أحمد السيد النجار
محمد عبد الهادي علام
الخلية الاولى
3 يوليو 2015
أدهم العبودى

تركت الهاتف المحمول شارداً، أرحته ببطء فوق التسريحة وكانت يدى ترتعش ارتعاشة لا إرادية. مرّة أخرى رفعت رأسى إلى المرآة وبقيت قليلاً أحدّق فى وجهي، لم تكن المساحيق قد أخفت النصف الآخر من فمى العابس، لم أُنه صنع وجه جديدا، فظلت ابتسامتى معلّقة، وبدا لى هذا التشوه صريحاً لا يحتاج إلى احتمال، سألت نفسى بأسي:


- هل هذا أنا؟!


رحت أميل برأسى يميناً.. يساراً.. لأعلي.. ولأسفل، أتأمّل الوجه داخل المرآة، كانت التقاسيم مشوّشة، والألوان متداخلة دون تجانس فى ملامحي، انطلقت منّى ضحكة خافتة مجروحة وأضفت لنفسي:



- هل هذا أنا حقاً؟!



كان رنين هاتفى المحمول قد علا ثانية، انتبهت له بعد أن طال بعض الشيء، لثانية رمقته بعين مترقرقة وشاشته تضيء وتخبو فى رتابة، ثم تناولته شبه بائس، أنصتّ قليلاً، رددت بصوت باك متهدّج:



- حسناً.. أنا قادم.. إنّما لابد أن أُنهى فقرتي، نحتاج لمصاريف الجِنازة، لا بديل لي.



أرحته فوق التسريحة مرّة أخرى ودموع بدأت تسيل فوق وجهى وتعبث بالقناع الملوّن الذى يغطّيه، راحت بعض البقع تتحوّل بين ملامحى إلى ما يشبه الدقيق المتخثّر، بأناة أنهض، أتوجّه نحو صنبور مياه فى ركن الغرفة وأزيل القناع ثم أرجع لمرآتى وأجلس أمامها، زفرت زفرة طويلة وهمست بغصة فى حلقي:



- ولست أنا هذا أيضاً.



أنتظر وقتاً، إلى أن يجفّ جلد وجهى تماماً، أفرد علب المساحيق الملوّنة وبأناملى أشرع فى رسم وجه جديد، أرسم أولاً ابتسامة، ربما كنت أخشى ألاّ أتقنها فبدأت بها، كانت عيناى تجوبان متن المرآة فيما يشبه التحسّر، وكانت كلّ التفاصيل من وراءى تبادلنى التحسّر، كتمت بكائى واستدرت عن مرآتى بقلب منقبض، وقبل أن أذهب بعينيّ لها مرّة أخرى أتساءل: هل كان لابدّ من قسوة موته؟



أجلس، أرمى المرآة الرابضة أمامى بنظرة مشروخة.



بيد مهتزّة، جعلت أُكمل رسم الوجه الجديد، غير أن التشوّه لازم يدي، كانت المرآة مصطخبة، تشبّع المشهد أمامى بضباب تسلّل أمام عينيّ عنوة، تهبط عيناى إلى أسفل، عندما ترن ضحكته الممتلئة بالحياة فى أذني، تهبط عيناى وتتسعان، وضحكته تتدحرج مسرعة، تترنّح قليلاً ثم تستقرّ لامعة هذا اللمعان الأشبه بلمعان عينيه هذه اللحظة داخل المرآة، أتابعها ببصرى حتّى تستقرّ، ويجفّ حلقي، فيعجز لسانى عن الشعور، لكنّ غماماً يلفّ بصري، والدنيا كلّها تسودّ، وأحس إحساس التمنّي- كأنّى أشخّص مسرحية تراجيدية، لابدّ وأن تنتهي، وتسدل ستائرها، لابدّ وأن يصبح هذا المشهد الأخير مجرّد فينال لهذه المسرحية، لابدّ، وإلاّ.. كيف سأحتمل فراقه!



وكانت كما وجه ابنى -تبحر بين أمواج المرآة المعتركة وتضرب عزيمتى هذا الضرب الموجع المبرح- سحابةُ بيضاء غائمة.



أبلع ريقي، أمسح بمنديلى القطنى حبّات العرق التى نبتت فوق جبهتي، يعلو صدري، وينزل، وأغمض عينيّ، أتململ قليلاً على كرسيّ، تهدأ قليلاً أنفاسي، وقد سرحت فى جسد المرآة.



أفتح عينيّ إنّما أهدابى سريعاً ما تنغلق، سريعاً ما يغمرها نور شمس النهار، يأتينى صوته:



- بابا.



