عدت من بيروت قبل عدة أيام، حيث قضيت أكثر من أسبوعين فى ضيافة مركز بحثى مهم، كانت فرصة للاقتراب من الوضع اللبنانى خاصة بعد حوارات مفتوحة مع بعض شباب لبنان الساخط على الأوضاع التى وصلت اليها بلاده، واستمرار الانسداد دون وجود بارقة أمل، أو كما يقال ضوء ولو محدود فى نهاية النفق.
لبنان كله فى حال يرثى له، نخبته التاريخية التى تتحكم فى كل شىء يُنظر اليها باعتبارها نخبة فاشلة فاسدة نهبت البلد، والآن لا تستطيع حتى أن تتفق على اختيار رئيس، وتنتظر الاشارة أو البشارة من بلد آخر يبعد عدة آلاف من الكيلومترات، هى أقرب الى مافيا حسب قول أحد الشباب اللبنانيين المتحمسين، نهبت سابقا وتُضيع البلد حاليا.
أما الأجيال الجديدة ورغم علو مهاراتها وتعليمها فتشعر بالغربة والحيرة معا. وبعض منها يسأل نفسه صباحا ومساء هل هو مخطئ أم أنه مريض أم أنه فى اختبار لا يعرف طبيعته، فحين يسأل عن فرصة يجد الاجابة من الكبار انتظر قليلا حتى تعتاد ما يعتاد عليه اللبنانيون كلهم، أى البقاء فى أماكنهم دون حراك، ولتبقى النخبة الكبيرة سنا ومقاما مسيطرة ومهيمنة على كل شئ. والنتيجة أن تفقد طموحك وذاتك الى الأبد. ولذا فمن الطبيعى أن يبحث شباب لبنان عن فرصة للعيش فى بلاد الغربة لعلها تكون أفضل من العيش فى البلد الأم، فرصة للسفر فى الخليج أو بلاد بعيدة فى أمريكا الجنوبية أو بلد فى غرب إفريقيا أو جنوبها. المهم أن يخرج الشاب سائحا هائما من أجل الفرصة والرزق. ومن الصدف غير السعيدة أن يرى المرء فى مطار بيروت شابا وقد وجد ضالته فى السفر الى بلد أمريكى لاتيني، وفى قلبه وعقله ما يدله على أنه مقدم على مواجهة مجهول بعيدا عن الأهل والاصدقاء والأحبة، والنجاح غير مضمون، والمغامرة هى الأساس، وليكن ما يكون، وما أن يودع أهله وأصدقاءه للمرة الأخيرة رؤية العين فى المطار، واذا بالجميع يبكون بكاء شديدا، وتتساقط الكلمات عفوية من الجميع متى نلتقى ثانية ويمسك أحدنا يد الآخر، يمسح وجهه وينظر فى عينيه. حتى أنت أيها الغريب تتساقط الدموع من عينيك مشاركة فى هذا الموقف الانسانى رغم أنك لا تعرف أحدا منهم.
مظاهرات بيروت الأخيرة تحت شعار «طلعت ريحتكم»، نظمها ناس عاديون اجتمعوا على حق طبيعى فى أن يكون بلدهم نظيفا خاليا من النفايات ومن المحسوبية ومن التجاهل والاستهبال. كان الشعار والدعوة الى التظاهر موجودة فى كل مكان فى بيروت، على حوائط المبانى والسيارات الخاصة جنبا الى جنب الفضاء الالكترونى تعبيرا عن الغضب ودفعا للحكومة أن تنتهى من حالة البلادة التى تتدثر بها فى هذا الملف الحيوي، وأيضا فى ملفات أخرى عديدة أحالت حياة الناس الى نوع من الجحيم، فضلا عن الارتفاع الهائل للأسعار وبما يجعل حياة اللبنانى متوسط الدخل ضربا من التضحيات المستمرة بلا نهاية، أما محدود الدخل فهو فى بؤس مشهود الى يوم الدين.
