أحمد السيد النجار
محمد عبد الهادي علام
ماراثون سعودى لإعادة تأسيس التحالفات
18 يوليو 2015
كتب:د. محمد السعيد إدريس

على الرغم من أن الزيارة التى قام بها ولى ولى العهد السعودى النائب الثانى لرئيس مجلس الوزراء وزير الدفاع السعودى الأمير محمد بن سلمان آل سعود إلى موسكو (18-19 يونيو الفائت) كانت مفاجأة ومن العيار الثقيل، خصوصاً بالنسبة لنتائجها التى تؤسس لتعاون سعودي- روسى يصعب عدم وصفه بأنه استراتيجي، إلا أنها لم تجيء من فراغ.



وجاءت فى الوقت المناسب جداً، سواء بالنسبة للسعودية أو لروسيا. كانت هناك حوافز، بل وضغوط قوية تدفع بالسعودية نحو روسيا، وكانت هناك متغيرات دولية وإقليمية تدفع روسيا- ربما للمرة الأولى وبهذا المستوى - نحو السعودية، فى توجه يتعارض مع المقولتين التقليديتين اللتين تحكمان أغلب أنماط العلاقات بين الدول؛ مقولة: «عدو عدوى صديقى» ومقولة «صديق عدوى عدوى».. فروسيا اتجهت بأيد مفتوحة نحو السعودية فى وقت يتفاقم فيه الصراع بين السعودية وكل من إيران وسوريا أبرز الحلفاء الإقليميين فى الشرق الأوسط لروسيا.



الرياض وعقدة الموازن الخارجي



التوجه السعودى الجديد نحو روسيا يمكن وصفه بأنه أول انقلاب سعودى على الحليف أو الموازن الدولى التاريخي، وأعنى الولايات المتحدة الأمريكية، بل وعلى سياسة تكاد تكون مستوطنة فى منطقة الخليج العربى تجذرت منذ الانسحاب البريطانى رسمياً من الخليج عام 1971، هى سياسة الاعتماد على «موازن خارجى»، حيث كانت بريطانيا قبل هذا التاريخ هى القوة الدولية الضامنة للأمن والسلام والاستقرار فى الخليج باعتبارها «الدولة الحامية»، وبعد الانسحاب البريطانى كانت الولايات المتحدة الأمريكية هى من ملأ فراغ الانسحاب البريطاني، واستمر هذا الحال على مدى أكثر من أربعة عقود مضت، لكن الأمور اختلفت كثيرا فى السنوات الأخيرة الماضية، وبالتحديد منذ الانسحاب الأمريكى من العراق، الذى خلَّف ما يمكن وصفه بـ «احتلال إيرانى» غير رسمى للعراق، ومنذ تفجر موجة الثورات العربية وتخبط المواقف والسياسات الأمريكية تجاه تداعيات هذه الموجة الثورية بشكل يتعارض مع المصالح والسياسات السعودية.



لكن ذروة الأزمة بين السعودية والحليف الأمريكى كانت فى أثناء وعقب جولة المفاوضات الأمريكية مع قادة دول مجلس التعاون الخليجى فى واشنطن ومنتجع كامب ديفيد (13 و14 مايو 2015) التى جاءت صادمة بنتائجها لقادة دول مجلس التعاون وعلى الأخص المملكة العربية السعودية، وهى التى دفعت بالسعودية للبحث فى أفضل البدائل الكفيلة بتمكينها من عدم الرضوخ للإملاءات الأمريكية وبالذات إملاءات الرئيس باراك أوباما، ما يعنى أن الرياض قررت أن تخرج من سياج سياسة «الموازن الخارجى» وتأسيس أنماط جديدة من علاقات التكافؤ أو توازن المصالح مع قوى دولية فاعلة فى مقدورها أن تقدم للرياض ما لم ترغب واشنطن فى إعطائه من ضمانات ودعم لمواجهة الخطر والنفوذ الإيرانى الذى أخذت السعودية تتعامل معه كمصدر أول للتهديد، فكان التوجه نحو روسيا وفرنسا، وهو توجه يمكن اعتباره ضربة قوية لأنماط العلاقات التاريخية التى ربطت الرياض بواشنطن.