ينتقل النهار لاحتمال مأساوى جديد، أرى ولدى يمرّ كغمامة ضلّت مشوارها فى السماء، وهو يهمس لى من أعلي:



- بابا.. هكذا يا بابا...!



نعم.. هكذا يا سيف، ارم الحَجر بقوة، وانتظر رّد فعل الماء، سينتفض، وسيردّ لك التحيّة، لا تخش الماء يا ولدي، ولا تخش ذلك الإوز، واقترب، أنا بجوارك، أرجع يدك كاملة إلى الوراء والتقط أنفاسك، ثم ركّز، تريّث، هدّئ من روعك، بعدها احدف الحجر بكلّ عزمك، لا، ههههه، لن يصاب الإوز بخدش، فقط كن قاصداً منتصف المياه، وسينحرف حَجرك عن مسار الإوز. نعم.. نعم يا روح بابا، هكذا يا حبيبي، أعطنى قبلة أولاً. هيّا، الق الحَجر، هووووووب، والآن هل ترى الرذاذ؟ إنّه يتناثر حولك فى كلّ مكان، يلمع رغم كلّ شيء، يبلّلنا، يغطّيك، ويغطّيني، ويصنع قبّة هائلة من الانتعاش فى مثل هذا القيظ الشديد، الآن؛ بفضلك، انتعش الإوز أيضاً، لقد منحته نفس الشعور الذى منحتنى إيّاه فى هذه الساعة الحارة، أليس كذلك يا صغيري؟



ألتفت، تحتوينى ابتسامته الرائقة، وهو يتقدّم نحوى فى ابتهاج، أبتسم وأضمّه بعينيّ، لكن سريعاً ما تذوب تفاصيله، أفرك عينيّ جيّداً، كانت أمامى خيارات العالم.. و«سيف» لم يكن يملك خياراً آخر. أفرك عينيّ جيّداً، وكلّ ما حولي، من كراس ووجوه وملابس وستائر، كلّ ما حولي، فقد بقدرة قادر لونه، وتحوّل كلّ شيء يحوطنى فى الغرفة للون الأبيض والأسود.



الغمام رمادى اللون يسبح أمام بصري، كيف تحوّلت معالم المكان إلى مثل هذه صورة قاتمة تحجب عنّى ألوان الحياة! الوقت يجرى ببطء، أنفاسى تختنق، صدرى ينغلق، الأصوات من خارج الغرفة تتقطّع وتروح، لكنّها تدعونى أن أُسرع، اللون الرمادى يجثم فوق حدود البصر، لا أحتمل، كلّ شيء من حولى مزعج، كلّ شيء رمادي، روحى تنازع الصعود، أتمّ إنهاء رسم الوجه وأحاول النهوض، ارتخاء قدميّ يكبّلنى فى هذا المقعد، مال كلّ المعالم كساها اللون الرمادي؟! أين بالله لون الحياة فيكم؟!



الدنيا بى تميد، أعدو ناحية الحمّام، مرتطماً بالجدران الرمادية، والمقاعد والملابس الرمادية، باب الحمّام.. رمادى اللون.. بعيد، لكنّى أجري، وأجري، أدفع بنفسى إلى الداخل بإصرار الإعياء، تدور رأسى فى هستيريا وألم، محتملة عودة الحياة إلى كلّ التفاصيل المحيطة، تدور رأسي، فأنثني، وأُفرغ من جوفى عبء الصدمة، مات «سيف»، مات ولدي، تسقط من ذهنى ابتسامة طفلى الجميلة، فتبدو، وهى تشق الهواء، هاوية لأسفل، لامعة، برّاقة، يحمل بريقها إلى عينيّ، لوناً عذباً، يتناقض ولون الأشياء الرمادي.. لون كلّ الأشياء.



فى وهن أخرج، أُغلق من خلفى باب الغرفة، أختزل هواء الدنيا فى رئتيّ ثم أتنهّد تنهيدة طويلة وأبدأ فى تقمّص الرجل الآخر، لكنّى أمشى كذلك بينهم كواحد دون روح، يفتحون لى الستار فأتأمّل الجمهور لوهلة وأنا ساكن سكون الحجر، بيد أنّى على وجه السرعة أخرج قافزاً، كلّ الأضواء تسقط عليّ، فأبدو كبقعة من نور وسط ضجيج المحيط، كلّ الأضواء تغشى عينيّ فتختلط الأجسام، إلاّ جسم وحيد، كان يتألّق من بينهم كنجم بكر فريد فى قلب سماء صافية، يلوّح لى بلهفة من بين الصفوف، وشفتاه تتمتمان:



- بابا.. بابا.



