها لأستوضح الرؤية وأضأت الكشافات.

ما هذا الذي أمامي علي الإسفلت.؟

أمعنت النظر وركبتني الدهشة.

كان هناك شئ كالح يرابض في نهر الطريق.!

معقول ما أري.؟

بدا الشئ كخيال المآتة فاردا ذراعيه علي آخرهما.!!