أحمد السيد النجار
محمد عبد الهادي علام
كل الناس
19 يونيو 2015
سعيد سالم

بعد ثلاثين عاما من الغياب هاتفتنى زهور وقد عادت من أمريكا. لم يعد لديها مبرر للبقاء هناك بعد وفاة زوجها وزواج ابنتها التى غادرت الى الإمارات وتركتها تعانى الوحدة والاغتراب.


كان وقع المباغتة شديدا. على الفور وجدت نفسى جالسا بجوارها وهى تقود عربتها بسرعة ، بينما تنبعث من الكاسيت موسيقا صاخبة متناغمة تماما مع ايقاع الطيش الجامح الذى جمع بينى وبينها حينذاك خارج نطاق الزمن . غير أنى كنت أختلف عنها فى قدرتى على كبح جماح شهواتى فى بعض الأحيان، ولولا تلك القدرة لحلت بى كوارث عديدة. رغم ذلك فأنا لا انكر اندفاعى أحيانا الى تلك الكوارث بمحض ارادتى وبدافع من غرائزى غير المهذبة، لكن القدر الرحيم بى - كان يضع العراقيل فى طريقى مما يجعلنى أتراجع رغم أنفى ، فمن العصمة ألا تقدر.






رغم جمال الطقس وسكون الريح ، الا أن أمواج البحر كانت عالية لدرجة ملحوظة، وكأنها تتصارع على البقاء، بينما كان هناك صراع بقاء آخر يدور بين طيور النورس وأسماك المرمار والبطاطة والشراغيش ، على صفحة الماء وفى عمقه القريب.





كانت ضحكاتها صارخة تتفجر بالفرحة وتفيض بسحر الشباب وحب الحياة، وكنت أشاركها نفس المشاعر ولكن بدرجة معينة من الحرص والحذر والتحفظ، فأنا دائما غير مستقر على حال، أعانى من صراع عصابى بين رغبة محمومة فى سكر البهجة ، وأخرى فى صحو العقل وتيقظه.





حين لاحظت أنها انحرفت بالعربة فى اتجاه متعامد مع طريق الكورنيش مقتحمة شارع المعسكر الرومانى الأنيق سألتها ببراءة:





إلى أين؟





أجابتنى بنفس البراءة:





الى بيتى





رغم درايتى التامة بجنونها الا أننى شعرت بهزة خوف قوية تجتاح أعماقى.





لم ؟





أنت تعرف ولا داعى لأن تتغابى





لكنى لن أقدر





لاتدعى الفضيلة وأنا أعلم الناس بتاريخك





****





جلست فى انتظارها بالمكان الذى حددته لها بحديقة صغيرة على الكورنيش. عندما حان الموعد رحت اتلفت يمينا ويسارا متشوقا الى مشاهدة فعل الزمن على جمالها الهندى الحارق الذى حرمت من رؤيته لأكثر من ربع قرن من زمننا القصير.





لمحت سيدة بدينة تتجاوز الخمسين من العمر ، تسير فى ثبات متكئة بذراعيها الى عكازين معدنيين. شعرت نحوها بشفقة شديدة وتمنيت لو ساعدتها على تخطى الرصيف الفاصل بين الحديقة والممر، لكنها كانت تتعامل مع عجزها بثقة وكبرياء وكأنها تجاوزته ولم تعد تشعر به على الاطلاق. الأمر المفاجىء أنها كانت تتوجه فى اعتداد نحو مائدتى وهى تنظر الى بابتسامة عفوية جميلة وكأن كل منا يعرف الآخر تمام المعرفة. توقفت أمامى صائحة فى دهشة طفولية:





باهر؟؟!





تجمدت واقفا وقد صحت فى دهشة أنا الآخر:





زهور؟؟!





ارتمت على صدرى وراحت تمطرنى بالقبلات فى وجنتى يمينا ويسارا بشوق عارم على مرأى من رواد الحديقة وكأننا وحدنا فى هذا الكون.





أوحشتنى يا حبيبى





تطلب الموقف منى عبقرية فذة فى القدرة على إخفاء صدمتى لتحول الشباب الى كهولة والصحة الى سقم والحياة الى موت. تظاهرت بأننى أمام مشهد عادى رغم أنى لم أعرفها فى البداية ، وأنا أتفحص السمنة الملحوظة والعكازين المعدنيين والشعيرات البيضاء على خصلة الشعر النائمة على جبينها الذى صار غارقا تحت خطوط العمر البارزة فى تشابكات متداخلة.





حدثتنى عن مشاكل عويصة فى عمودها الفقرى، انتهت بعملية جراحية فاشلة اضطرتها الى اللجوء للعكازين..وعن سرطان خبيث عاث فى جسدها مرة وعولجت منه ثم عاودها فعولجت منه مرة ثانية حتى شفيت منه نهائيا ، كما حدثتنى عن معاناتها من ضغط الدم المرتفع والسكرى العالى والمرارة والكبد.





أنت اذن بسبعة أرواح إذ نصرك الله على هذا الكوكتيل الرائع من أبشع الأمراض!!





انتصارى مبعثه تسليمى بالقضاء والقدر فضلا عن عشقى الشديد للحياة.





