أحمد السيد النجار
محمد عبد الهادي علام
بريد الجمعة يكتبه: أحمد البـرى
حكمتك يارب!
18 سبتمبر 2015



دفعتنى رسائل قرائك عن تجاربهم فى الحياة، والدروس والعبر التى خرجوا بها من هذه التجارب، وأرادوا أن ينقلوها إلى الآخرين عبر بريدك الشهير إلى أن أروى لك حكايتى بكل ما فيها من مرارة مازلت أتجرع كأسها حتى اليوم، فأنا سيدة تعديت الخامسة والستين، وأعيش فى إحدى قرى محافظة ساحلية، وانتمى إلى أسرة عادية من أسر الأرياف، حيث يرتبط الجميع بعلاقات نسب ومصاهرة بين بعضهم، وكنت الوحيدة بين أخواتى البنات التى تتمتع بقوة الشخصية والحضور والجرأة فى التعامل، وتعلمت فى مدرسة متوسطة فى حين لم يلتحق أى فرد من أسرتى بالتعليم، واكتفوا بالعمل فى المزارع والمصانع مثل الكثيرين من أقرانهم، ولاحظت وقتها شابا من أسرة ثرية يحاول أن يتقرب إليّ، وينظر لى بإعجاب، ثم جاءتنا والدته وخطبتنى له، وظللت الفرحة بيتنا، وأثنى أهلى على أسرته، ووصفوهم بأنهم مثال رائع للطيبة والكرم وحسن الأخلاق، وعرفت أن خطيبى هو الابن الثانى لأبيه، حيث يكبره أخ واحد بعامين، وأنه هو الذى يدير ثروة أبيه من الأراضى الزراعية لما يتمتع به من القوة والحزم بعكس شقيقه الذى يغلب عليه الهدوء وعدم القدرة على مواجهة الآخرين.



وأقام والده لنا حفل زفاف كبيرا حضره أهل القرية والقرى المجاورة، وانتقلت إلى بيتهم الواسع ذى الغرف المتعددة، فى ركن خاص بي، وتمتعت مع زوجى بكل شىء، ووجدت والدته سيدة رائعة، وأبوه رجلا دمث الخلق، وشقيقه شابا سمحا، لا يتكلم كثيرا ولا يحتك بمن حوله، ولعل ذلك هو ما دفع أباه إلى أن يفوض زوجى فى كل الأمور. ولاحظت الرضا على الجميع بهذا الوضع، فهم وحدة واحدة، وقرارهم واحد، وبعد مضى عام على زواجنا، انجبت طفلا جميلا، فانطلقت الزغاريد تجلجل فى أرجاء البيت، وعلت الابتسامة وجه حماى وحماتي، وصار إبنى هو شغلهما الشاغل، فيسأل عنه حماى فى «الرايحة والجاية»، وتحمله حماتى «نائما أو مستيقظا»، وذات يوم وفى أثناء تناول طعام الغداء، فاتح حماى، شقيق زوجى فى مسألة الزواج الذى كان يؤجله باستمرار، وقال له «نفسى أفرح بيك زى أخوك»، فطرق رأسه فى الأرض، قائلا: «ربنا يسهل»، فاعتبرت رده علامة على الموافقة، وحدثتنى نفسى بأن أختار له العروس التى سوف يتزوجها على مزاجي، وصارحت زوجى بما يدور داخلي. وقلت له: «أنت الذى تدير أملاك أبيك ومن حقك أن تنال فى النهاية هذا الارث. ثم يكون لأولادك من بعدك، ولو تزوج أخوك وأنجب سيحصل على نصف الميراث، ومادام أنه لايفكر فى الانجاب ووصلت الأمور إلى حد الضغط عليه من أجل الارتباط، فسيوافق على من نختارها له»، فاقتنع زوجى بكلامى وسألنى عن الفتاة التى أرشحها له، فقلت له: «أنها ليست فتاة انها سيدة مطلقة لم تمكث مع زوجها سوى عام ونصف العام ثم طلقها لعدم الانجاب، مع أنها جميلة وتتمتع بالأخلاق الحميدة، علاوة على روحها المرحة، وهى تقترب فى صفاتها من صفات شقيقك، وقد اخترتها بالذات حتى لا تنجب، وتكون تركة إبيك فى النهاية لأولادك، فوافقنى على رأيى وتوليت مسئولية اقناع حماتى بالعروس المناسبة من وجهة نظرى دون أن أفصح عن سبب طلاقها، ولم يتوقف شقيق زوجى عند مسألة طلاقها، بل أبدى سعادته بهذا الاختيار، ومازال رده يرن فى أذنى إذ قال فى نهاية جلستنا «توكلت على الله» وخرج إلى المسجد لأداء صلاة العشاء، وتم عقد القران والزفاف وسط لقاء عائلى دون حفل كما جرت العادة مع من سبق لهن الزواج، وأحسست وقتها بنشوة الانتصار، وبأن خطتى للاستئثار بالميراث تمضى كما رسمتها، وعشنا معا حياة مستقرة، لم يعكر صفوها شىء، ومرض حماى ثم رحل عن الحياة، وودعناه بالدموع، والتففنا حول حماتى وازددنا ترابطا، وأصبح شقيق زوجى هو رجل البيت باعتباره الأكبر سنا، ولكن الأمور كلها ظلت بيد زوجي، ثم فوجئنا بما لم أتوقعه إذ حملت زوجته، وظهر عليها الحمل، فأخذت أضرب كفا بكف، كيف تحمل وهى عاقر، فلقد كان السبب فى طلاقها هو عدم الانجاب وظللت اطمئن نفسى بأنه «حمل كاذب»، فلقد سمعت وقتها عن بعض الحالات، حيث تعيش الزوجة وهم الحمل ثم تفاجأ فى النهاية بأنها ليست حاملا، وأن الأمر كله لا يعدو كونه مجرد تهيؤات وخيالات.. نعم ظننت ذلك، ولكن شهور الحمل مرت بشكل عادى، ووضعت زوجة شقيق زوجى توءمين جميلين، وانجبت ولدين فى بطن واحدة، وعنفنى زوجى على صنيعى فالحق أننى التى ضغطت عليه لاقناع شقيقه بقبول هذه الزيجة للهدف الذى كنت أسعى إليه، لكنه بانجاب الولدين أصبح سرابا، كما أننى لم يكن لدى وقتها سوى ابنى الوحيد الذى لم انجب سواه، وكبر الولدان وكلما شاهدتهما أمامى يمر برأسى شريط الذكريات، وما كنت أرتب له بعد رحيل الكبار حين تصبح الأرض كلها ملكا لأولادي، ثم توالى انجابها البنين والبنات فانجبت ولدا ثالثا وبنتين، فى حين توقف انجابى تماما، وأدركت أننى سوف أجنى ما صنعت، وأن من يتخيل أنه قادر على أن يفعل ما يريد واهم، فالقادر هو الله، ونحن البشر مهما فعلنا فلن نغير قدره سبحانه وتعالي.



