أحمد السيد النجار
محمد عبد الهادي علام
نجيب محفوظ
ثلاث قصص لنجيب محفوظ لم تنشر فى كتاب من قبل ..
إهداء من مجلة «نصف الدنيا»
28 أغسطس 2015



1 طبقات السعادة





(مثال) الرقة والعذوبة كان زميلي علي قمطر، علي مدي خمس سنوات هي مدة دراستنا الثانوية أبوه مدرس اللغة العربية شيخ مقتدر قوي الشخصية مهاب الجانب يسود فصله النظام والقانون. أما ابنه فهو قدوة في الأدب والحياء والسلوك السوي بعيد كل البعد عن شقاوة الأقران. مسالم في حاله لا يند عنه لفظ خشن أو يصدر عنه سلوك منحرف ذكره دائما يفوح بأريج الطيبة والدماثة. ذلكم هو حلمي أبوهجار.



عند محط الباكالوريا افترقنا. ولما لم يكن من حين فلم أعد أدري عن مصيره شيئا واصلت دراستي الجامعية وتوظفت فأنسيته تماما وتمزقت علائق الزمالة القديمة ساحبة وراءها جميع متعلقاتها.



ذات صباح في زمن متأخر لعله الأربعينيات مررت أمام قسم الموسكي في طريقي إلي دار الكتب للقراءة أو الاستعارة فرأيت الزميل القديم واقفا عند مدخل القسم وسط منظر درامي مؤثر ضابط شرطة برتبة لم أعد أذكرها، يمثل أمامه مخبر قابضا علي رجل من أهل البلد في أعلي جلبابه.. الزميل القديم يتفحص ابن البلد بحنق شديد صارخا في وجهه.



ـ رجعت إلي عدتك القديمة يا ابن...



وانطلقت من فيه مجموعة وافية من أقذع وأقذر الشتائم مخترقة حرمات الأم والأب والجدود. وهوي علي وجهه بضربة هائلة ثم أردفها بركلة نطرته مترا وصاح بالمخبر



ـ ارمه في الحبس حتي أرجع.



ذهلت ذهولا لا مزيد عليه. استوت الصورة الغليظة الوحشية الماثلة أمامي إلي جانب الصورة الوردية الملفوفة في الحياء والعذوبة التي استدعاها الخيال من ظلمات الماضي.. رددت بصري بين الاثنتين وأنا لا أصدق، ومنعا للإحراج أردت أن أزوغ قبل أن يراني، ولكنه لمحني وهو يعبط سلم القسم في خيلاء وثقة ثبتت عيناه علي قليلا وسرعان ما هتف.



أنت.. والله زمان



تصافحنا في حرارة ولما عرف مقصدي قال



ـ طريقنا واحد حتي دار الكتب.



سرنا جميعا إلي جنب كالزمان الأول أخبرته بايجاز عن دراستي ووظيفتي. وإذا به يقهقه فجأة قائلا:



لاشك أنك عجبت لما رأيت مني وسمعت؟



فقلت مرتبكا بعض الشيء



ـ الحق أني



ـ قاطعني قائلا:



ـ المهنة تخلق الإنسان خلقا جديدا



فسألته



ـ أليس من القانون ما يكفي؟



ـ القانون لا تجرني إلي عالم النظريات القانون مفسدة لهؤلاء



إني بحكم عملي لا أتعامل غالبا إلا مع الأوباش. فلا مفر من استعمال لغتهم وتبني سلوكهم. القانون؟



وضحك ساخرا ثم مضي في حديثه:



ـ لو تعاملت معهم بما يرضي القانون واحترام الحقوق لاعتبروا الحكومة مهزلة وتمادوا في شرهم إلي غير نهاية.



فقلت متحديا:



ولكنكم تعاملون المتظاهرين نفس المعاملة وهم صفوة الشباب.



ـ لا.. لا.. هذه مسألة أخري. لا تمل بنا إلي السياسة.. للسياسة كما تعلم قوانينها الخاصة



ثم مواصلا بعد فترة صمت



ـ الحياة الحقيقية في الشارع لا في دار الكتب، السجن لا يعتبر عقوبة مناسبة مع هؤلاء شعبك غير الشعوب الأخري.



