أحمد السيد النجار
محمد عبد الهادي علام
نظام الإمتحان يوم يٌكرم المرء أم يُهان
25 مايو 2015
د.سعيد اسماعيل على



(..وترى الناس سُكارى وما هم بسُكارى...)؟! جلس الأستاذ وجوانحه تفور غيظا، وصدره يضيق غضبا، فليس أدعى إلى ذلك الغيظ، وليس أسرع إلى ذاك الغضب ، من أن يتأخر باحث تلميذ له عن موعد حدده له

ثم إذا بالباحثة التلميذة تأتى، تكاد تتعثر فى خطواتها المضطربة، وإمارات الخجل تكسو وجهها، إذ تعلم علم اليقين عادات أستاذها وتقاليده، وما أن جلست إذا ببعض دموعها تترقرق، وكأن هذه الدموع قد تحولت إلى قطرات توجهت إلى نيران الغضب لتطفئها، ويتحول الأستاذ الغاضب إلى أب عطوف يسألها عما بها؟ فتسارع إلى الإجابة بأنها تقضى معظم وقتها- رغم عملها كمدرسة- فى الذهاب بكل من ابنها وابنتها إلى هذا الموعد وذاك، من مواعيد الدروس الخصوصية، جيئة وإيابا، حيث أن الابن يستعد لامتحان الإعدادية، وهى تحرص على حصوله على مجموع جيد يتيح له فرصة الالتحاق بالمدرسة الثانوية، أما ابنتها فهى فى الثانوية العامة ، تستعد منذ شهور الصيف لامتحانها الذى هو مفرق طرق بين الطريق إلى الجامعة أو ..؟



هى وحدها تفعل ذلك ، حيث أن الأب تفرض عليه ظروف عمله أن يكون خارج الوطن، من حين لآخر..



هدأ الأستاذ، وراجع نفسه بسرعة، فإذا به يجد ذاته واقعا فى مشاعر متضاربة ، بعضها تأنيب ضمير، وبعضها الآخر لعنة على السياقات المحيطة، وبعضها الآخر، صرخات مكتومة، لا تكاد لا تجد لها مصرفا...



فأما تأنيب الضمير، فهو نتيجة مرور، لا نقول سنوات وراء سنوات، وإنما عقود وراء عقود، وهو من أهل مهنة ، مفروض أن يُعملوا أدوات علمهم وخبراتهم فى مواجهة هذا الكابوس » القومى« ...الامتحانات!



وأما الصرخات المكتومة، فإزاء سلطة التعليم التى تملك قوة التشريع، وقدرة التمويل، وإمكانات الإدارة والتنظيم لتفعيل ما يصل إليه العلماء من بحوث ودراسات وحلول ، تجد نفسها فى حالة » حبس احتياطى« ، يتجدد تلقائيا ، بين دفات الأوراق والأرفف، وسلطة التعليم لا تنفق إلا وعودا، أثبتت الأيام أنها شيكات بغير رصيد!!



كأن ذهاب أشهر الشتاء، ومجئ فصل » الزعابيب » - الخماسين- المسمى فى مصر خطأ » فصل الربيع«، إيذانا بمثله، على المستوى الاجتماعى عامة، والعائلى خاصة، حيث تبدأ دقات القلوب فى التسارع، وأجواء القلق ترفرف ، والنظرات الزائغة تسيطر..، والمحافظ والجيوب تنفتح إلى خارج، أكثر مما تستقبل.. لماذا؟



إننا أقبلنا على الامتحانات، فى كل المواقع والميادين: فى الابتدائى والإعدادى والثانوى، ..وفى مختلف كليات الجامعات والمعاهد العليا..فى طول البلاد وعرضها، بين الأغنياء والفقراء، وما بينهما من أوساط الناس، وكأنهم قد أصبحوا يشاركون فيمن وصف حالهم ، المولى عز وجل ، عندما قال ( يوم تذهل كل مرضعة عما أرضعت، وترى الناس سُكارى وما هم بسكارى...)؟!



ولم يكن الأمر هكذا فيما سبق من عهود، لماذا؟



من أجواء » تفريح » إلى أجواء » تخويف«..