ودارت السنون وصار الأولاد شبابا، وأصبحت أخاف على إبنى من كل خطوة يخطوها، فأتتبعه وأسأل عليه، وكان لدينا جرار زراعي، يعمل عليه فى أرضنا الزراعية فى أيام الأجازات الدراسية، وذات يوم أخذ الجرار، وذهب فى طريقه إلى الحقل، فصدمته سيارة نقل مسرعة فى أحد المنحنيات، فأطاحت به بعيدا لعشرات الامتار، وجاءنا الخبر المفجع، فأسرعنا به إلى المستشفى المركزى القريب منا، ثم الى مستشفى شهير بالقاهرة، وظل فى العناية المركزة ثلاثة أيام، ثم صعدت روحه الى بارئها، ودارت بى الأرض وغبت عن الوعي، وأخضعونى للفحص الطبي، وشخصوا حالتى بانها صدمة عصبية شديدة، وتلقيت علاجا استمر مدة طويلة، ولما أفقت، وجدت زوجى قعيدا بعد اصابته بجلطة فى المخ، ورأيت شقيقه الى جواره يبكى بمرارة، أما أبناؤه، فلم يغادروا حجرتنا. ولازمونا ليلا ونهارا، ولم أسمع منهم سوى كلمتى «أبي» و«أمي» وهم ينادوننا أنا وزوجي، وبعد أسابيع قليلة مات زوجى ولم أحد بجوارى سوى أبناء شقيقه الذين حاولت أن أمنع وجودهم فى الحياة، بالحيلة الدنيئة التى دبرتها له للزواج من عاقر، فإذا بالله عز وجل يخلف ظني، ويحدث ما حدث، وافقد ابنى الوحيد ليؤول كل شىء إلى أولاد شقيق زوجي، الذين صاروا أولادى بالفعل بعد كل ما صنعوه لي.



