كان قد وقف فى وسط المكان منزعجاً، إذ كانت تلك أول مرة يعمل فيها طبيبا فى القرية، ولكنه حاول أن يخفى اضطرابه، حتى إنه نجح فى ذلك لأنه لم يكن يتصور أن أحدا يلاحظه وهو واقف بجانب الفلاح. قبل ذلك كان هذا الفلاح جالسا فوق حماره يغنى، ثم فجأة انقطع الغناء، وكان هناك فلاح آخر سائرا بجانب الفلاح الذى يغنى، وهذا الفلاح الآخر استغرب لأن الفلاح الذى يغنى قطع غناءه فى منطقة من الأغنية لم يتعود من الفلاح المغنى أن يقطع فيها الغناء من قبل أبداً، وعلى ذلك فقد أدرك أن شيئاً ما قد حدث للفلاح المغني، فإلتفت اليه ورآه وهو جالس على الحمار لا يزال، ولكن بطريقة مختلفة عن الطريقة التى كان يجلس بها من قبل، فساق هو الحمار بنفسه، وراح يستمع للهاث الفلاح الجالس فوق الحمار، حتى وصل الى المكان الذى كان واقفا فيه الطبيب، الذى كان يمارس الطب لأول مرة فى القرية التى جاء تكليفه بها، وقال الطبيب الناشئ فى نفسه ياخبر أسود! أتكون أول حالة أكشف عليها بمثل هذه الصعوبة؟! واضطرب من أجل ذلك، حتى إنه صعد إلى المريض بنفسه، وأصبح جالسا هو الآخر على الحمار، وتذكر أباه وأمه فى تلك اللحظة:
(أنا طلعت الأوَّلْ)، كان ذلك أول ما نطق به، بعد أن استقر واقفا على عتبة المطبخ، كان مطبخا متوسط الحجم، ودوت كلماته بداخل المطبخ، حتى أن أمه انزعجت من صوته العالى، لم تُصَبْ الأم بخيبة أمل، ولااستقبلت نبأ طلوعه الأول بهذا الفرح الطاغى الذى كان يتوقعه، ولكن مشاعرها كانت بَيْن بَيْن، وأذهله ذلك، وقف حائرا رافعا الشهادة بيد، وماداً اليد الأخرى الى الحلة، التى كانت فوق البوتاجاز، حرّرَ قطعة لحم ساخنة وإلتهمها مباشرة، وكأنه يعاقب نفسه على حماسه لاحرازه المركز الأول، وتحمل اللسع القاسى، دون أن يعبِّر وجهه عن أى ألم. قالت وهى واقفة عند الحوض: (الثالث أوحتى الرابع يكفى، لا أريد أن يحسدوك ياولدى!)، تمعن فى كلماتها المباشرة ، أيقن انها أكثر منه قدرة على توصيل افكارها، أفرحه ذلك، ألهمته كلماتها، حتى أحس بأنه لم يوفها حقها فى كثير من المواقف السابقة التى تصرفت هى فيها على نحو مشابه، رغم أنه كان يأمل عكس ذلك.أغرورقت عيناه وسالت أنفه، وحاول ما استطاع أن يجنِّبها رؤية دموعه، ونجح فى ذلك، وأحس بالزهو لنجاحه فى إخفاء الدموع، الزهو الذى لم يستطع أن يهبها أياه رغم محاولاته المستميتة كى يفعل، باءت كل محاولاته بالفشل وهو يسعى الى أن يحقق لها لحظة سعادة ولو قصيرة...
ولكنه بدلا من ذلك تسبب فى إبكائها وقولها إنه كان السبب فى رقدة أبيه مريضا بالكبد، وتذكر أنها قالت ذلك بصوت مرتفع وهى جالسة على السرير، فى نفس الحجرة التى رقد فيها أبوه مريضا بعد ذلك، قبل أن يدخلوه إلى المستشفى التى مات فيها. لقد كانت أخطاؤه عظيمة، كيف هان عليه أبوه الذى كان ينفق عليه حتى بعد أن تزوج وأصبح يكسب النقود؟! (لاتحمل همَّا طالما أناحىْ) عبارة كان يصر عليها أبوه ويكررها كلما التقيا وجلسا سويا فى حجرة الصالون فى شقة العائلة وهو يهز ساقه ـ تلك الهزة التى اعتادها منه منذ أن بدأ يعى الحياة ـ وقد اغمقّت قدماه، وانتفختا من أثر المرض.كيف عذَّب أباه كل تلك السنوات وأبوه يراه كل صباح، وهو ذاهب الى أداء الامتحان وكأنه ذاهب الى مشنقة ؟، مما كان يُحزن أباه. ألم يكن قادرا على إخفاء رعبه من الامتحان حتى لايصيب أباه بكل هذه الأحزان؟... كيف سمح لنفسه أن يُظهِر اضطرابَه وهو يمارس مهنته لأول مرة، وقد جاء أبوه إلى المستشفى كى يراه لابسا البالطو الأبيض، حتى ان ردوده على أبيه ـ وهما واقفان أمام المستشفى ـ جاءت محبطة لأبيه ، ولم يكن يقصد، ولكن شيئا أقوى منهما كليهما أفسد اللقاء؟! لماذا واصل سخافاته وضحك وأبوه يعطيه قصة لأرسين لوبين، بعد أن عارض أبوه كثيرا ميوله لكتابة القصص، والانغماس فى قراءتها، (لأن القصص من وجهة نظر أبيه تلهيه عن المذاكرة)، ألم يرضخ أبوه أخيرا لرغباته؟! وهل ذنب أبيه أنه لم يكن واعيا بما يكفى لكى يدرك أنه قد تخطى منذ زمن مرحلة أرسين لوبين؟! ولماذا لم يقبِّل قدم أبيه ندما، وقد علم أنه كان يشترى سراً الجريدة التى نشر فيها قصته، كى يُرى القصة لزملائه فى العمل؟!.... وعندما صفعه أبوه مرة صفعة ضعيفة مترددة، عذَّب أباه ليالى طويلة، وهو يرفض محاولاته للتقرب منه، حتى إذا جاء أبوه أخيراً بذقن نابتة ووجه شاحب مسهَّد، ووقف أمامه، لم يحتمل، وارتمى على كتف أبيه وبكى...