فعلى مدى العقود الأربعة الماضية كان الموازن الخارجى أو الحليف الخارجى الدولى (الولايات المتحدة وأحياناً بريطانيا أو فرنسا) والموازن الإقليمى (تركيا أو باكستان) يُعد بمثابة «الملاذ الآمن» للدول الخليجية لمعالجة اختلال توازن القوى فى الخليج، واستمر هذا التوجه للأسف، حتى بعد تأسيس مجلس التعاون الخليجى الذى كان مقدراً له أن يحقق التوازن المفتقد فى القوة بين دوله الست وكل من إيران والعراق، فلأسباب كثيرة تتعلق بخصوصيات المجلس ودوره الاستشارى المحدود لم يستطع أن يتحول بالدول الست أعضائه إلى ما نسميه بالتجمع الأمنى (Security Community)، رغم استمرار تمسك دول المجلس بصيغة الأمن العسكرى الذى استنزف قدرات مالية هائلة



الصراع مع إيران



وعلى الرغم من كل الإحباط السعودى والخليجى من تورط الولايات المتحدة فى تسليم العراق لإيران، والتردد فى التدخل العسكرى فى سوريا، والتلميح إلى انتهاج إستراتيجية أمريكية جديدة تعطى الأولوية لإقليم جنوب شرق آسيا على حساب الالتزامات الأمريكية فى الشرق الأوسط، وعلى الرغم من التقارب الأمريكى مع إيران، وقيادة واشنطن المجتمع الدولى للتوصل إلى اتفاق نووى مع إيران يجعل إيران »قوة نووية«، ويفتح أبواب التعاون الأمريكى الإيرانى فى قضايا إقليمية فإن السعودية والدول الخليجية الأخرى لم تتردد لحظة فى التجاوب «الحميم» مع أول إشارة أمريكية للتباحث والتفاوض حول القضايا المهمة، بل إنها اندفعت نحو واشنطن بهدف التوقيع على معاهدة دفاع مشترك أمريكية مع الدول الخليجية من أجل فرض «معادلة توازن قوى جديدة» فى الخليج بديلة للمعادلة القائمة التى تعمل لصالح إيران، أى أنهم حرصوا على الاستجابة لدعوة الرئيس الأمريكى باراك أوباما - بعقد لقاء موسع على مدى يومين (13 و14 مايو 2015) فى واشنطن ومنتجع كامب ديفيد - بدافع من خوض الصراع ضد إيران، اعتماداً على قيام الأمريكيين بالدفاع عن أمن هذه الدول، واعتماداً على أن يتولى الأمريكيون دعم القدرات العسكرية الخليجية من خلال التوقيع على معاهدة «دفاع مشترك» على غرار معاهدة «حلف شمال الأطلسى»، إضافة إلى الطموح بأن تتبنى واشنطن الرؤى والمطالب الخليجية وبالذات احتواء إيران والتعامل معها كمصدر أساسى للتهديد، حسب ما ذكرته صحيفة «واشنطن تايمز» على لسان »جيد بابين« مساعد وزير الدفاع الأمريكى الأسبق (فى عهد الرئيس جورج بوش) الذى قال إن »قادة السعودية ودول الخليج الأخرى سيحاولون فى هذه القمة السعى للوصول إلى اتفاق على شاكلة مذكرة تفاهم تلتزم الولايات المتحدة بموجبها باحتواء إيران وبيع دول الخليج أسلحة عسكرية نوعية«.



هذه المطالب لها معنيان، أولهما أن الدول الخليجية، وعلى الأخص المملكة العربية السعودية، ذهبت إلى واشنطن ولقاء كامب ديفيد من أجل تأسيس »معادلة توازن قوى إقليمية جديدة« بدلاً من معادلة توازن القوى الحالية التى تعمل لصالح إيران، وبالذات بعد نجاح إيران فى التوقيع على «اتفاق إطار» يضع أسس اتفاق طويل المدى لحل أزمة برنامجها النووى كان من المتوقع أن يعلن قبل 30 يونيو المنصرم. إن السعى السعودى إلى تأسيس معادلة توازن القوى الجديدة من خلال تحقيق التفوق المأمول فى القوة على إيران بالتحالف مع أمريكا وبالحصول على التسليح والتدريب اللازم هدفه التفوق على إيران إقليمياً ووقف الهجمة الإيرانية على دول المنطقة.



