أحمد السيد النجار
محمد عبد الهادي علام
غبار الأحزان
14 أغسطس 2015

أنا رجل أقترب من سن الخمسين، وقد ولدت فى أسرة ثرية لأب يعمل بالتجارة‏,‏ وعندما بلغت سن السادسة انقلب حال أسرتى رأسا على عقب‏,‏ وأعلن والدى افلاسه‏,‏



 واضطر مرغما للسفر إلى الخارج لكى يعيد بناء نفسه, وينأى بى وإخوتى الأربعة ووالدتى عن المشكلات التى كانت تنتظرنا بعد ما ألم بنا، وهناك عرفت معنى الغربة ومررت بتجارب مؤلمة وأنا مازلت طفلا، والتحقت باحدى المدارس، وواصل والدى كفاحه وتحسنت أوضاعنا المادية، وظللت فى ذلك البلد حتى انهيت دراستى الثانوية, وعدت الى مصر للالتحاق بكلية نظرية لا أحبها, ولكنه التنسيق, وتعثرت فى دراستى لأول مرة فى حياتى حين كنت أعيش بمفردى وساءت حالتى النفسية كثيرا..



ولم يمر وقت طويل حتى عاد والدى الى مصر, وأحيا تجارته القديمة, ونال شهرة واسعة خلال فترة وجيزة, الأمر الذى دفعنى الى أن أترك دراستى وأعمل بتجارته ظنا منى أنها الأمان والمستقبل, ورغبته فى أن أكون بجانبه, وسمعت قصصا كثيرة ممن حولى عن أنه تعرض لظلم شديد ومؤامرات من البعض أدت الى افلاسه قبل خمسة عشر عاما، وأعجبنى اصراره على النجاح والوقوف على قدميه من جديد.

وفكرت فى الزواج, ولم يكن هناك أفضل من زميلة لى تعرفت عليها قبل أن أترك الدراسة, وشعرت بحب جارف لها، وتملكتنى مشاعر الحب الأول, ولمست فيها الحنان والصدق, ورأيت فى عينيها الاهتمام, وأصبحت هى ملاذى الوحيد حين يشتد بى الضيق, وألحت علىّ أن استكمال دراستي, فى كلية أخرى بجامعة خاصة, وبالفعل التحقت بكلية عملية لها علاقة بتجارة والدي، واقبلت على الدراسة فيها بشغف, وتقدمت لخطبة فتاتي, ووافق أهلها وانغمست فى حياتى أبنى عش الزوجية وأساعد والدى فى إدارة أعماله.

وفجأة أتت الرياح بما لا
تشتهى السفن, إذ استيقظنا ذات صباح على حريق هائل دمر كل شيء نمتلكه, وخسرنا خسارة فادحة تقدر بملايين الجنيهات، وعرف والدى طريق الاستدانة من التجار والبنوك, وقد ضمنته فى كل القروض التى حصل عليها وأنا استعيد الأيام السوداء التى عشناها عندما سافرنا الى الدولة العربية بعد الافلاس.

