تنتشر الشعوذة هذه الأيام بصورة خطيرة، يخلط فيها النصّاب عامداً متعمداً حواديت خيالية بتأويلاته الدينية، أو بالخرافات التى تراكمت عبر قرون ودُست دساً فى ثنايا التراث. وفيما يبدو لمن يحسنون الظن أنها مجرد مبالغات للحثّ على مكارم الأخلاق، فإنها فى حقيقتها، وفى الممارسة العملية على الأرض، هى الأساس الذى ينفذ منه قادة الإرهاب لتجنيد ضحاياهم من البسطاء السذج فى التنظيمات الإرهابية التى يندفع فيها الضحايا يفجرون أنفسهم طمعاً فى الجنة ونعيمها.
وقد صارت شبكة الإنترنت سوقاً رائجة لهذه العروض التى لا تنقطع، وللأسف فإن البعض يقفون عند حدود التهكم والسخرية من المفارقات التى لا تؤثر فى العقلاء، ولا يربطون الأسباب بالنتائج.
خذ مثلاً هذا الخطاب الميلودرامى بالصوت المتهدج والدموع الساخنة من على منبر أحد المساجد يحكى فيه الشيخ الشهير عن فتى بار بأمه يحتضر وهو فى ريعان الشباب بعد أن ضربه مرض عضال، ولم تتحمل أمه رؤية المشهد، فغادرت تبكى فى غرفة أخرى، حتى جاءها من يخبرها أن ابنها يخاطب شخصاً غير منظور، ويقول إنه لا يملك الموافقة على الطلب الذى لا يسمعه الحضور، إلا بعد أن توافق أمه، فلما أسرعت الأم لتتقصى الأمر عرفت أن ابنها الحبيب يحادث حورية فاتنة جاءته من الجنة لتخطبه لنفسها، ثواباً له على بِرِّه بأمه! وإذا بصيحات جمهور المسجد تهتف «الله أكبر» وقد اشتعل بهم الحماس!
وهناك شيخ آخر راح يصف لجمهوره الحور العين وصفاً حسياً مثيراً، مع تفاصيل للكبار فقط عن كيف تكون علاقة المؤمن بهنّ فى الجنة، وقال ما لا يمكن تداوله فى الصحف السيارة التى تقع فى أيدى الناشئة!
هل هذه من تجليات حرية التعبير التى يحميها الدستور والمواثيق الدولية؟ أم هى حرث للأرض وتأهيل لقطيع سوف يأتى من يعرض عليه التطوع للاستشهاد دفاعاً عن الإسلام، فيجد الضحايا الجاهزين لأن يموتوا وهم يقتلون ضحايا آخرين. وكل هذا فى سبيل أن يحظوا بالحور العين.
وهو احتمال وارد بشدة لأن بعض هؤلاء المشعوذين هم أنفسهم ممن يدافعون عما يقولون إنه شرعية مرسى!
وقد شاهدنا فيما يحبون أن يسموه إضراب رابعة كيف خدعوا جمهورهم بأن سيدنا جبريل يصلى معهم الفجر، وأن النبى رفض أن يؤمهم للصلاة ما دام فيهم الدكتور مرسى..إلخ، وأن «شهداءنا» فى الجنة و«قتلاهم» فى النار، وأننا لن نغادر الاعتصام إلا جثثاً! فصدَّق السذج الخرافات والأكاذيب ولبّوا نداء الصمود إلى آخر معتصم لنصرة الإسلام ضد الدولة الكافرة، وعندما حان وقت الحسم، كان المهيجون بلا ضمير هم أول الهاربين فى نقاب النساء وتركوا الضحايا لمصيرهم!