أما المعنى الثانى فهو أن دول الخليج عادت لتعطى كل الأولوية للدور الأمريكى وللتحالف مع أمريكا على حساب طموحات أخرى بديلة جرى التعبير عنها بأن تكون الشراكة الإستراتيجية المصرية الخليجية هى مركز الاهتمام أو الثقل فى بناء أمن الخليج والأمن القومى العربى وبالذات فى السنوات الثلاث الأخيرة وعلى حساب قناعة خليجية ترسخت خلال تلك السنوات أخذت تشكك فى جدية التزامات أمريكية مسبقة بأمن الدول الخليجية خصوصاً بعد الانحياز الأمريكى لإيران فى العراق وللإخوان فى مصر وعدم مشاركة الدول الخليجية موقفها من الأزمة السورية.



واشنطن ليست على الخط



لقد ذهب القادة الخليجيون إلى الولايات المتحدة بحزمة أهداف أشرنا إليها ليس لها أى وجود فى العقل الاستراتيجى الأمريكي، فالرئيس الأمريكي، وفى لقائه مع الصحفى توماس فريدمان (نيويورك تايمز 4/4/2015)، أكد أنه لا يرى فى إيران مصدراً للتهديد بالنسبة للسعودية ودول الخليج، وأن مصادر التهديد الحقيقية لهذه الدول كامنة فى داخلها بسبب إخفاق السياسات وإخفاق احتواء طموحات ملايين الشباب والعجز عن إشباع احتياجاتهم، وقالها بوضوح سافر إنه «لا يرى فى الخليج غير قوتين أساسيتين هما: إيران وإسرائيل»، وفى حديث مطول له مع موقع «بلومبرج» قال عندما سئل عن العرب وإيران »عندما تنظر إلى السلوك الإيرانى ستجد أن الإيرانيين استراتيجيون، وليسوا متهورين، يملكون رؤية عالمية. ينظرون إلى مصالحهم ويستجيبون لعوامل «التكلفة والعائد». وزاد على ذلك أن إيران «دولة كبيرة وقوية»، ترى نفسها لاعباً مهماً على المسرح العالمي، لا أظن أنها تملك رغبة انتحارية بل تملك الاستجابة للحوافز. أما عن السعودية والدول الخليجية فقال: «أعتقد أن هناك تحولات تحدث فى المنطقة، وهى تحولات أخذت الكثيرين منهم على حين غرة، والتغير يبعث دائماً على الخوف». والخوف الذى يعنيه هنا هو الخوف من البرنامج النووى الإيراني، والخوف من أدوار إيرانية إقليمية غير مرغوبة.



هذه الرؤية تتعارض كلية مع ما ذهب القادة الخليجيون إلى واشنطن وكامب ديفيد من أجله، فقد ذهبوا بثلاثة ملفات هي: ملف حفظ أو ضبط توازن القوى فى الخليج مع إيران، من خلال التوصل إلى اتفاقات صارمة مع واشنطن لدعم الخليج عسكرياً وأمنياً بشكل يكفل تحقيق توازن قوى حقيقى فى الخليج بينها وبين إيران يمكنها من امتلاك القدرة على الردع لضبط السلوك السياسى الإيراني. أما الملف الثانى فهو ضمان الأمن الإقليمى الخليجى بشراكة أمريكية- خليجية واضحة ومحددة، وأخيراً ملف الأزمات العربية المتصاعدة فى سوريا والعراق وليبيا واليمن وإيجاد الحلول المناسبة لهذه الأزمات.