عندما سقطت مصر فى قبضة الاستعمار البريطانى عام 1882. اتخذت الامتحانات وسيلة خبيثة استطاعت بها السلطة أن تضيق من فرص التعليم العام أمام الناس بما أحاطتها به من رهبة، وما اتبعته فيها من تشديد وتصعيب وقسوة. وليس معنى ذلك أن الامتحانات كانت حدثا جديدا لم تعرفه البلاد من قبل ، إلا أنها لم تكن أداة للتخويف والارهاب ، وإنما وسيلة تزيد من إقبال التلاميذ على التعليم بما كانت تبعثه فيهم من شوق، وما كان يتخذ منها من ترغيب. ويكفى للدلالة على ذلك أن الجزء الخاص بالامتحانات ، من اللائحة التى وضعها (على مبارك)- أبو التعليم المصرى الحديث- والشهيرة باسم لائحة رجب ( 10 رجب سنة 1284هـ / 29 أبريل 1868)، قد جاء ذكره تحت باب (فى تشويق الأطفال) !!



والقارئ لما جاء تحت هذا العنوان عن الامتحان ، وفلسفته والغاية منه ، يدرك المفارقة الكبيرة بينه وبين ما شاع وساد فيما بعد من سنوات الاحتلال ، واستقر فى الثقافة المصرية مع الأسف الشديد، إذ نصت اللائحة على ضرورة أن يجرى الامتحان فى الكتاتيب بمعرفة من كانوا يقومون بالتعليم » وبمعرفة من يلزم من الفقهاء المجاورة وأهل الفضل ، وأن يحضر الامتحان عن الناحية ، وجوه البلد لتعلم درجاتهم، وأن يتلقى الطلبة المتفوقون مكافأة من وجوه القرية وبمعرفتهم لتشويق أطفال وطنهم وإحياء قلوبهم فى نظير كسبهم المهارة، ورجاء عود النفع منهم على بلادهم«، أما هذه المكافأة فهى فريدة فى نوعها ، ذلك أنها كانت عبارة عن »زفة تفريحية تطوف بالمتفوقين أنحاء البلاد«!! (أحمد عزت عبد الكريم: تاريخ التعليم فى مصر، 1938،ص 49).



ثم تبدل الحال إلى العكس من ذلك فى هذا الاحتلال ، فلأول مرة لا يقوم المعلمون بالامتحان، وإنما يوكل إلى » لجنة ممتحنين » خاصة، وتكتب الأسئلة بواسطة اللجنة ، وترسل إجابات التلاميذ مغلقة فى مظاريف » مبرشمة » إلى المستشار الإنجليزى نفسه لتأخذ أرقاما سرية، ثم يستطيع المعلمون بعدها أن يصححوها (سعيد إسماعيل على: قضايا التعليم فى عهد الاحتلال البريطانى،ص 164).



وحملت اللوائح والقوانين الخاصة بمختلف الامتحانات نصوصا صارخة تؤكد هذه الفلسفة، ففى لائحة الامتحان الشهادة الابتدائية لسنة 1893 نجد: » الامتحانات التحريرية تكتب على أوراق عليها تمغة خصوصية ولا يوضع عليها أى علامة أو اشارة ط (قرار نظارة المعارف العمومية: 1892).



وفى لائحة امتحان الابتدائية سنة 1895 نجد فى المادة التاسعة عشر » تصحيح الأوراق وتقدير الدرجات يحصل بمعرفة قومسيون خصوصى يعقد بنظارة المعارف، وهذا القومسيون يتركب من رئيس ومراقبين وممتحنين، ويسمى بقومسيون تقدير الدرجات، ولا يسوغ فى أى حال من الأحوال أن يكون من ضمن القومسيون أى موظف من موظفى المدارس الجارى امتحان تلامذتها« (نظارة المعارف العمومية:1895). وفى المادة العشرين من نفس اللائحة » على رؤساء اللجان أن يرسلوا إلى رئيس قومسيون تقدير الدرجات لأوراق الامتحانات عند اتمامها أولا بأول داخل مظروف مختوم، وهذه المظاريف يفتحها رئيس القومسيون بنظارة المعارف بحضور أحد مراقبى القومسيون » (نظارة المعارف العمومية: 1895).