كان الفلاح قد شُلْ، مما عظَّم اضطرابه، وقال فى نفسه لا حل لهذه الورطة إلا أن أكتب له روشتة....
بعد أيام كان جالسا فى الأجزخانة الوحيدة فى القرية، دخل رجل لم يره من قبل، مع توالى الحديث أدرك أن هذا الرجل كان واحدا من الذين تحلقوا حوله، وهو ذاهل لايدرى ماذا يفعل للفلاح المشلول، قال الرجل: لقد لاحظتُكَ بدقّة، بدوتَ كطبيب عبقرى يبحث عن حل لمشكلة شائكة، رأيتُكَ وأنت تفكِّر بعمق استغرق ذلك منك وقتاً طويلاً، ثم كتبتَ روشتة، و نزلتْ من فوق الحمار بعد ذلك مجهداً إجهاداً شديداً.. تخيّلْ مع أول حبة شربها الرجل زال الشلل، لابد أن تبقى فى قريتنا طويلاً.....
مازلت أعمل فى هذه القرية حتى بعد أن اُحلتُ إلى المعاش، قررتُ أن أموت بها وبنيت فيها قبرى......
مــــــكاشــــــــــفة
الطبيب قال ما هذا الذى يرتديه يبدو كبالطو روسى?.. وشعرى تحرك بفعل الهواء.. وكان مع الطبيب عدسة مكبرة، ونظر الى أنحاء جسدى العارى بواسطة العدسة، وأمى كانت ترتدى السواد. والطبيب قال: ماذا حدث... فقالت: امى ماتت.. فقال: لقد كانت مريضتى المستديمة... وقال: اقلبيه على بطنه.. واحسست بأشعة الشمس تدفئ ظهرى، وقالت يكثر فى الحر ويقل فى الشتاء. فقال: أيوه أيوه وبدا عليه انه فهم...
وقال الطبيب: فى أى منطقة تسكنون؟.. فقالت: إلمنيل، فقال: ألا تعرفين أنكِ تعيشين فى جزيرة... وقال: أقرب إلى البحر الكبير أم الى الصغير، فقالت: الصغير...
وكتب روشتة ولم يقل شيئا بعد ذلك....
وعندما همتْ بترك الغرفة قال: لو سمحتى.. فقالت: أيوه.. فقال: أبدا مفيش.. وحارت أمى فى أمره، ولكن مع المزيد من فهمها للتعبير البادى على وجهه أدركت أنه مخضوض، وشعرت بالشفقة، وسارت باتجاه الحوض وملأت له كوبا بالماء. وقال هو: مش عارف أشخًص وخايف الدوا اللى كتبته يدهور الحالة ممكن الروشته لو سمحتى.. وانتظر رد فعلها، ولما أعطته الروشتة قال متشكر.. ثم ضرب الجرس وطلب من الممرضة أن تعيد لها فلوس الكشف...
- آتى الى العيادة بالعافية وأدخلها مقبوض القلب، أبى لا يفهم ذلك وأنا لا أستطيع أن أبوح.. وبدا كمن يطلب منها حلًا..- لم أتعلم جيدًا.. وبدا مثقل القلب.. وقالت: أنا أعرف المرض إنه أبو اللكيم، ثم عرت بطنى، وأرته الطفح، ونقلت إليه خبرتها...
وقالت: أمى لم تكن تصرف روشتاتك كانت تأتى اليك لأنها تستبشر بيك.. وقال: عندما قلتى إنها ماتت سقط قلبى وخُفت ..-لا لم تكن تصرف روشتاتك... ومرت فترة صمت...- الروشتات كلها عندى فى البيت... وحمد الله فى سره وقال: أعود إلى البيت وأتذكر كل ماحدث، وأفكر فى الأدوية التى كتبتها، ويصيبنى الرعب، أفكر فى ترك المهنة، ولكن أبى لن يرضى عن ذلك. وقالت: هذا لأن ضميرك حى، وهذا ماحببنا فيك أنا وأمى... وهى تقوم قدّم لها يده بكل النقود التى فى محفظته. قالت: ميصحش، كانت تستبشر بيك... وذهل قليلا عما حوله، ولما أفاق كانت قد غادرتْ بعد أن تركت جزءًا من النقود على حافة المكتب....