هذا يعنى أن دول الخليج لم تذهب إلى واشنطن لتتوافق مع إيران حول تقاسم أدوار أو إيجاد حلول مشتركة، فهى لا تعترف بأدوار لإيران فى أى أزمة عربية، وتريد أن تمتلك قوة الردع فى مواجهة إيران، ومن هنا جاءت دعوة يوسف العتيبة سفير دولة الإمارات لدى الولايات المتحدة لمركز «مجلس الأطلسى للأبحاث» قبل أسبوع من اللقاء الأمريكى - الخليجى فى واشنطن وكامب ديفيد بأن مجلس التعاون الخليجى سوف يطالب «بتعهد كتابى وصيغة أكثر رسمية» لما وصفه بـ «اتفاق ودى» مع الولايات المتحدة »لحماية أمن دول الخليج«.



تطمينات نعم.. ضمانات لا!



.. وهكذا كان ما تحقق فى كامب ديفيد كان مجرد »تطمينات بلا ضمانات«.. لكن ما هو أهم هو أن الرئيس الأمريكى رفض أن تكون بلاده طرفاً فى صراع مع إيران. ورفض أن تكون العلاقات الخليجية - الإيرانية علاقات صراعية، ودعا إلى »وفاق قوي« بين الجانبين الخليجى والإيرانى برعاية أمريكية، وقدم الرئيس الأمريكى لقادة الخليج »تعهدات شفهية« غير مدونة بوثيقة رسمية لحماية الخليج من التهديدات الخارجية، واتفاق على مشروع تسليح ضخم يعزز من قدرات دول الخليج، لدرجة دفعت مجلة »فورين بوليسي« الأمريكية إلى وصف هذا المشروع التسليحى الضخم بأن »كامب ديفيد ليست دبلوماسية ولكن معرضاً للأسلحة«.



إذا تأملنا محصلة حوارات أو مفاوضات كامب ديفيد تلك فسنجد أن الرئيس الأمريكى دعا قادة دول مجلس التعاون الخليجى من أجل »تسويق اتفاقه النووى مع إيران« بعد التحفظات التى أبدتها بعض هذه الدول على هذا الاتفاق وليرد على تخوفات بعض هذه الدول من النوايا العدوانية الإيرانية ، وكان واضحا أن أوباما لم يكتف فقط بتسويق اتفاقه النووى مع إيران لكنه كان حريصاً أيضاً على التأسيس لـ »وفاق قوي« بين شركائه القدامى (السعودية ودول مجلس التعاون) وشركائه الجدد (إيران)، هذا معناه أن السعودية وباقى دول مجلس التعاون وجدت نفسها أمام ثلاثة خيارات: إما الرضوخ للتوجيهات الأمريكية، وهذا خيار مرفوض لأنه يتعارض مع منظومة الرؤى الأمنية والاستراتيجية للمملكة ولدورها الإقليمى الذى تتطلع إليه وبالذات كل ما يخص المنافسة والمواجهة مع إيران وليس التعاون أو التحالف معها بإملاءات أمريكية، وإما رفض المطالب والإملاءات الأمريكية والاكتفاء بالركون وانتظار حدوث تغييرات قد تحدث فى التوجهات الاستراتيجية الأمريكية بعد الانتخابات الرئاسية القادمة وهذا معناه تسليم كل الأوراق لإيران انتظاراً لتغيرات أمريكية قد تحدث وقد لا تحدث، وأما التحرك الإيجابى والبحث عن بدائل، وهذا هو الخيار الثالث الذى فرض نفسه على القيادة السعودية الجديدة التى أجادت قراءة مغزى تحولات السياسة الأمريكية، كما أجادت قراءة تطورات صراعات القيادة فى النظام العالمى الذى لم يعد يخضع لقيادة أمريكية مطلقة ويواجه منافسة تطالب بنظام عالمى متعدد الأقطاب فى وجود قوى مثل روسيا والصين والاتحاد الأوروبي.



