أحمد السيد النجار
محمد عبد الهادي علام
الشكل والمضمون فى انتخابات البرلمان
19 أكتوبر 2015
د. حسن أبو طالب



مع استكمال الانتخابات التى بدأت مرحلتها الأولى بالأمس، وتشكيل البرلمان الجديد بعد شهر ونصف الشهر من الآن ستنتهى من حيث الشكل المرحلة الانتقالية بكل تعرجاتها وآلامها والتى دامت ما يقرب من أربعة أعوام ونصف العام، وأعنى بالشكل هنا بناء مؤسسات الدولة المصرية فى ظل نظامها الجديد الذى ارتضاه الشعب فى صورة دستور وانتخابات رئاسية سابقة وفقا لخارطة الطريق. أما من حيث المضمون أى الممارسة المجتمعية الحرة فسيكون علينا أن ننتظر عدة أعوام أخرى حتى تستقر لدينا جميعا ما يمكن أن نسميه بثقافة المشاركة الشعبية وما يرتبط بها من قيم المحاسبة الدورية والشفافية، والتى تمثل جوهر الممارسة الديمقراطية القائمة على التعددية فى الأفكار والرؤى والسياسات والتعايش فيما بينها، مع ترك الاختيار للشعب كل عدة سنوات وفقا للدستور لكى يقرر بحرية تامة فى أى اتجاه يجب على المؤسسات التنفيذية أن تسلك، وفى أى طريق على الوطن أن يتحرك.



هذه التفرقة بين شكل المؤسسات الرئيسة للنظام وفقا للمتعارف عليه فى الدولة الحديثة، وحالة المجتمع من حيث المشاركة الايجابية تبدو ضرورية للغاية لاسيما فى ضوء هذا الجدل الذى صاحب الانتخابات البرلمانية قبل وأثناء فترة الدعاية المقررة قانونا للمرشحين، والذى كان جوهره يتعلق بترجيح البعض عزوف قطاعات من الناخبين عن المشاركة لأسباب شتى تلخصها مقولة أنه لا شئ جديدا سواء انتخبنا برلمانا أم لم ننتخب. وهى مقولة ساندها بعض السياسيين خاصة من التيارات اليسارية الجامحة والناقمين دوما على وضع البلاد إضافة إلى ناشطين وحقوقيين وإعلاميين معروف عنهم الاستغراق فى أساليب الإثارة الإعلامية لأسباب تتعلق بجذب الإعلانات وليس لاعتبارات مهنية وموضوعية. وهم أنفسهم الذين كانوا يثورون أيما ثورة حينما تأخر الاستحقاق الانتخابى البرلمانى نتيجة الاعتراضات القانونية التى تقدم بها البعض ضد قانون تقسيم الدوائر الانتخابية وأدت فى النهاية إلى ضرورة تعديل القانون ومن ثم الدخول فى دورة تشريعية جديدة أخذت بعض الوقت، ولم يكن التأخير نتيجة قرار حكومى أو رئاسى بل نتيجة أخطاء طبيعية فى تقديرات واجتهادات إعداد القانون فى صورته الأولي.



وكان المتصور منطقيا أن الذين تعجلوا الانتخابات البرلمانية سابقا أن يكونوا فى مقدمة من أعدوا أنفسهم لهذا الاختبار الحاسم لمصير الوطن بعد أن تم صدور القانون بعد مراعاة ملاحظات المحكمة الدستورية العليا، وأن يكونوا الأكثر حرصا على المشاركة، وكذلك الأكثر حرصا على حفز المجتمع ككل للمشاركة فى هذا الاستحقاق التاريخي، وهو ما لم يحدث، بل أصبح هؤلاء عالة على أنفسهم وعلى وطنهم فى آن واحد، وبدأت مسيرة التبريرات فى الانسحاب وعدم المشاركة فى الانتخابات نظرا لكونها تتطلب مرشحين أقوياء فى دوائرهم، وهو شرط غير متوافر لهم، ولأن الحملات الانتخابية تتطلب أموالا وهو أيضا غير متوافر لديهم، ولأن لديهم تحفظات على قانون الانتخابات لم يؤخذ بها وأسباب واهية أخري. وبدلا من قول الحقيقة مجردة بأن لا شعبية ولا وجود فعليا لهم بين الناس، دأب هؤلاء على تبرير نظرتهم العدمية وكأنها نوع من النضال ضد ما يرونه بشائر سلطة استبدادية بدرجة ما تسود فى الأفق، وتعرية لنظام تخلى عن مبادئ ثورتى يناير ويونيو. ومن هنا لم يعد لديهم سوى زرع الشكوك فى جدوى الانتخابات وتعبئة الناس للبقاء فى البيوت، متفقين فى ذلك مع كل مضمون وأساليب الدعاية السوداء التى يشنها عملاء الإخوان وتابعو الإرهاب ضد مصر ومسارها السياسى الجديد.



