الصراع حول "الدردنيل والبوسفور" كان صفحة طواها التاريخ منذ عقود بعيدة ولكن مصالح النخبة التركية الحاكمة، المثيرة للجدل، فى الشرق الأوسط وإندفاعها لمواجهة قوة كبرى مثل روسيا الإتحادية أعادت فتح تلك الصفحة الخطرة مجددا. فقد أعاد التلويح التركى بورقة المضايق فى وجه روسيا الحياة لصفحة تاريخية دامية مما يمثل تهديدا للأمن والسلم على المستويين الإقليمى والدولي.
مضايقات فى المضايق
وكان العالم الذى فوجئ بإسقاط الأتراك طائرة حربية روسية فوق الأراضى السورية فى شهر نوفمبر الماضى قد فوجئ مجددا باتهام تركيا لروسيا باستفزازها بعد رصد "بحار واحد فقط" على متن سفينة تابعة للأسطول الروسى وهو يحمل قاذفة صواريخ على كتفه أثناء مرور السفينة عبر مضيق البوسفور حيث يتصل البحر الأسود مع البحر المتوسط بواسطة طريق بحرى وحيد يمر عبر مضيقى البوسفور والدردنيل فى تركيا.
وبثت محطة (إن. تي. في) التليفزيونية التركية صورا قالت إنها تظهر بحارا روسيا يحمل على كتفه قاذف صواريخ سطح جو وهو على متن سفينة الانزال "سيزار كونيكوف" أثناء عبورها يوم الأحد 6 ديسمبر 2015 مضيق البوسفور الذى يمر عبر اسطنبول. وأشارت المحطة إلى أن السفينة ربما كانت فى طريقها إلى سوريا.
وعلى الرغم من عدم وجود تهديد حقيقى لتركيا عضو حلف الأطلنطى "ناتو" فإن الأتراك أصروا على التصعيد. وفى يوم 7 ديسمبر احتجت وزارة الخارجية التركية على الحادث. وأعلن رئيس الحكومة التركية أحمد داود أوغلو احتمال فرض عقوبات تركية ضد روسيا عند الضرورة. ولكنه عاد ليعرب عن أمله فى تخطى الأزمة مع روسيا وعدم اتخاذ هذه الإجراءات العقابية.
الروس من جانبهم تركوا "الرد" على الموقف التركى لوسائل الإعلام الروسية التى أكدت تجاهل قطع بحرية روسية رفع العلم التركى وذلك خلال مرورها. ووفقاً للتقاليد، يجب على السفينة الروسية رفع علم الدولة التى يتبع لها المضيق، أو الدولة المضيفة للسفينة. ومن الناحية التاريخية، يتم رفع العلم التركى لفترة وجيزة للدلالة على احترام الأتراك، ولكنه لم يتم رفع العلم فى واقعتين على الأقل. كما تم التنويه إلى ما فى جعبة روسيا من أدوات قانونية وعسكرية تضمن لها تأمين الملاحة عبر المضايق التركية.
ويشكل البوسفور والدردنيل المنفذ الوحيد لأسطول البحر الأسود الروسى إلى المياه الدافئة فى البحر المتوسط، ويقع المضيقان كلية ضمن حدود المياه الإقليمية التركية. وتمر تجارة دول البحر الأسود بما فيها روسيا عبر المضيقين ومن هنا جاءت أهميتهما الحيوية لهذه الدول.
وقد أشار المراقبون إلى أن تركيا بإمكانها إغلاق المضيقين أمام السفن الروسية فى إطار ردود الفعل المحتملة على العقوبات التى قد تفرضها موسكو على أنقرة.
وتقضى الأحكام الدولية المعمول بها حاليا والتى تم توقيعها ضمن اتفاق مونترو عام 1936، بأن تركيا لا يحق لها إغلاق المضيقين إلا إذا كانت تركيا فى حالة حرب، لكن تتوافر لدى أنقرة سبل قد تسمح لها بالإفلات من القواعد التى ينص عليها الاتفاق.
ويقضى البند الخامس من اتفاق مونترو، بأن المرور عبر المضيقين دون أى عوائق لا يحق إلا للسفن التى لاتتبع دول فى حالة حرب مع تركيا. وبما أن أنقرة لم تعلن خوض "الحرب رسميا" ضد روسيا ،وكذلك تتمسك روسيا بعدم "إعلان الحرب رسميا" على تركيا، فقد ذهبت تقديرات روسيا للموقف إلى وجود ورقة ضغط تركية متمثلة فى نظام القواعد الدولية الخاصة بحركة السفن فى مضيقى البوسفور والدردنيل الذى أقرته أنقرة بصورة فردية فى عام 1994.