ولقد أراد الله أن أعيش لأرى كل من حولى يرحلون من الدنيا واحدا بعد الآخر لكى انال العقاب الذى استحقه فى الدنيا، فلقد رحل شقيق زوجى وبكيته كثيرا، ثم رحلت زوجته، وكنت إلى جوارها فى اللحظات الأخيرة، وكان مشهد رحيلها مؤثرا فى نفسى الى حد لا استطيع وصفه، إذ امتلأ وجهها نورا، وكانت تتمتم قائلة «الحمد لله». وكررتها كثيرا، وكانما كانت ترى مقعدها فى الجنة، نعم والله يا سيدي: سمعتها وهى تؤكد شكرها لربها، وأدركت أنها تشاهد جزاء نقاء سريرتها، وقربها من الخالق العظيم.



وإننى أعيش الآن بين أبنائى أقصد ابناء شقيق زوجى الراحل.. وأنا بالنسبة لهم بمنزلة الأم، بل لا يتخذون خطوة واحدة فى حياتهم إلا بعد استشارتي، وكلما جاءنى أحدهم ضاحكا مناديا يا أمي، أقول فى نفسى «حكمتك يا رب».. إنه سبحانه وتعالى علام الغيوب، وقد أراد لى أن تعلم الدرس البليغ بأن الله يفعل ما يشاء، وان المكر السيئ لا يحيق إلا باهله، ولقد تعلمته بالفعل، وإننى أدعوه فى كل صلاة، وفى كل وقت ان يغفر لى ذنوبى ويستر لى عيوبي، وأرجو أن يتعظ كل ضال، وأن يعود كل من يتربص بالآخرين إلى رشده، فالله هو القاهر فوق عباده، ويعلم خائنة الأعين، وما تخفى الصدور، «ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا، وهب لنا من لدنك رحمة، إنك أنت الوهاب» ولك منى التحية والسلام.



ولكاتبة هذه الرسالة أقول:



عندما اخترت سيدة مطلقة لعدم الإنجاب لتكون زوجة لشقيق زوجك، كان دافعك الداخلى هو ألا تنجب وريثا لزوجها، وبالتالى تؤول الى أولادك التركة كلها، وظننت أن الأمور ستسير وفق مزاجك وأهوائك من حيث الإنجاب والعمر، وتناسيت أن الأعمار بيد الله، وأنك لا تملكين إزاء إرادته عز وجل حيلة، وأن كل شيء سيكون وفق ما قدره سبحانه وتعالى، وكان دافعك الظاهرى أنها جميلة وتتمتع بأخلاق حميدة، ولما كان شقيق زوجك رجلا نقى القلب، لا يضمر حقدا ولا غلا لأحد، وكانت زوجته هى الأخرى كذلك، فلقد هيأ الله لهما من أمرهما رشدا، وصارت هذه الزوجة الصالحة فاتحة خير عليه، فسعد بها، وأنجبت البنين والبنات بفضل من الله، وانقلبت موازين حياتك فلم تنجبى غير ابنك الوحيد، وللأسف صار زوجك فى ركابك وغرته أفكارك السوداوية وقتها، فأقنع أخاه بالزيجة التى خالفت ظنونكما، على النحو الذى جاء فى رسالتك.



ولقد شاءت إرادة الله أن تعيشى حتى الآن، ويرحل الجميع الى دنيا الحق، لكى تدركى خطأ ما ظننته، فأولاد شقيق زوجك هم الآن أبناؤك الذين لم يعد لك سواهم، وتجدينهم حولك فى كل صغيرة وكبيرة، ويستشيرونك فيما يعن لهم من أمور.. إنه حقا درس إلهى كبير للذين يمكرون بالناس ويوهمونهم أنهم يعملون الصالحات على غير أهدافهم الحقيقية! فإنه ما أسر أحد سريرة إلا أبداها الله تعالى على صفحات وجهه، وفلتات لسانه، وكساه رداءها، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر.



ويحضرنى قول الإمام على بن أبى طالب كرم الله وجهه:



دع الحرص على الدنيا



وفى العيش فلا تطمع



ولا تجمع من المال



فلا تدرى لمن تجمع



فلقد أردت أن تجمعى تركة شقيق زوجك لأنه لن ينجب فرحل الجميع وبقى أولاده، وقد أصبحت بحوزتهم كل الثروة، فكان حرصك على الدنيا وبالا عليك، مازلت تتجرعين مراراته، وما ترديدك عبارة «حكمتك يا رب» إلا اعتراف بخطئك، وتأكيد أن إرادة الله لا تعلوها إرادة.