الانتخابات البرلمانية فى كل المجتمعات هى الآلية المعتمدة التى تفرز القوى من الضعيف، وتفرق بين صاحب الشعبية الفعلية والآخر الذى لا يملك سوى كلمات لا معنى لها. ولا يستطيع أحد فى ضوء الشواهد والممارسات الفعلية للدوائر الرسمية أن يدعى أن هذه الانتخابات تتم تحت ضغوط أو توجيهات أو تعبئة من أجل أفراد أو قوائم بعينها. وهو أمر جديد تماما عما كانت تشهده مصر سواء فى عصر مبارك أو زمن الإخوان الأسود. وما دام الأمر خاليا من الضغوط الحكومية فالنتيجة المنطقية أن الانتخابات ستكون مقياسا حقيقيا لمدى تفاعل المجتمع مع ثقافة المشاركة من جانب، وحُسن اختيار النواب من جانب آخر. كما سيكون البرلمان المقبل مُعبرا عن مدى تفاعل هذين المعيارين. فالمرشحون سواء كانوا مستقلين أو حزبيين وكذلك القوائم المتنافسة لديها الفرصة ذاتها، ويبقى أن الأكثر تنظيما، والاكثر تعبيرا عن فئات اجتماعية عريضة، والأكثر قدرة على التواصل مع المواطنين سيكون الرابح، ويبقى اللوم لمن لم يُحسن التقدير والأداء.



المثير فى مفارقة المشاركة حسب الظواهر المرئية أن نزعة العدمية تبدو أكثر وجودا لدى بعض من يصفون أنفسهم بمطلقى الثورة ودعاة الدولة المدنية والمتباكين على الديمقراطية الغائبة، وعلى العكس من هؤلاء فإن الأكثر حديثا عن ضرورة المشاركة لاعتبارات سياسية وفكرية وعقدية هى لدى من يصفون بأنهم تيار الإسلام السياسي. ومع ذلك فإن الشعب نفسه له رأى آخر تماما. ففى استطلاع رأى مركز بصيرة ، الذى أعلن عنه قبل يومين وجرى فى محافظات المرحلة الأولي، استوقفتنى بعض النتائج، منها أن 65% يتوقعون نزاهة الانتخابات، و39% يوافقون على ما وصف «بمشاركة الاحزاب الدينية فى الانتخابات» مقابل 41% رفضوا ذلك، فى حين أن 55% من العينة المبحوثة ذاتها قررت أن تنتخب ما يعرف بالأحزاب المدنية مقابل 16% فقط تميل لصالح الأحزاب ذات المرجعية الدينية. وهنا يتجلى وعى المصريين وتسامحهم أيضا، على عكس تيار عريض فى النخبة التى تتسيد الإعلام والسياسة، فالمصرى البسيط وإن رأى أن من حق الحزب صاحب المرجعية الدينية فى إطار الدستور أن يشارك فى الانتخابات، إلا أنه لن يعطيه صوته، وسيفضل التيار المدنى الذى ينظر للعمل السياسى باعتباره آلية وسلوكا من أجل السلطة ومن أجل تطبيق رؤية واجتهاد بشرى فى مجال العمل العام دون زج الدين الأسمى فى هذا المضمار المتقلب والمملوء بالمواجهات والمناورات.



هذه الدلالات الأولية تعنى بأن فئة كبيرة من السياسيين والناشطين والحزبيين والإعلاميين المتسيدين هم أقل تأثيرا فى توجيه الرأى العام الذى بات يشكل توجهاته بناء على مؤثرات الواقع وحسابات المكسب والخسارة. والاهم من ذلك أن الذين يرغبون وقرروا المشاركة وأن يكونوا إيجابيين هم الأكبر. وهؤلاء الذين فضلوا الخسارة مسبقا والاكتفاء بالبكاء على لبن غير موجود أصلا فلا يلومون إلا أنفسهم.