أحمد السيد النجار
محمد عبد الهادي علام
أخلاق الإنسان.. بين العقل والإيمان
8 ديسمبر 2015
صلاح سالم


يزعم نيتشه أن الأديان من إبداع الضعفاء لاستدرار عطف الأقوياء بإثارة مخاوفهم من عقاب قوة كبرى (إلهية)، أو بحفز مطامعهم فى رعايتها. أما ماركس فيزعم العكس، أى أن الأقوياء هم من اخترعوا الأديان لسلب وعى الضعفاء، تبريرا لواقعهم السيئ بالقدر الإلهي، والتعمية على مآسيهم فى الملكوت الدنيوي، بأحلام الخلاص والجنة الموعودة فى الملكوت الأخروي، فأيهما أقرب إلى الصدق؟.


يبدو كلاهما مخطئا فى إهمال الحضور الإلهى فى عالمنا، ومن ثم الدوران فى فلك تفسير مادى أحادى البعد يهمل ذلك القبس النورانى الذى يضئ نفوسنا، ويصوغ فضائلنا ويمنحنا الأخلاقية التى يتشدق بها جميعنا، ويسعى إليها أغلبنا، ويقصد إليها بعضنا ولو على طريق الآلام. فإذا ما استعدنا تلك القوة إلى عالمنا وجدنا تفسير نيتشه أقرب إلى المنطق. فماركس، لم ير سوى الحقبة الزمنية التى عاشها، أو قبلها بقليل، حيث الصراع الإيديولوجى المحتدم بين الرأسمالية والشيوعية، والدين أداة معتبرة فى هذا الصراع قبل ماركس وبعده. أما نيتشه فمد نظره إلى التاريخ بأسره، حيث مثل الدين وحده، وعبر عصور طويلة، الرافد الأساسى للتراحم الإنسانى والصهر الاجتماعي، الذى منح الكثيرين من البسطاء والضعفاء شعورا بالثقة فى أنفسهم، وفى إمكانية مساواتهم للآخرين. فأمام الله وحده يتساوى الفقراء مع الأغنياء، ويتماثل الأصحاء مع الضعفاء، ويتقارب المشاهير مع المغمورين. بل إن المسيحية قد ميزت الفقراء والضعفاء والمغمورين على الأغنياء والأقوياء والمشاهير، إذ اعتبرتهم الأقرب إلى ملكوت الله.



وعلى العكس من الحضور أمام الله، وما يولده من مشاعر تضامن ومساواة، فإن الحضور فى كل مكان آخر وعبر كل مجالات الحياة كالعلم والفن والفكر والرياضة، إنما يؤكد عدم المساواة بين الناس، والهوة الواسعة بينهم. فذلك عالم كبير برز نجمه فلا يقاربه آخر من بين العلماء ناهيك عن العوام. وذلك مفكر كبير تفوق فى إسهامه الفلسفى أو الأدبى على نظرائه المشاركين له فى مجاله، ناهيك عمن هم خارج مجاله. وذلك بطل رياضى أطبقت شهرته الآفاق وجاوبت أصدائها جنبات الكون فى عصر الفضاء، تراه على صدور الشباب وعلى حوائط البنايات ناهيك عن الصحيفة والتلفاز، فمن يفكر فى مناطحة شهرته وحظوته من زملائه الأقل موهبة ناهيك عن عموم الناس؟.



وربما فسر لنا ذلك الحضور الشفاف أمام الله لماذا نصادف كثرة من الفقراء والمرضى حول المساجد والكنائس والمعابد؟. ولماذا كانت السيدة زينب هى أم العواجز وحبيبة البسطاء، وكيف صار مسجدها فى قلب القاهرة ملتقى هؤلاء وأولئك. ولماذا كانت موائد الرحمن فى شهر رمضان؟.



لأن بيوت الله وحدها هى التى تفتح أبوابها لأولئك، الذين استبعدهم الأثرياء والأقوياء والعلماء والمشاهير من موائد الاحتفال، حيث يُدعى الشخص لماله أو لحسبه ونسبه أو لموهبته وعلمه، فهؤلاء فقط توجه إليهم بطاقات الدعوة فى المناسبات الكبري، كما يسمح لهم بالمرور دون تلك البطاقات لأن حراس البوابات يعرفون أشكالهم من الصحف والشاشات، أما الآخرون فلا مكان لهم، فإذا ما جن جنون أحدهم وحاول الحضور كان نصيبه من الشعور بألم المنع وربما الضرب على قدر نصيبه من جنون الفقر.