أستعيد ثقتي، وشموخي، أرفع رأسى لهم وابتسامة كبيرة تشقّ وجهي...



وكانوا يصفقون.



تنتهى فقرتي، ثم أبدأ فى الهرولة، لم أعُد أعى إن كنت أزلت المساحيق من عدمه، تركت المسرح فارّاً نحو فضاء الشوارع المُوحِش، تتقاطع السيارات من حولى وأنا أهرول عابراً الزمن، والأضواء تغمر عينيّ.



فى لحظة أطير فى الهواء، لا أعرف إن كانت تلك ضربة قدر أم ضربة سيارة طائشة! لكنّى أرفرف فى هدوء، أرى «سيفَ» هناك يمدّ لى يده.



لا شيء، فقط لا شيء، الماء يغمرني، و«سيفٌ» فى البعيد ينتظرني.



 ***



الوجوه تشبه الشمع، سريعاً تذوب متى حاولت القبض عليها بين حدود العين، الشوارع الممتدّة المغطّاة بنتوءات لا أفهم كيف تظهر أو متى تظهر، كثيراً ما تمثّل عائقاً بينى وبين أرواحهم، التى أظن أنّها لا تُحبّذ انتظاري.



وقتُ النداء..



تبدأ الرحلة حين ينتهى هذا العالم الافتراضي، يا لها من احتمالية!



وقت النداء؛ أجرى بالسيارة المزعجة المتهالكة راجياً المارّة وبقية السيارات أن يُفسحوا لى الطريق، تتبعنى وأنا ألهث منفعلاً فتلهث معي، تنطلق «السرينة» تحتضن المسافة فيما بين الأرض والسماء، فتنحسر جميع أصوات الحياة، ويبقى صوتها كزئيرِ عزرائيل داخل الآذان.



سيارتى لها رهبة، لا يسع سياراتهم أمامها غير التّنحى جانباً لإخلاء الطريق، قد أصل فى موعد مناسب، أتمكّن من إنقاذ أحد أبناء آدم، وقد أصل متأخّراً، فتبدأ حالة من التوتر والعصبية تنتابني، عندئذ ربما أفقد أعصابى فأبدو كواحدٍ من أهله -هذا الذى بلغته متأخّراً- أهطل الدموع مثلهم، أرتمى فى أحضانهم بحرقة، يعترينى نفس الحزن.



وقد يحدث ألاّ أصل مطلقاً، إذ أُبلّغ أن الحالة استقرت، فابتسم وأعود أدراجي.



طابور من السيارات يتعرّج ويتلوّى دافناً رأسه فى بطن كوبرى قصر النيل، أسدا الكوبرى يزأران فى عدم احتمال، والغيم يسدّ منفذ العين للسماء. داخل سيارة الإسعاف العُهدة جلست وفى عقلى فوران تعوّدت عليه كلّما استولى عليّ الجنون وخرجت بالسيارة تلبية للنداء، طالما أوصيت مدير نقطة الإسعاف أن يدرجنى تحت أيّ بند عمل إداري، وإن كان تافهاً، وإن كان شاقّاً حتّي، ليس بالضرورة أن يكون العمل ملائماً لمزاجي، لم تعد هذه مسائل تشغلني، يكفى أن أستريح من عناء الطرقات، ومن عناء الأصوات والأشكال التى تمور فى رأسي، لكنّ توزيع النوبتجية كثيراً ما يدفع المدير رغماً لتسليمى حالة من الحالات لنقلها، أو جلبها، صحيح لا أحمل حالة الآن، رغم أنّى فى طريقى لواحدةٍ، إنّما الظلام والبرد والضباب الكئيب، تلك الدلالات على مطر غاضب -كما تنبّأ الراديو- تؤجّج استيائى من كلّ التفاصيل المجاورة. رحت أتفرّس فى الوجوه التى تقطع الشوارع عابرة، تلك التى لا تبدو طبيعية بالتمام إلاّ حين يغلّفها برود الموت، إنّها وجوه تشبه الشمع، سريعاً تذوب متى حاولت القبض عليها بين حدود العين، الشوارع الممتدّة المغطّاة بنتوءات لا أفهم كيف تظهر أو متى تظهر، كثيراً ما كانت تمثّل عائقاً بينى وبين أرواحهم، التى أظنّ أنّها لا تُحبّذ انتظاري، وجوه تتفقّد الكون حولها فى تراخ، وفى لا مبالاة، بدت تنتظر مجيء واحد مثلى لتسليمها إلى العالم الآخر.