للوهلة الأولى كان البعض من المراقبين يتوقع أن التوجه السعودى سيكون نحو إسرائيل كموازن إقليمي، والتى كانت قد أسرفت فى تصريحاتها، وعلى لسان كبار مسئوليها خاصة موشى يعلون وزير الدفاع بالدعوة إلى تحالف إسرائيلى - عربى (خليجى على الأخص) لمواجهة العدو المشترك، أى إيران، باعتبار أن إيران هى الداعم الأهم للإرهاب، لكن الإرهاب الذى تعنيه إسرائيل هو كل شكل من أشكال المقاومة ضد الكيان الصهيوني. تحدث الإسرائيليون عن أن الوقت بات ملائماً للارتباط بـ «الحلف السنى العربي» فى مواجهة «الهلال الشيعي» الذى تقوده إيران. هذا التوقع رجحته لقاءات حدثت بين شخصيات سعودية رسمية وشبه رسمية، وهناك من تحدثوا عن دور تركى مميز، أو تحالف استراتيجى مع تركيا، لموازنة أو لمواجهة إيران، لكن زيارة رجب طيب إردوغان لطهران بعد اندلاع حرب «عاصفة الحزم»، التى تقودها السعودية فى اليمن بأيام قليلة، كشفت أكذوبة «الموازن التركي»، كما تراجع وزن »الموازن الباكستاني« بعد تمنع البرلمان الباكستانى عن اتخاذ قرار بالمشاركة فى الحرب البرية ضمن »عاصفة الحزم« باليمن.



كل هذه الترجيحات ذهبت أدراج الرياح مع نقل أخبار زيارة الأمير محمد بن سلمان آل سعود لموسكو وبعدها لباريس. هاتان الزيارتان كشفتا أن السعودية لم تكن تبحث عن موازن تقليدى بل كانت فى حاجة إلى قوة دولية قادرة على ملء فراغ «التردد الأمريكي» فكان القرار بالذهاب إلى موسكو وواشنطن أولاً كرد فعل لخيبة الأمل السعودية من مفاوضات قادة الخليج مع الرئيس الأمريكى باراك أوباما، فى واشنطن وكامب ديفيد، لكن هناك سببا أو دافعا آخر إضافيا لا يقل أهمية يتعلق بالتطورات النووية المستحدثة فى إقليم الشرق الأوسط على ضوء تمسك الولايات المتحدة بإنجاح التوصل إلى اتفاق نووى طويل المدى مع إيران يعترف بإيران دولة نووية غير عسكرية، وعلى ضوء فشل مؤتمر مراجعة معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية، الذى عقد بمقر الأمم المتحدة فى نيويورك (27 أبريل- 22 مايو 2015) بسبب التعنت الأمريكى أيضاً، فقد رفض الأمريكيون مشروع قرار مصرى يطالب بعقد مؤتمر دولى يبحث فى جعل إقليم الشرق الأوسط خالياً من الأسلحة النووية وأسلحة الدمار الشامل على عمومها، كما يطالب بضرورة التوقيع على معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية.



رفض الولايات المتحدة وبريطانيا وكندا المشروع المصرى كان معناه أن إسرائيل وإيران نجحتا فى فرض نفسيهما قوتى أمر واقع نووية. إسرائيل فرضت ذلك بدعم أمريكي، وإيران مهيأة لأن تفعله بعد انقضاء المدة التى سوف تحدد فى الاتفاق الذى يجرى التباحث حوله حالياً فى جنيف قد تكون عشرة أو خمسة عشر عاماً من الآن، هذا معناه أن إقليم الشرق الأوسط يتحول، بفضل القوة النووية، إلى نظام ثنائى القطبية تقوده إيران وإسرائيل، ما يعنى أن العرب فى طريقهم إلى أن يتحولوا إلى قوى هامشية، أو مجرد أطراف فى مثل هذا النظام.