فتساءلت:



ـ أليسوا أناسا مثل الآخرين.



ـ كلا أعلم أن السجن يوفر لهم مأوي أفضل بكثير مما يتهيأ لهم في حياتهم العادية وطعاما لا يظفرون بمثله في غالبية أيام السنة فالسجن لا يعتبر عقوبة رادعة لهم.



وهز رأسه في ثقة من اطمأن إلي انتصار منطقه ثم قال:



ـ العقوبة الوحيدة المجدية هي ما قبل العقوبة الرسمية. أعني الشتم والضرب والاهانة.



واسترسل ضاحكا:



ـ لا تنزعج. ولكن عليك أن تصدقني. منهم نفر إذا ضاق بهم الحال افتعلوا خناقة كيفما اتفق لا لشيء إلا ليقبض عليهم فيعيشوا في ضيافة الحكومة وعلي حسابها مدة ستة أشهر..



تفكرت قليلا ثم قلت:



ـ كنت أتصور أنني ملم بتعاسة شعبنا ولكنني لم أعرف مداها إلا الساعة.



فقال مصدقا علي قولي:



ـ في ذلك لا خلاف بيننا علي الإطلاق!



 



2 لحظة عابرة



 فرارا من حر لافح ورطوبة خانقة لذت بكافيتريا الكواكب المكيفة الهواء، جميع الموائد مشغولة في المحل الصغير الأنيق ذي الجدران المحلاة بالخشب والمرايا، والجو ساحر مريح كحلم. وقفت عند المدخل أجول بعيني مفتشا عن مكان خال، ومشفقا من الاضطرار إلي العودة إلي الجحيم، جذبتني عينان في أقرب مائدة إلي. نظرت فتذكرت ولكنني ترددت. انه ذلك الزميل القديم الذي يري كثيرا في هذا الموقع من المدينة والذي يعد من زبائن المحل. لم نتبادل تحية منذ فارقنا. تري مازال يتذكرني؟ منظره يقصيه بعيدا عن سكان كوكبنا، ولكن ما معني نظرته نحوي؟ عجيب أن توجد ذاكرة سليمة في رأس مختل فصل صاحبه عن بقية البشر. لما التقت عينانا ابتسمت فأشار إلي يدعوني إلي مشاركته في مائدته، فمضيت نحوه وجلست دون أن أخلو من خوف.



ـ أشكرك.



فقال بأريحية وبصوت متهدج تصاحبه حركات عصبية في الوجه واليدين:



ـ أنا الوحيد الذي يشغل مائدة بمفرده، زالت مخاوفي. لو كان خطرا مع الآخرين ما ترك حرا طوال ذلك الدهر. قلت راجعا إلي الماضي المشترك:



ـ الجو في الخارج لا يطاق. ولكني لم أحلم بلقاء يعيد إلي ذكريات الماضي الجميل.



فقال بازدراء واضح:



ـ الماضي!.. أنا ليس لي ماض علي الإطلاق!



لم أدهش كثيرا. فنظرته تطل علي من عالم غريب عن عالمنا. حقيقته لا تخفي علي إنسان من النظرة الأولي ولكنني قلت:



ـ أعني أيام شبابنا..



فقال بنفس الإزدراء:



أي شباب يا هذا، أنا لم أعرف حضرتك من قبل..



ثبت إلي الواقع قانعا بالمجلس الذي فزت به. حصل ما حصل علي عهد الشباب وبدء طريق العمل. كان بلاشك سليما. فقطع مراحل التعليم بنجاح واستقبل حياة العمل والأمل. وتميز عنا بدخل خاص وشيء من الجاه. ولم يتأخر عنا خطوة في اهتمامه بالحياة العامة. ولكن معني يصدر عنه ما يعتبر شذوذا في القول والسلوك. واستفحل الأمر حتي اضطر إلي الاختفاء. مأساة تذكر وما أكثر المآسي.. قال بثقة:



ـ لا أهمية للعلم الذي تعجبون به، يوجد علم حقيقي واحد وهو مضنون به علي غير أهله..