وفى نص المادة الرابعة عشر من قانون امتحان شهادة الدراسة الثانوية سنة 1913، نجد: » فى الامتحانات التحريرية والشفوية يعطى لرئيس اللجنة أو أحد المراقبين رقم خاص يقوم مقام اسم الطالب بحيث لا يتسنى للممتحنين معرفة أسماء الطلبة الذين يختبرونهم أو يصححون أوراقهم. وليس للممتحنين أن يسألوا أحدا من طالبى الامتحان عن اسمه ولا عن المدرسة التى هو منها ولا عن أى شئ يتعلق به ، ويحظر قطعيا على الطلبة أن يحاولوا بأى وسيلة من الوسائل تعريف أعضاء لجنة الامتحان بأنفسهم« (نظارة المعارف العمومية: 1913).



وكان من الطبيعى أن تشيع مثل هذه الإجراءات جوا من ( التخويف ) وبث ( الرعب ) فى قلوب الطلاب وأولياء الأمور ، وأن تضفى على الامتحانات ( هالة ) من ( القداسة ) لا تستحقها . وأن ( تفرخ ) حولها عددا من المنتفعين والبيروقراطيين الذين يهمهم أن » تنمو » التعقيدات وتكبر ليكسبوا رضا السلطة ومباركتها ... ومن ثم تتخرج أجيال قد زرع الجبن فى قلوبها ودرجت عقولها على آليات الحفظ والتكرار دون وعى أو فهم ..



ومن هنا أصبح الشائع لدى الجمهرة الكبرى من الناس أن الامتحان ( شر لابد منه ) ، وفى ذهنهم كافة السلبيات التى تحيط به: قديمها وحديثها، لكن الحقيقة غير ذلك تماما ، فالامتحان أمر هام وضرورى ، بل له من الفوائد والمزايا ما قد يدهش له كثيرون ، كيف؟



ليس » شرا » فى كل الأحوال:



فإذا نظرنا إلى التعليم على أنه عملية تغير ، بمعنى أننا ندخل بواسطته بعض التغييرات فى جوانب شخصية التلاميذ، سواء العقلية أو الجسمية أو النفسية أو الاجتماعية ، فلابد لنا من طريقة نقدر بها أن التلميذ قد اكتسب قدرا كافيا من المهارة العقلية أو الجسمية أو الاجتماعية. ولكن ما أهمية هذه المعرفة أو هذا التقدير ؟.



ترجع أهميتها إلى أن كل مرحلة تعليمية تثقف التلميذ بثقافة خاصة، وتهيئه للمرحلة التعليمية التالية لها ، أو تقذف به إلى معترك الحياة. فإذا كانت أنواع التعليم فى مراحلة المتعددة تختلف باختلاف ما عند الناس ، وتختلف باختلاف الأعمال التى يؤديها الناس فى الحياة ، فلابد من وجود طرق للاختبار والفحص توقفنا على الاختلافات بين التلاميذ، سواء كان ذلك فى إمكاناتهم الفطرية، أو فيما اكتسبوه من مهارة عقلية أو جسمية أو خلقية. وإذا وجدت هذه الطرق وتوافرت فيها شروط القياس الصالح أمكننا أن نوجه كل تلميذ لما يناسبه من تعليم أو عمل.



ومن هنا فلابد من وجود طريقة للفحص أو الاختبار أو التقدير، لا حبا فى الفحص، ولا رغبة منا فى معرفة ما حصله التلميذ فى أى مرحلة تعليمية ، ولكن الغرض من الفحص والاختبار هو معرفة درجة صلاحية التلميذ للسير فى نوع من أنواع التعليم، أو الاضطلاع بعمل معين فى الحياة . فكأن الغرض الأساسى من الامتحان ليس هو معرفة ما قام به التلميذ فى الماضى فقط. وإنما هو معرفة ما يصلح للقيام به فى المستقبل أيضا ، فليس الغرض هو معرفة ما تعلمه التلميذ فقط، وإنما هو معرفة ما يصلح لتعلمه فوق ذلك .