كانت تروى هذه الفواجع المؤلمة دون أن تتخلى عن ابتسامتها الطفولية الساحرة، وكأنها تحكى قصة مسلية عن امرأة أخرى. كان ذلك مبعث دهشتى التى نجحت الى حد كبير فى اخفائها مثلما أخفيت انفعالى المكتوم بفعل الزمن فى البشر، لكنى لاحظت أن شيئا جوهريا فى طبيعتها الماجنة قد تغير. حاولت أن أسبر غوره باهتمام فضولى بينما راحت تنطلق بعفوية فى الحديث.





****





قلت لها بصدق أخناتونى لايحتمل الشك:





انى أشتهيك بالفعل، لكنى لا أستطيع أن أثق فى قدرتى على الفعل





لكنك استطعت مع كثيرات غيرى ولا يمكنك الانكار





معك لن أستطيع





هل لى أن أعرف السبب فى تمسكك المفاجىء بالفضيلة؟





لأن ساقى لن تستطيعان حمل جسدى حتى أصعد سلم منزلك وأقتحم غرفة زوجك المسافر وأنام على فراشه وأرتكب الزنا مع زوجته





ضحكت فى عصبية وهى تربت فى سخرية على صدرى كما لو كانت تلتمس البركة من أحد أولياء الله.





الله الله ياسيدنا الشيخ..بركاتك يامولانا اسخرى كما شئت ولكنى لن أذهب معك





****





قلت لها بفضول برىء:





دعينا نسترجع أيام الشباب..ما هى أخبار عاشقك المتيم حشمت؟





كان مجنونا بها وهو يعلم مثلى أنها متزوجة.طاردها فى كل شبر على الأرض خطت فوقه. تعرض للطرد والضرب بالنعال والاهانة من المعارف والأقارب والأصدقاء. كان يتمنى منها نظرة عطف أو كلمة قبول، لكنها وجدت فيه مثلما وجدت فى غيره وسيلة للتسلية السادية التى تتلذذ فيها بتعذيب الرجال. مارست تلك الهواية بإخلاص على قدر احتقارها لتهافت الرجال على جسدها الصاخب المثير، دون اعتبار لكونها زوجة من جهة ، وانسانة لها مشاعرها من جهة أخرى.





قبل أن يفرق بيننا تعاقب الأيام علمت أن حالة حشمت قد بلغت حدا مروعا من التدهور والانهيار النفسى والجسمانى. صار شبحا هزيلا. أهمل مظهره وهو الموظف الأنيق الرشيق، وراح يهيم على وجهه فى الطرقات.





عند حضور زوجها فى إجازة أبلغته بمطاردات حشمت لها فعنفه وأهانه وصفعه على وجهه بشدة.بعد ذلك بعدة أسابيع أطلق حشمت لحيته وترك وظيفته وعمل خادما لمسجد سيدى بشر، وانقطعت صلته بالأهل والمعارف والأصدقاء. تشرنق فى عزلته حتى اختنق ولم يعد له ذكر.





ألا تعلم ماذا حدث له؟





نعم ، لم أعلم عنه شيئا منذ اختفائه حتى من مسجد سيدى بشر





أبلغتنى زوجته أنه توفى واتهمتنى بأننى السبب فى موته قهرا وكمدا لفرط عشقه لى.





أخرجت منديلا ورقيا من حقيبتها ومسحت به دموعها. نعم لقد غيرها الزمن، فهو الشىء الوحيد الذى كان بمقدوره ذلك.





****





جاءت من أمريكا بصحبة مجموعة من الخبراء الى المؤسسة التى أعمل بها. كانت تقوم بالتنظيم الادارى بين المصريين والأمريكان.لم يتعود موظفو مؤسستنا الحكومية المتواضعة على رؤية نساء بهذا القدر من الجمال والأناقة والتحرر والثقة. تسابق كبار المديرين على نيل رضاها والتقرب منها بكل السبل.أحدهم كان يستتر وراء خجله المرضى بكتابة خطابات غرامية لها يبعث بها مع ساعيه الخصوصى.عمره يقترب من ضعف عمرها لكنه عاجز عن المقاومة.شعوره بالذنب تجاه نفسه وأسرته ومجتمعه يحولون دون قدرته على مواجهتها واعلانها بمشاعره المتأججة تجاهها. تقرأ فى عجالة بضعة أسطر من كل رسالة تصلها ثم تلقى بها فى سلة القمامة دون حتى أن تمزقها فهى لاتخشى أحدا ولا تخشى شيئا بالمرة. المجتمع عندها كم مهمل إذ تراه غارقا فى التخلف منشغلا بالصغائر والتفاهات ودس الأنوف فى شئون الغير ، عاجزا فى الوقت ذاته عن الانجاز والتطور واللحاق بركب التقدم العصرى.





المكتب الوحيد فى المؤسسة الذى كانت تعاود زيارته من حين لآخر هو مكتبى. سألتها يوما عن سر اهتمامها بى فقالت بثقة:





لأنك رجل مختلف





فيم جوهر اختلافى عن الآخرين برأيك؟





أنت انسان راق مثقف، اما هم فمجموعة من الحيوانات لايتحركون الا بوحى من غرائزهم.