ويمنح هذا النظام الجانب التركى الحق فى منع مرور جميع السفن عبر المضيقين فى حال القيام بعمليات حفر أو أعمال صحية أو أثناء الفعاليات الرياضية وكافة الحالات المماثلة الأخري، حسبما يقضى به المبدأ الرابع والعشرون للنظام، الذى تبنته تركيا متجاهلة معارضة الروس والعديد من دول العالم. وتجدر الإشارة إلى أنه لم تسجل بعد أى سابقة متعلقة بتفعيل نظام عام 1994 الأحادى الجانب حتى اليوم.
ومن المعروف أن تركيا ملزمة بالسماح لجميع السفن بالمرور عبر المضيق فى وقت السلم وذلك وفق معاهدة أبرمت عقب هزيمة الإمبراطورية العثمانية سابقا فى الحرب العالمية الأولي.
التاريخ الدامي
ويتسم تاريخ البوسفور والدردنيل بالدموية فى ظل الصراع الروسى التركى للسيطرة على المخرج الوحيد للبحر الأسود. فقد أتيحت لتركيا السيطرة على جانبى هذا المجرى المائى الحيوى عقب فتح القسطنطينية (اسطنبول حاليا) سنة 1453م. وانتهى إغلاق المضيقين بإعلان اتفاق كوتشك كينارجى عام 1774 بعد نجاح روسيا فى السيطرة على الساحل الشمالى للبحر الأسود لتكسر الاحتكار التركى العثمانى لهذا البحر.وعندما قام تحالف عسكرى قصير الأمد بين روسيا وتركيا فى عام 1798م، تم السماح للسفن الحربية الروسية بالمرور فى مضيق البسفور. ولكن سرعان ما انتهى التحالف بإشعال الحرب بين تركيا وروسيا. وبدأت الدول الغربية خاصة إنجلترا منذ ذلك التحالف تخشى من السماح للسفن الحربية الروسية بحرية المرور فى المضايق إلى البحر المتوسط. وتم عقد اتفاق دولى سنة 1841 قضى بفتح المضايق أمام الملاحة التجارية.
وكانت المضايق من أسباب دخول روسيا الحرب العالمية الأولى عام 1914. فعندما أسرعت روسيا بحشد قواتها على طول حدود النمسا وألمانيا، لمنع تقدمهما نحو تركيا وإغلاق المضايق أمامها أعلنت ألمانيا الحرب على روسيا وحليفتها فرنسا فدخلت إنجلترا الحرب إلى جانب روسيا وفرنسا. وكانت إنجلترا قد اتفقت سراً مع فرنسا وروسيا خلال الحرب على أن يسيطر الروس على المضايق التركية. ولكن انسحبت روسيا من الحرب لقيام الثورة الشيوعية فى أكتوبر سنة 1917.
وعند نهاية الحرب قلص المنتصرون هيمنة تركيا المهزومة على المضايق وقضت معاهدة سيفر بضرورة نزع سلاح المضايق وبحر مرمرة والجزر الواقعة فى مدخلهما من جهة الجنوب.
وتم تنظيم وضع المضايق مرة ثانية فى معاهدة لوزان سنة 1923 التى نصت على حرية المرور للسفن التجارية ووضعت قيوداً على مرور السفن الحربية إلى البحر الأسود.
وعندما ظهرت إيطاليا(موسوليني) سنة 1935 كقوة بحرية ، رأت إنجلترا أن مصلحتها تتفق مع كل من تركيا وروسيا فى تعديل معاهدة لوزان، وتم توقيع اتفاقية مونترو سنة 1936 لتنظيم الملاحة فى المضايق التركية. ومازالت هذه الاتفاقية سارية المفعول حتى الوقت الحاضر. وتعطى هذه الاتفاقية لتركيا الحقوق الكاملة لممارسة سيادتها على المضايق، وإدارتها وإعادة تحصينها وتقييد مرور السفن الحربية، إذا كان مرورها يهدد أمن الدولة التركية.
وفى أثناء الحرب الباردة تم ضم تركيا لحلف "ناتو" للأهمية الإستراتيجية لمضايقها فى مواجهة روسيا (الإتحاد السوفيتى سابقا).
وقد حاول الروس تعديل معاهدة مونترو بتدويل المضايق التركية إلا أن الكتلة الغربية وتركيا رفضت هذا المطلب.وهكذا دفع التوتر الروسى التركى بالعلاقات الثنائية إلى مستوى أكثر تعقيدا وخطورة على السلم والأمن الدوليين.