ومن غرائب الأحوال فى بلادنا أن لدينا بالفعل قوانين تحارب الشعوذة، ولكن أثرها يتوقف على الدجالين الصغار فى الأرياف، برغم أن ضحاياهم محدودون، كما أن الخسائر محدودة، لا يتجاوز سقفها الاستيلاء على بعض المبالغ التى يتورط السذج فى دفعها طواعية وهم واهمون، كما أن المشعوذ لا يأمن لنفسه، ولا يستطيع أن يمارس أفعاله إلا خلسة بعيداً عن أعين أجهزة الدولة. أما الدجالون الكبار، فهم يصرخون فى الميكروفون من على منابر مشهورة وأمام كاميرات تسجل درة تخريجاتهم وتعرضها بعد ذلك على التليفزيون والإنترنت للمزيد من الضحايا، بل إن بعض برامج التليفزيون التى تبث من أرض المحروسة صارت تتنافس فى خدمة هذا الخط بحكايات متوازية فى هارمونية غريبة عن العفاريت والجان..إلخ، ويجرى كل هذا أمام أجهزة الدولة التى لم تتخذ حتى الآن موقفاً، والتى تعطل القانون فى حالات هؤلاء المشعوذين العظام.
مثلاً، لماذا لم يُستَدع صاحب رواية الإبن البار وحورية الجنة إلى تحقيق رسمى يفضح فبركته للقصة؟
حسناً، لقد أكدَّ الشعب المصرى مجدداً موقفه الصريح، منذ أن نادى بسقوط حكم المرشد، ثم وهو يطالب بإعدام الإخوان فى كل جنازة لشهيد من ضحايا الإرهاب، وها هو يُسقط الإسلاميين فى الانتخابات البرلمانية بما لم يكن يتخيله أحد، حتى لم يعد لهم سوى هذا التمثيل الهزيل غير المؤثر، بما يعنى أن إرادة الناخبين تتطلع لإصلاح جذرى يعيد إلى مصر روحها الأصيلة التى اختُطِفَت منذ عقود. وهذه من أهم مسئوليات البرلمان الجديد.
أول معنى يُستخلص من قراءة إسقاط الإسلاميين فى الانتخابات البرلمانية، هو أن الناخبين يريدون حقاً دولة حديثة، فى تأكيد للمعنى الدستورى الذى وافق عليه الشعب، بما يعنى وجوب النظر والتعامل بجدية مع كل ما من شأنه أن يعرقل تحقيق هذه الإرادة الشعبية.
بما يعنى أنه يجب سنّ القوانين التى تحمى الوطن والمواطنين من خطاب الكراهية، والحضّ على العنف، وتكفير الآخرين، على أن ينتبه المشرعون ومراقبو أداء الحكومة إلى ثغرة الشعوذة التى راح ينفذ منها الإرهابيون وهم آمنون، بعد أن تراخت أجهزة الدولة وتركت لهم هذه البوابة الهائلة ليبسطوا سيطرتهم على الجماهير، ثم تكبيلهم بالمعونات المادية التى يوفرون لها اعتمادات هائلة من مصادر مجهولة لم تتمكن الدولة حتى الآن من فرض السيطرة عليها، ثم يصير أمر تجنيدهم سهلاً، توطئة لتكريمهم بمهمة يذهبون بعدها إلى الحور العين.
هناك خوف من مشاهد العنف فى جامعة الأزهر والتى توارت أخيرا مع القرارات العقابية ضد بعض المخربين، ولكنه التوارى الذى ينبئ بخطر الاشتعال عندما تحين الفرصة، خاصة بعد أن تبين أن وراء هؤلاء الطلاب فئات أخرى تدعمهم من الأساتذة الكامنين فى الظل. ومن حُسْن التقدير أن ينظر المشرعون أيضاً إلى الخطر الأكبر على يد هؤلاء الطلاب المتطرفين المخربين عندما سيكون لهم بعد سنوات قليلة نفوذ وظيفى فى كل المؤسسات الإسلامية فى عموم البلاد تبدأ من وظائف التدريس فى المعاهد الأزهرية، حيث إمكان السيطرة على عقول الصغار، وحتى تولى مناصب قيادية فى الأزهر الشريف وفى وزارة الأوقاف وفى المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، وفى هيئة كبار العلماء..إلخ
مع تذكر أن هناك نصوصاً دستورية وقانونية تتيح لهم إذا أرادوا أن يكون لهم كلمة فى كل شأن يمسّ حياة المواطنين.
فهل يولى البرلمان الجديد الأهمية التى يستحقها موضوع ضبط التشريعات وسد الثغرات بما يحاصر الشعوذة وخطاب الكراهية والحض على العنف وإمكان أن تسقط كل هذه الصلاحيات فى حجر المتطرفين بعد سنوات قليلة؟