جاء كاتب الرسائل يوما الى مكتبى لدواعى العمل. فوجىء بها تجلس أمامى وتضحك ضحكة مثيرة ماجنة. أصابه ذهول امتزج بشعوره بالغيظ والحسد على أن تخصنى زهور بهذا الاهتمام غير العادى، بينما تتجاهله هو والآخرين عن عمد.





بعد انصرافه متعثرا فى غيرته ودهشته وخجله قالت لى:





يبدو أن الله قد وضعك فى طريقى لينتقم منى





كيف؟





لأن رفضك لى ماهو الا ثأر سماوى من اعتيادى اذلال الرجال





ولم تفعلين بهم ذلك؟





لأنهم يستحقونه. هل تصدق أن المرة الوحيدة التى تجرأ فيها هذا الجبان على الكلام معى فإنه راح يذم فى زوجته ويؤكد برودها العاطفى الشديد، مما جعلنى ازداد احتقارا له، بينما لم تذكر أنت امرأتك بسوء منذ عرفتك ولو لمرة واحدة.





وماذا فعلت به ؟





لو كنت أكن له ذرة من الاحترام لصارحته بأننى أكره السعار العاطفى المصاب به زوجى ، والذى لايكتفى بهمجيته فى مضاجعتى، وانما يجد متعة فائقة فى لعق جسدى كله بلسانه كالكلب حتى صرت أشعر برغبة شديدة فى التقيؤ عندما يلامسنى ..لكنى التزمت الصمت مكتفية بنظرة ازدراء قاتلة رميته بها.





****





اذن فقد مات حشمت مقهورا بعشقك ، فماذا عن المتيم الآخر ذو الكرش الكبير؟





تقصد نبيل بك رئيس المؤسسة





طبعا





دعانى للعشاء فى فيلته بالمعمورة





وهل استجبت لدعوته؟





ادعيت الموافقة لكنى لم أذهب، فكرر المحاولة وكررت نفس الموقف، لكنه لم ييأس، فكان يكثر من استدعائى الى مكتبه لدواعى عمل وهمية





غريبة!!..لقد كنت أحترم هذا الرجل وأوقره..لم أتصور يوما أنه على هذه الشاكلة.





فى النهاية لم يجد بدا من التهديد بالاستغناء عن خدماتى بالمؤسسة ان لم أخضع لرغبته.





لابد أنك فتحت عليه نيران ضحكاتك العبثية الساخرة





بل فتحت زر قميصى حتى سال لعابه واندفع محاولا احتضانى، فرفسته بركبتى أسفل بطنه وخرجت بهدوء شديد من مكتبه تاركة اياه يتلوى من الألم





لم أتعجب كثيرا لما سمعته فأنا أعلم مدى جنونها، غير أن شيئا غير عادى قد لفت نظرى الى طبيعة نظراتها ونبرات صوتها وأسلوب روايتها لما مضى من زمان.. رأيت فى عينيها استسلاما للقدر وفى نبرات صوتها قدرا من الطيبة لم ألحظه عليها من قبل..كان الشعور بالندم والدهشة والانبهار مزيجا من تحولها المبهر الى حالة انسانية دافئة توحى بالسكينة والرضا.





لقد تغيرت كثيرا يازهور





فعلا، وأنا لا اكاد أصدق أو أتصور كل مافعلته بالرجال الذين كنت اتفنن فى استدراجهم حتى يسقطوا فى شباكى كالسمان الدائخ ثم لاينالون منى غير العذاب.





لن أسألك عن المزيد من ضحاياك فحشمت ونبيل مثالان كافيان





لكنك لم تحك لى شيئا عن نفسك..خبرنى ماذا حدث لك خلال كل تلك الأعوام.





كان الفضول الشديد يسيطر عليها وهى بانتظار سماع ردى. لم يكن حب استطلاع بقدر كونه اهتماما خاصا بشأنى، فقد جاء عليها يوم كانت تعتبرنى فيه أهم شىء فى حياتها على الاطلاق.





حكيت لها انا الآخر عن سلسلة الأمراض المتعاقبة التى حلت بى، وأسهبت فى ذكر الهزائم التى منيت بها فى سعيى الى الرزق وتحقيق الذات. استمعت الى باهتمام ولكنها لم تشعر بالراحة الحقيقية الا بعد أن استدرجتنى الى الحديث عن النساء. لم تصدق أبدا ان مغامراتى غير المشروعة كانت محدودة للغاية، اذ كان الكيف غايتى لا الكم، ومن ثم كانت علاقاتى النسائية لا تتجاوز عدد أصابع اليد الواحدة خلال رحلة عمرى الطويلة. كانت سعادتى بالغة وأنا أقسم لها أننى لم انزلق يوما الى ارتكاب الزنا رغم اندفاعى اليه فى بعض الأحيان ، وكأن الله قد قرر أن يعصمنى رغم أنفى..شردت قليلا ثم قالت:





ألا تلاحظ أن سيرتينا متشابهتان الى حد كبير؟





وهكذا هى سيرة كل الناس!