موسكو مهيأة للتحالف مع السعودية



إذا كانت السعودية وجدت ما يكفى للتوجه نحو موسكو وأيضاً إلى باريس من أجل ملء فراغ الانسحاب أو التردد الأمريكى ولوضع حد للمنظور الأمريكى الجديد لإقليم الشرق الأوسط: إقليم تقوده إسرائيل وإيران برعاية أمريكية، فإن موسكو وباريس لهما صالح فى أن تكونا طرفين بارزين فى تفاعلات إقليم الشرق الأوسط وخاصة إقليم الخليج. فرنسا تتطلع لتعاون اقتصادى وعسكرى مع السعودية ودول الخليج يجعلها طرفاً موازياً لواشنطن فى حلف شمال الأطلسى (الناتو) ويدفع الاتحاد الأوروبى تدريجياً نحو تبنى هوية أمنية مستقلة فى المستقبل عن الولايات المتحدة الأمريكية، أما روسيا فلديها حزمة من الدوافع دولية وشرق أوسطية. فقبل أن يصل الأمير محمد بن سلمان إلى موسكو بأيام قلائل كانت «قمة الدول الثمانى الصناعية الكبرى» قد اختتمت أعمالها فى بفاريا الألمانية بعد أن تحولت إلى قمة «الدول السبع«» بعد استبعاد روسيا كإجراء عقابى لموسكو بسبب عدم التزامها باتفاقيات مينسك عن «رباعى نورماندى» بشأن التسوية السلمية فى أوكرانيا. موسكو شعرت بالإهانة والتجاوز خصوصاً فى ظل تصريحات سابقة للمستشارة الألمانية إنجيلا ميركل والرئيس الفرنسى فرانسوا أولاند تتهم حكومة أوكرانيا بعدم الاضطلاع بالتزاماتها تجاه هذه الاتفاقيات.



فى ظل استمرار الحلفاء الأوروبيين بالضغط على روسيا واستمرار فرض عقوبات اقتصادية عليها، جاء الشريك السعودى الجديد بمثابة «قارب إنقاذ» للاقتصاد الروسى على ضوء ضخامة العقود والاتفاقيات الاقتصادية والعسكرية التى جرى التوقيع عليها، وعلى ضوء الاتفاق النفطى وهذا هو الأهم فى الرد على الحلفاء الغربيين وضغوطهم على روسيا فالاتفاق النفطى السعودى الروسى الذى جرى التوقيع عليه خلال زيارة الأمير محمد بن سلمان من شأنه أن يغير معادلة سوق النفط فى العالم بشكل جذري، فالسعودية التى كانت وعلى الدوام، ضامناً للمصالح الغربية فى أسواق النفط العالمية اختارت أن تغادر هذا الدور لصالح تشكيل رؤية جديدة مشتركة مع أكبر المنتجين العالميين للنفط من خارج منظمة أوبك، أى روسيا، وهذا سيجعل السعودية وروسيا صاحبتى القرار النفطى الأول فى العالم بما يدعم المصالح السعودية والروسية. وهذا معناه أن روسيا- التى دفعت أثماناً فادحة على مدى العامين الماضيين من جراء السياسة النفطية السعودية التى أدت إلى الهبوط الحاد فى أسعار النفط وكسرت ظهر الاقتصاد الروسى وأضعفت القدرة التوازنية الروسية إزاء الاتحاد الأوروبي- بات فى مقدورها أن تتقوى بحليف نفطى قوى قادر على ضمان أفضل الأسعار التى تخدم الاقتصاد الروسى وتنقذه من ضغوط العقوبات الأوروبية والأمريكية.



روسيا تتطلع أيضاً إلى الشرق الأوسط وتتحسب لتداعيات احتمال نجاح التوصل فى جنيف إلى اتفاق نووى مع إيران على العلاقات المستقبلية بين الولايات المتحدة وإيران، هناك فرص لحدوث تحولات استراتيجية درامية إيرانية إزاء الولايات المتحدة وفى غير صالح روسيا، حدوث تحول كبير فى علاقات الولايات المتحدة مع إيران سيكون حتماً على حساب روسيا، بل وعلى حساب علاقة روسيا مع سوريا باعتبار أن إيران هى الطرف الأقوى الآن فى سوريا.



من هنا يأتى التوجه الروسى نحو السعودية «كحليف محتمل» فى مقدوره أن يملأ الفراغ الإيراني، إذا أضفنا إلى ذلك تنامى التشكك الروسى فى إمكانية التعويل على بقاء الرئيس بشار الأسد فى السلطة فإن الدوافع والحوافز تتزايد فى أولويات الشراكة مع السعودية سواء باعتبار السعودية طرفاً شرق أوسطياً قوياً وكبديل محتمل لإيران، أو أيضاً من أجل التوصل إلى تسوية سياسية للأزمة السورية تحفظ لسوريا وحدتها وتحول دون تفككها أو سقوطها وهذا ما حرص الرئيس بوتين على أن يؤكده فى لقائه مع الأمير السعودى محمد بن سلمان، خصوصاً أن هذه التسوية السياسية تلقى دعماً مصرياً قوياً وفق تفاهمات مصرية روسية حولها.