وتلفت حولى فوجدت فتاتى وأشفقت عليها مما نعانيه فعرضت عليها فسخ الخطبة لكى تتحرر من أى قيود وتختار من هو مناسب لها بعد كل ماحدث لي, فرفضت باصرار، ثم اتخذت قرارا بالتوقف عن الدراسة لكى أحاول إنقاذ ما يمكن إنقاذه من تجارة والدي, وكان للقدر رأى آخر فلقد أفلس من جديد, ووجدتنى مهددا بالسجن وبلا عمل ولا شهادة وأنا فى الخامسة والعشرين من عمري، فاستعذت بالله وفكرت فى اقامة مشروع منفرد لى فى نفس المجال الذى نعمل به, وطلبت من أسرة خطيبتى أن نتمم الزواج فوافقوا على استحياء, وبدأنا حياتنا الزوجية, ولكن العواصف اشتدت علىّ، وواجهت مطاردات قضائية عديدة بسبب ضمانى والدى فى قروضه السابقة، وتوقف مشروعى الجديد, ولم تتحمل زوجتى هذا العذاب، وأصرت على الطلاق، ولا أدرى كيف تحول الحب الجارف الى طلب الانفصال، لقد كانت هذه الصدمة هى أقسى ما واجهته، لكنى تحديت نفسى وأكملت تعليمي، والتحقت باحدى الشركات موظفا لأول مرة، وتنقلت للعمل فى أكثر من شركة, ومرت سنوات وأنا اتقدم بشكل ملحوظ وجاءتنى فرصة عمل بدولة عربية, فسافرت وحققت بعض ما كنت أحلم به، وعدت إلى وطني، وارتبطت بزوجة صالحة صبورة تحبنى وتخاف الله, ورزقنا الله بطفل جميل هو قرة أعيننا، وبعت جزءا من ممتلكات والدى وسددت ديونه كلها، وقد اصيب والدى بمرض شديد نقل على أثره الى العناية المركزة باحد المستشفيات الخاصة, ولم يمكث فيه طويلا حتى فاضت روحه الى بارئها، فإنهرت باكيا واستعدت كل فصول حياتي, وما عاناه والدى من مصاعب وآلام, وتذكرت قصته مع الكفاح والصبر والنجاح ثم المرض والرحيل وقد أردت ان أشركك وقراء بابك الجميل فى معرفة قصتى والدعاء لأبى بالرحمة والمغفرة ولى بالتوفيق ومواصلة مشوار الحياة بما يرضى الله وما يجعلنا آمنين من غدر الدنيا.



ولكاتب هذه الرسالة أقول:



«لا يأس مع الحياة», هذا هو الشعار الذى يجب أن نتخذه منهجا لنا ونحن نتلمس الطريق السليم، فلو أن الإنسان استسلم للضغوط والمتاعب لن تقوم له قائمة وسوف يجد نفسه بين عشية وضحاها أسير الوهم والمرض, لكنك برغم كل ما عانيته من ظروف قاسية واصلت حياتك بهمة وصبر فكان حقا لك أن يثيبك الله بالعمل المناسب والزوجة الصالحة, بعد أن هجرتك محبوبتك الأولى ولم تقو على مواجهة الأنواء والأعاصير.

أما والدك الراحل فلقد كان نموذجا مشرفا للرجل العصامى الذى بدأ حياته من نقطة الصفر, ومضى يواصل كفاحه ونجاحه، ولم ينكسر أمام المحن المتوالية, وكان صبره عظيما, ومثله يستحق أن يكون مثلا أعلى فى الاصرار على النجاح والرضا بما قسمته المقادير، ولقد فعل كل ما عليه وترك الأمر لله, ويكفيه أنه ظل حتى النهاية متماسكا, وقانعا بما هو فيه.



وأحسب أن رجلا مثلك يجب أن يعتز بنفسه وبقدراته ويحمد الله على ما أفاء به عليه, ويشعر أنه مازال يمسك بأوراق الربيع وزهوره, ولا يتسرب إليه اليأس، فيشعر أن أوراق الخريف قد بدأت تتساقط من حياته حتى انه لم يبق له فى الدنيا أمل.

وإننى ألمس بين
ثنايا رسالتك إيمانك بالقضاء والقدر، وبأن الإنسان لا يأخذ من الدنيا إلا ما قسمه الله له، وإذا كنت تؤمن بذلك حقا فما الذى يدعوك للشعور بهذا الاحساس المرير.. إننى أرجوك أن تنفض عنك غبار الأحزان, وأن تنظر إلى الدنيا بعين جديدة غير هذه العين اليائسة, وكلى ثقة فى أن تتبدل أحزانك على ما واجهته فى حياتك وعلى رحيل والدك إلى أفراح بما أعده الله للصابرين الذين يتقونه فى كل خطوة يخطونها.. فاستبشر خيرا وأسأل الله لك السعادة ولوالدك المغفرة، والله المستعان.