إن الناس بقلوبهم وليسوا بوجوههم، وكذلك الدين ليس بما يظهره المرء، من طقوس وعبادات، ولكن بما يخبئه فى نفسه، ويتجوهر فى نياته، وقد كانت دواخل نفسك مليئة بالشرور والآثام تجاه أناس مسالمين، وثقوا فيك، فإذا أنت غير أهل لهذه الثقة، صحيح أنه لم يصبهم أذى من صنيعك، لكنك كنت بالفعل تتمنين هذا الأذى وتضمرينه لهم، وبعد أن استوعبت الدرس الثمين، وأنت فى سن الجلال والاحترام، أرجو أن تقتربى من أولاد شقيق زوجك الراحل، وأن تكونى أما لهم، وجدة لأبنائهم، وأن تتبدل نظرة الأسى والحزن لديك، الى نظرة رضا بما قسمه الله، وإيمان بقدرته وعظمته، وأن تكونى حلقة الوصل بينهم، وليكن هناك يوم أسبوعى تلتقون فيه، ويجلسون حولك، يتسامرون معك، وتروين لهم مواقف من حياة أمهم العظيمة، وأبيهم الطيب.



فهذه الروح الجميلة هى التى توجد السعادة، ويخطئ من يتصور أنها تتحقق بامتلاك الأموال والقصور والأراضى والمصانع، أو تتحقق بالجاه والارتقاء فى السلم الاجتماعي.. صحيح أن جانبا منها يناله الإنسان عن بعض هذه الوسائل، لكنها تكون سعادة مؤقتة، وسوف يطلب حينئذ المزيد، وفى ذلك يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم «لو كان لابن آدم واد من ذهب، أحب أن يكون له واد آخر، ولن يملأ فاه إلا التراب، والله يتوب على من تاب».



وتنقلنا رسالتك ياسيدتى الى جانب آخر مهم، وهو أن ندرك أن حياتنا ممر، وليست مقرا، وأنها قنطرة توصل الإنسان الى الدار الآخرة، فلا تنتهى الحياة بنهاية الدنيا، فهناك الحياة الأبدية الباقية فى الآخرة، والدنيا مجرد لعب ولهو، وفى ذلك يقول الحق تبارك وتعالى «اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر فى الأموال والأولاد كمثل غيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يكون حطاما وفى الآخرة عذاب شديد ومغفرة من الله ورضوان، وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور»، فحين تقاس الحياة الدنيا بمقاييسها، وتوزن بموازينها تبدو للعين أمرا عظيما، ولكنها حين تقاس بمقاييس الوجود، وتوزن بموازين الآخرة تبدو شيئا زهيدا وتافها، هذه هى الحقيقة، ولا يعنى ذلك العزلة عن الحياة أو عدم السعى فى الأرض، وإنما المقصود هو تصحيح المقاييس الشعورية، والقيم النفسية، والاستعلاء على غرور المتاع الزائل، وجاذبيته المقيدة بالأرض، والذى من أجله يصنع الإنسان صنيعا يوقعه فى الزلل، وقد يؤدى به الى المهالك وعذاب الضمير، مثلما صنعت ـ يا سيدتى وأنت تحسبين أنك تحسنين صنيعا، لكن إرادة الله كان لها موقف آخر، وغاية أخرى فى الدنيا قبل الآخرة.



إن النظرة المتكاملة للحياة تجعلها فى نظر الإنسان كنزا ثمينا يستطيع استثماره فيما ينفعه، فهى جسر الى السعادة الأبدية، ولا شك أن رسالتك تفتح أمام الجميع باب الصلح مع الله، وتدفع من يضمر شرا أو أحقادا للآخرين الى أن يتراجع عما هو سائر فيه، فيخوض غمار الحياة واثق الخطي، بعد أن أيقن أن كل ما ملكه أو يحاول أن يملكه غير باق.. وعليه أن يسعى للاستمتاع بما معه دون إسراف، مع إيمان داخلى بأن ما يمتلكه من الدنيا موجود فى قبضة يده وليس فى قلبه، ولن يضره ما فاته أو أصابه منها، يقول تعالى «ما أصاب من مصيبة فى الأرض ولا فى أنفسكم إلا فى كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير. لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم والله لا يحب كل مختال فخور».



أسأل الله العفو والمغفرة لكل الراحلين وأن يتقبل توبتك، وأن يديم المودة بينك وبين أولاد شقيق زوجك، وأن يرزقهم بالذرية الصالحة، ويكتب لكم جميعا الرضا والطمأنينة وراحة البال.. إنه على كل شيء قدير.