أدركت وأنا أستقبل الدندورمة التي طلبتها أن علي أن أجاريه بحكمة وحذر، فهززت رأسي هزة المقتنع، التفت نحوي متسائلا:



ـ ماذا تعمل؟



ـ من رجال التربية والتعليم..



فقال باستخفاف:



ـ طظ



فضحكت ولكنه تجهم قائلا:



ـ هذا إجرام!



فقلت كالمعتذر:



ـ الناس العاديون في حاجة إلي ذلك.



ـ بهائم ضالة، وقعت في الشرك وعميت عن النور الحقيقي!



فقلت ملاطفا:



ـ هذا الدور لا يتطلع إليه إلا الخاصة..



ـ بل هو متاح لكل قادر علي النجاة من السجن.



ـ السجن؟



ـ أعني مخزن القمامة الذي تسمونه العقل!!



فقلت مداهنا:



ـ صدقت.



تري ألم ينتبه إلي الأحداث التي عاصرها؟؟ الحروب، المآسي، الغلاء، الديون، الفساد؟ تذكرت الأجيال، من اعتقل ومن شنق ومن هاجر ومن فسد ومن يتغرب. تذكرت ضحايا الأزمات القلبية والانفجارات المخية، أكان الأفضل أن يهيموا في النور والملكوت؟ أهو جدير بالرثاء أم الحنق؟ وألح علي سؤال فسألته:



أأنت راض عن حال بلدنا؟



فقال بغضب:



ـ كل شيء جميل إلا الناس



فقلت كاظما غيظي:



ـ حدثت أمور خطيرة، وكل يوم تحدث..



ـ ما أنت إلا أسير للأشكال والألوان..



وسكت، فاستدرك:



ـ لم يحدث شيء علي الإطلاق، هذه هي المأساة!



لم أعد أجد فيه ما يثير اهتمامي. سرعان ما تجاهلني سابحا في فضاء المحل، وبصفة خاصة في سقفه المزخرف بالتهاويل. وندت عنه اشارات كأنما يخاطب المجهول، قلت لنفسي: إنه الحي الميت أو الميت الحي. ورغما عني عقدت مقارنة بين غيبوبته السعيدة وأرقي المرهق فحسدته للحظة عابرة.. مجرد لحظة عابرة.



 



3 الغد قادم أيضا



 فيلا؟، لا والله إنها لسراي. تشغل حيزا هائلا فوق جبل المقطم. ويضفي عليها طرازها العربي مذاقا خاصا من الأبهة والعظمة. حديقتها زهراء مترامية تشمل ثلثي المساحة الكلية، حمام السباحة في الوسط علامة عز نادرة، جلسنا من حوله لعشاء ولسماع نخبة من المغنين والمغنيات يصبون الكلمات المصرية في أوزان إفرنجية تحت عناقيد المصابيح الكهربائية المغروسة في الغصون، الداعي صديق قديم، هو اليوم نجم سينمائي يحظي بشهرة متطايرة ومحبة آسرة، أراد السميع العليم أن يمتعه بها وهو في عز الرجولة والجمال.



واختصت مائدتنا بنفر من الرجال، لا يمتون للفن بصلة ولكنهم يمثلون صداقة الصبا والزمان الأول. جلسنا في شبه غربة نتهامس في غمار صخب الوسط الفني ونتطلع إلي الوجوه فنقول هذا فلان وهذه علانة وذاك بين بين، ولا نكف عن الأكل والسمر، الحق أن عريس الليلة الذى يحتفل بافتتاح مقامه الجديد أغدق علينا ألفة وأنسا بوفائه وتمسكه بأصول ماضيه، رغم انهماكه في العمل المتصل ما بين السينما والمسرح والتليفزيون. وعمق من جذور الصلة القديمة أن أحدنا يعمل محاسبا لضرائبه ومستشارا ماليا له، واخر تزوج من عمته في الأيام الخالية.



رحت أراقبه وهو ينتقل بين الموائد مرحبا ضاحكا مداعبا مؤانسا، كاد يتوهج تألقا وجمالا وصحة وعافية. هي السعادة عندما تجود نفسها بسخاء وتجعل من الواقع حلما من أحلام اليقظة.