آفاق وتحديات المستقبل



المؤكد أن الروس يدركون أن توجه السعوديين نحوهم جاء توجهاً اضطرارياً، ومن ثم فإنه معرض للتذبذب بين النجاح والفشل، وأنه سيبقى محكوماً بمحددين أساسيين، أولهما، مستجدات السياسة الأمريكية بعد انتهاء الانتخابات الرئاسية الأمريكية ووصول رئيس أمريكى جديد إلى البيت الأبيض فى يناير 2017 ونوعية المشروع الشرق أوسطى لهذا الرئيس الجديد ومدى عدم استخفافه بما تراه السعودية مصادر للتهديد وما تأخذه على الإدارة الأمريكية الحالية من تردد فى تقديم الدعم المطلوب لها. هذا يعنى أن موسكو معنية بترسيخ الشراكة الجديدة مع السعودية ووضعها على قاعدة عدم التأثر بمجريات وتطورات العلاقات الأمريكية- السعودية. وثانيهما مدى جدية والتزام موسكو بتعهداتها للسعودية، وهو محدد مرتبط بالمحدد الأول، ومن ثم فإن روسيا هى الطرف المعنى بالتقاط الفرص السانحة الجديدة المترتبة على أخطاء السياسة الأمريكية وعليها أن تقدم مبادرات ناجحة لإيجاد حلول للأزمات المتراكمة والمتصاعدة خاصة السلوك الاستفزازى الإيرانى والتدخل الإيرانى الذى يرقى إلى مستوى العبث فى قضايا ومصالح عربية، والأزمات السياسية العربية خاصة فى سوريا واليمن وهى أزمات وقضايا عجز الحليف الأمريكى أن يكون عند مستوى المسئولية من وجهة النظر السعودية. وإذا كانت السعودية قد توجهت إلى روسيا لإيجاد حل لهذه الأزمات التى لم تستطع واشنطن إنجازها لحسابات يتعلق بعضها بحسابات علاقاتها مع طهران، فإن التوجه السعودى نحو موسكو كان من باب «:وداوها بالتى كانت هى الداء»ص أى أن روسيا هى من يدعم إيران ويدعم بشار الأسد ومن ثم فإن الاقتراب الكافى من روسيا يمكن أن يوفر قاعدة لحلول مأمونة ومرضية لتلك الأزمات.



ما يرجح وجود فرص مواتية لآفاق هذه العلاقات مجموعة مهمة من الاعتبارات؛ أولها، أن الهاجس الأمريكى الذى يمكن أن يحبط فرص نجاح العلاقة السعودية الروسية الجديدة محدود لسبب مهم هو أن وزن إقليم الخليج من منظوره - كونه يحتوى أهم مراكز الطاقة فى العالم- أخذ يتراجع بالنسبة للولايات المتحدة بسبب التطورات المستحدثة فى مجالات إنتاج ما يسمى بـ »النفط الصخري« وامتلاك الولايات المتحدة تكنولوجيا فريدة لإنتاج كميات وفيرة من النفط سوف تجعلها دولة مصدرة له وليست دولة مستوردة. وثانيها أن التوجه الأمريكى الاستراتيجى أخذ يتحرك من الشرق الأوسط وقضاياه المركبة والمعقدة إلى الشرق الأقصي، وأن ما يشغل واشنطن الآن هو تأسيس تحالف إقليمى قادر على حماية المصالح الأمريكية فى الشرق الأوسط وفى مقدمتها إسرائيل، ولعل هذا ما يفسر أسباب تقارب الأمريكيين مع إيران ومع الإخوان المسلمين باعتبارهم، من منظور واشنطن، كانوا قوة مرجحة لحكم المنطقة. أما السبب الثالث والأهم فهو حزمة الاتفاقات المهمة التى جرى توقيعها فى موسكو بحضور الرئيس فلاديمير بوتين والأمير محمد بن سلمان.