برج الأسد:



اليوم مطر لا ينذر بخير، حاول ملازمة بيتك.



لكنّى خرجت والسلام، أيّ حظ! أخذت أتصفّح جريدة لحين أن يفتح الطريق، إنّما بدا أنّ انتظارى قد يطول، طويت الجريدة فى صمت، الحالة المستعصية فى انتظاري! حدّقت قليلاً فى الطابور الممتدّ أمامى كحيّة، ثم رفعت عينيّ متفقّداً وجه السماء، بدا عابساً، ربما ليؤكّد أكثر أنّ فكرة الخروج بسيارة الإسعاف هذا اليوم كانت خطأ عظيماً، استدرت وتسلّلت ببصرى من نافذة السيارة، مستشرفاً صدق برجي، ترى أستمطر حقاً؟ السماء ملبّدة والنجوم منطفئة، لكن هل هذا يكفى لاحتمال المطر؟ ربما البرج يداعبنى اليوم إذن، وإن لم تحدث قبلاً، فكلّما تنبّأ بيوم تمّ بحذافيره. زفرت، حدّقت فى الجريدة بعض الشيء معاتباً برج حظّى قبل أن أرميها فوق المقعد المجاور، وفردت قدميّ أقلّب فى قنوات الراديو على أمل أن تنفكّ الطريق.



(عزيزى المستمع: هل تود معرفة كيف تحدث جريمة؟)



حتى البرامج الإذاعية تصرّ على التهريج!



(واليوم سنتكلّم عن تنفيذ جريمة قتل كاملة بلا ثغرات)



ها! ولا ثغرة! أتوجد جريمة كاملة حقّاً؟ أرنا أيّها المغفل، كلّكم تتاجرون بالمستمع، ظنّاً أنّنا فى النهاية حمقي، إنّما ليس أحمق منكم، أرنا على كلّ حال، كيف ننفّذ جريمة قتل دونما ثغرات؟



(أولاً لابد من دراسة مسرح الجريمة بشكل وافٍ)



فتح الله عليك، جئت بالمعجزة البحتة، أكمل..



(ثم تفريغ العقل من كافّة العراقيل التى قد تحول دون صفائه وتركيزه)



يا سلام! كأنّ القاتل ذاهب فى إجازة!



لن أتحمّل ذلك التخريف أكثر، علاّم يأخذ ذلك الغبيّ أجراً! على استهتاره بالمستمع، يا له من عبث!



أخذت مجدّداً- فى الحملقة نحو كُتل السيارات المترامية فى أحشاء الطريق، تتكدّس فى زهق وفى عدم قدرة على مواصلة الاختناق، بدا لى لو أنّى أستطيع لحلّقت فوق كلّ صفوف السيارات هذه للحاق بالحالة، لكن لابدّ أن تصل الدماء إلى نافوخي، لابدّ أن أبدو كمختلٍّ، وأنا أصرخ وأضغط كلاكس النفير بعزمي، لابدّ أن أسب وألعن حتّى تصبح ليلتى وكأنّها لن تنقضي.



بعد قليل، والصفّ الممتدّ التواءً لم يتزحزح أنملة، أخذت قطرات المطر تتساقط، كبلّورات هابطة من السماء، تتكاثف فى بطء، وفى روية، وتضرب سطح سيارتى فيعذّبنى صوت ارتطامها، وأدرك أنّ سيارة الإسعاف لم تعد تناسب غبائي، ثم راح البعض يلجأ لأسفل المظلاّت، وقد بدا الشارع سوف يخلو من غزارة المارّة.



وسط كلّ هذا، حاولت العبور من أمام سيارتي؛ فتاة شابّة، تأبّطت حقيبة يد جلدية صغيرة، واحتمت من البرد والمطر بمعطف رديء متهرّئ دفست داخله جسدها الضئيل ورفعت ياقته لتغطّى بها أذنيها، بدا واضحاً فوق وجهها آثار الصقيع، وهى تلتفت لترمينى بنظرة حائرة مرتبكة وقد كان أنفها محمّراً كفوّهة بركان. لم أكن لأكترث لها، عجلتى من أمرى تحيد بى عن مراقبة مثل تلك الأمور، لولا أنّها الفتاة- فى لفتة فجائية، استدارت كلّها، تحجّرت قليلاً، ثم استكملت سيرها، وتقدّمت نحو سيارتي، وفى بجاحة فتحت باب السيارة وجلست جواري.



لم تترك لى فرصة الاعتراض، ثم عندما فتحت فمى لأوبّخها، كانت تهمهم:



- أنقذني.



فصل من رواية قادمة بعنوان (أنا أعظم من جبل)