المشكلة فى لبنان أن النخبة منفصلة تماما عن الناس، الرموز السياسية نفسها المعروفة من أربعة عقود لم تتغير، علاقاتها الصراعية والتنافسية ذات الأبعاد الشخصية والطائفية والحصص فى المراكز العليا أصبحت أمرا عاديا ومعتاداومُملا فى الآن نفسه، وبالتالى ضاعت حقوق الناس ومصالحهم حتى البسيط منها، مثل أن تكون هناك جهة ما مسئولة عن جمع النفايات واستخدامها أو حرقها أو طمرها أو أى شىء آخر ينهى معاناة الناس فى الحياة وسط «الزبالة والقاذورات».
الثورة الشعبية على انتشار النفايات وتكلس الحكومة فى اتخاذ موقف أو معالجة الامر بنوع من الهمة، ليس سوى بداية موجة غضب عاتية ضد النخبة الحاكمة، وما الشعارات التى رُفعت من قبيل يسقط النظام وتسقط الحكومة وليذهب الجميع الى الجحيم وباقون حتى تتحق مطالبنا المشروعة وغيرها، ليست سوى مخزون غضب عام لن تنفع معه المسكنات أو المناورات السياسية المعتادة. واذا كان الغضب قد ارتفع معدله بسبب قيام بعض قوى الأمن باستخدام العنف ضد المتظاهرين والقنابل المسيلة للدموع والرصاص المطاطى، فالمسألة تنذر بما لا يُحمد عقباه ان لم تتم معالجة الأمر ومحاسبة الذين اخطأوا من قوى الأمن محاسبة علنية وشفافة. واذا كان قرار وزير الداخلية نهاد المشنوق باخلاء سبيل كل الذين تم توقيفهم من المتظاهرين يمثل خطوة ايجابية وأسهم فى تهدئة الوضع نسبيا، فان اغفال المحاسبة للمخطئين قد تعطى اشارة خاطئة وسيكون لها نتائج غير محمودة لاسيما وأن هناك كثيرين يرون أن الوضع اللبنانى يستحق المطالبة بتغييره جذريا، أو بعبارة أخرى بدء مواجهة شعبية لنخبة فقدت رصيدها عند غالبية اللبنانيين.
لقد نزل اللبنانيون الى الشارع بدعوة من أنفسهم، وهى مفارقة كبرى سوف يرصدها التاريخ، فقبل أسبوعين من هذه المظاهرات وقف العماد ميشيل عون رئيس التيار الوطنى الحر مناديا أنصاره واللبنانيين المسيحيين بالاستعداد للنزول الى الشارع على خلفية رغبته فى أن يكون رئيسا دون أن يكون هناك العدد الكافى من الأصوات فى البرلمان المعطل عمدا لمنحه هذا المنصب، وكان أن حذر عون الجيش وقوى الأمن من مواجهة انصاره اذا نزلوا الشارع فى التوقيت الذى سيحدده هو لاحقا. وقتها تنصل المقربون من الرجل ودعوته للنزول الى الشارع باعتبار أن الوضع اللبنانى وما يحيط به من مخاطر لا يحتمل هذه المغامرة. أما المعارضون له فقد أخذوا عليه تهديده الجيش ورئيسه واعتبروا التهديد تجاوزا خطيرا لا يقبل التسامح أبدا. صحيح أن العماد عون استخدم شعار الحفاظ على حقوق المسيحيين، لكن قطاعا كبيرا من المسيحيين المعارضين له شككوا فى الأمر ورأوا فيه انتهازية سياسية مرفوضة.
ولذا جاء نزول الناس الى الشارع بمنزلة رسالة قوية الى النخبة بأسرها بأنها باتت فاقدة للمصداقية ولا ثقة فيها. لقد حدد اللبنانيون أنفسهم طبيعة الدعوة والرسالة ورسموا الموقف كله ولم يهتموا بتجاهل النخبة السياسية العتيقة العائشة فى الفراغ والعقيمة فى القرارات، وقرروا بدء معركة كبرى، معركة تغيير النظام، يحدوهم الأمل فى أن يستعيد لبنان رونقه الذى كان والذى فقده على أيدى نخبة أفسدها الزمن وباتت تستمتع بفسادها غير مبالية بمن يعيش حولها.