بل ثمة ميزة أخرى حاسمة لبيوت الله كونها لا تفتح أبوابها فقط للضعفاء، وتغلقها أمام الأقوياء، كما تفعل بعض منتديات الفقراء بل تفتحها أمام الجميع، حيث يتمكن الفقير والمريض والضعيف من الوقوف كتفا بكتف، وقدما بقدم، مع نبيل أو وزير أو سفير.. يحدث ذلك فى المساجد والكنائس والمعابد، فى الصلاة والحج والصوم.. إنها اشتراكية التوحيد، حيث الإيمان بالله والتمركز حوله، والأخوة فيه تفتح الباب على جميع أشكال التراحم والتضامن بين المؤمنين، من الزكاة إلى الصدقة إلى جميع أعمال الخير.



وربما اعترض هنا أحد مؤكدا أن بعض أعمال الخير قد تختلط بالرياء، تخدم مصالح محددة برسم صور معينة لأصحابها، وهو اعتراض صحيح لأن هناك من يقصدون الظاهر، ممن تكون أعمالهم كالزبد يذهب جفاء، ولكن ليس دائما لأن هناك من يقصدون الباطن، فتبقى أعمالهم أبدا لأنه تبغى وجه الله ونفع الناس. والمؤكد هنا أن وجود من يزيفون الخير لا ينفى وجود الخير نفسه، كما أن زيف من يتلبسون صورة الأخيار لا ينفى وجود الأخيار أنفسهم.



يؤكد العقلانيون الماديون أو النفعيون، أن أى شخص يطيع المعايير الأخلاقية العامة فى وقت لا يطيعها فيه أحد، أو يفقد بعضا من ماله حبا فى الآخرين، ورعاية لهم، إنما هو شخص أحمق يتصرف ضد العقل، لأنه لم يستطع استثمار أمواله، وعطل دورة حياتها الرأسمالية. أما المؤمنون بالله، فى كل الأديان، فيرون أن رعاية الفقراء منتهى العقل، وقمة الذكاء، لأنها قربى إلى الله، ولأنها تضمن الملكوت الثانى (الإلهى) فى عالم الغيب لذلك الغنى أو القوى الذى تمكن من فك شفرة الملكوت الأول (الدنيوى). بل إن كثيرين من المؤمنين، يشعرون أنهم بتلك الرعاية وذلك الإنفاق يزيدون من ثرواتهم فى الدنيا نفسها، ولكن كيف؟. تحدث جون كالفن من داخل المسيحية عن ذلك المؤمن الطهراني، الزاهد فى الثراء ولكن النشيط فى الدنيا لا حبا للمال بل لله ، حيث يشعره النجاح فى الدنيا برضى الله ومحبته، فيكون نجاحه الدنيوى من علامات خلاصة الأخروى، وهو الفهم الذى أعاد ماكس فيبر اكتشافه مطلع القرن العشرين مبررا به انتشار الرأسمالية فى العالم المسيحي. أما المسلمون فمأمورون منذ البداية بالسعى فى مناكب الأرض والإنفاق فى سبيل الله ليبارك لهم فى أرزاقهم، حتى أن المخلصين منهم يسمون إنفاقهم «تجارة مع الله» فما ينفقونه فى سبيله ولأجل عباده، إنما يعود إليهم سبعة أضعاف وسبعين ضعفا وإلى سبعمائة ضعف كما يبشرنا القرآن الكريم. وهكذا تمتلك الأخلاق الدينية مثاليتها الذاتية، ومعقوليتها الخاصة، فليس الإنفاق سذاجة، ولا الصدقة غباوة، ولا العطاء باسم الله لعباد الله إهدار لجهد الذات، بل جميعها تمثل طموح الإنسان إلى بث الرحمة ونشر الخير فى العالم من حوله، ومقاومة الشر الكامن فى نفسه، والذى يسعى لتعويق مسيرته النبيلة نحو الترقى والعمران، وهى المسيرة الأكثر تعبيرا عن دوره السامى كخليفة لله على الأرض.