وقال أحدنا بحرارة:



ـ ربنا يديم عليه النعمة.



فقلنا آمين، بعدها صمت مباغت كأنما لم يجيء مصادفة تجلت في الأعين نظرة جادة كأنها لون الصمت. هل رحنا نتذكر تقلبات الدنيا واحفظناه في ذلك من الشعر والنثر؟!.. وتذكرت زملاء كانوا مثالا للوجاهة وكيف عصفت بهم الثورة وحولتهم إلي صعاليك تعاف النفس منظرهم، وليست الثورة وحدها التي تعبث بالمصائر، فلأي حشرة دور وربما لفحة هواء أو نزق النشوات. ما علينا، اللهم احفظنا، واحفظ لنا صديقنا الوفي الكريم، وإذا بصديق يعبر الصمت متسائلا:



ـ هل تتذكرون؟



نظرنا نحوه مستطلعين بقلوب خالية إلا من السرور، فابتسم متواصلا.



ـ ليلة الشطرنج في مقهي إيزيس!



وأكثر من صوت قال.



ـ عليك اللعنة.. ماذا ذكرك بها؟



وندت عنا ضحكات خافتة تناسب المقام فعاد الصديق يقول الذكري مقيمة في أعماق ذاكرتي.



ونحن أيضا مثله ولكنها لا تكاد تخطر بالبال! إلا كل حين ومين، كان صاحبنا يلاعبني شخصيا وسط حلقة من المشاهدين. بدأت تحريك جنديين وانتظرت أن يبدأ. لكنه لم يبدأ. بل نظر في وجوهنا نظرة غريبة وقال:



ـ سأغادر دنياكم بعد دقائق!



ظنناه يمزح ولكن وضح لنا أن وجهه شديد الشحوب وأن نظرة خابية تطل من عينيه. مع ذلك قلت له مازحا.



ـ العب أو سلم!



سرعان ما انطرح جذعه إلي مسند الكرسي وشهق شهقة مخيفة ثم غاب عن الوجود. من ينسي ذلك المنظر؟ من ينسي ارتباكنا وفزعنا؟ من ينسي ضياعنا في قصر العيني حتي صباح اليوم التالي؟. ما كان أبأسك يا صديقي في تلك الأيام. ألم نطلق عليك بحق الشاكي الباكي؟ دائما تشتكي من عمك الوصي عليك كما تبكي حبك الخائب ولكن ماذا؟.. هل أفلتت منا بعض التفاصيل؟



يقول أحدنا.



ـ كان الحب وراء محاولة الانتحار



فيؤكد آخر



ـ بل عمه.. كان فظيعا حقا وصدقا



لا أهمية الآن لذلك، المهم أن صديقنا الذي أرجعنا إلي الماضي تساءل.



ـ ألا يعني ذلك أن الانتحار خدعة وخرافة؟!



وخضنا في حديث الانتحار طويلا وهو ذو احصائيات مثيرة وبخاصة إذا تعلق بالأمم الراقية. ولكن الجو الجميل الذي نتنفسه دفعنا إلي التهوين من شأنه ووحشيته.



ـ اليأس حال تمر وكأنه لم يكن.



ـ تصوروا لو لم تنقذه العناية فمن كان يحظي بالنجومية؟ ومن كان يشيد هذه السراي؟.. ومن كان ينعم بهذه السعادة؟!



واقترح أحدنا أن نذكره بليلة الشطرنج ولكننا رفضنا الاقتراح رفضا قاطعا. وإذا بالعريس يقبل نحونا، وجلس بيننا وهو يتساءل: هل ينقصكم شيء؟



فشكرناه وأثنينا عليه بما هو أهله وقال أحدنا



لا مطلب لنا إلا أن يديم الله عليك نعمته..



فحمد الله.. ودهمه صمت مريب. ثم قال بنبرة اعتراف



صدقوني، أشعر أحيانا بأنني نلت فوق ما أتمني، وأتمني ولو للحظة نادرة أن يأخذني الله من فوق قمة السعادة!!