وربما يعترض واحد فيقول: ان ما فعله التلميذ فى الماضى يصلح وحده مقياسا لما يمكن أن يفعله فى المستقبل ، ولكن هذا بعيد عن الحقيقة بعدا شاسعا ، فإذا كان لدينا شخصان أثبتا أن كلا منهما يمكنه أن يجرى 100 متر فى 11 ثانية ، فليس معنى هذا أن كلا منهما يمكنه أن يتدرب حتى يجرى نفس المسافة فى 11 ثانية ، إذ ربما يكون أحدهما قد استعمل كل ما لديه من طاقة ليجرى إلى 100 ياردة فى 9 ثوانى، بينما لا يكون الآخر قد فعل ذلك.



بنفس الطريقة ، إذا نجح تلميذان فى امتحان الإعدادية بدرجة واحدة فليس معنى هذا أنهما يصلحان بدرجة واحدة معا لمتابعة الدراسة الثانوية ، فالذى يهمنا إذن فى هذه الحالة الخاصة هو الوقوف على صلاحية التلميذ واستعداده لمتابعة الدراسة الثانوية بنجاح ، أكثر مما يهمنا ما حصله من معرفة أو مهارة أثناء الدراسة الإعدادية .



ولعلنا لا نبعد كثيرا عن الصواب إذا ربطنا موضوع الامتحانات بالحاجة النفسية إلى التقدير والحاجة النفسية إلى النجاح، فالطفل الصغير الذى ينطق لأول مرة بلفظ (ماما) أو (بابا) فى حاجة أن نشجعه بابتسامة حتى يستمر فى النطق بهذا اللفظ فيتقنه ، وأن ينطق بسواه من الألفاظ ، وبذلك ينمو محصوله اللغوى ، والطفل حين يتناول ورقة ويرسم شجرة أو عصفورة ثم يعرضها علينا، يقصد من ذلك أن نقدر عمله حتى يستمر فيه ويحسنه.



ويرتبط بهذا أيضا حاجة الطفل إلى النجاح، ذلك أن النجاح يجعل الإنسان يثق فى نفسه ويشعر بالاطمئنان، مما يترتب عليه استمرار سلوكه وتحسينه ، فنجاح الطفل فى الحبو يجعله يستمر فيه حتى يستطيع المشى. والطفل حين يرسم رسما أو يكتب لفظا يهمه أن يعرف رأيك أو ينصرف عنه ، ذلك أن النجاح بجعل السلوك يرتبط عنده بالكفاية النفسية، كما أن الفشل يجعل العمل عنده مرتبطا بعدم الكفاية النفسية، ولذلك نجده يقبل عليه فى الحالة الأولى وقد ينصرف عنه فى الحالة الأخيرة.



ومن أهم الطرق التى تساعد الدارس على أن يفهم نفسه ويتبين نواحى قوته وضعفه فى التحصيل وأوجه كماله وقصوره فى التعلم، هو أن يخوض تجربة الاختبارات الدورية المتكررة التى تهيئ له فرصة التغذية المرتدة، ويساعد فهم النفس هذا على أن يتخذ الطالب قرارات حكيمة فيما يتعلق بعملية تعلمه، ويتأكد الطالب مما يتقنه، ويساعد هذا الدعم والتعزيز على الثقة بالنفس والاستزادة، ويتبين أخطاءه، وما كان قد أساء فهمه فيصلحه، ويعرف بدقة مدى ما اكتسبه من مهارة فى مختلف الميادين حتى يستكمل ما يتبين نقصانه ويتقن ما يتبين إلمامه به . وكذلك يساعد تفهم هذا الدارس على أن يخطط لمستقبل دراسته بطريقة أكثر موضوعية من مجرد انطباعات عامة.



كذلك فإن المعلومات التى تتوفر بعد التحليل الدقيق لنتائج الاختبارات تعكس إلى درجة وثيقة كفاءة العملية التعليمية ، مثلا إذا أخفق معظم الطلاب فى الإجابة على سؤال بعينه ، أو تبين قصورهم فى الإجابة على باب معين من أبواب المقرر ، فإن هذا يعنى أن خطأ قد حدث فى تدريس هذا الجزء أو هذا الباب من المقرر، قد يكون السبب فيه عدم كفاءة الطرق المستخدمة فى تدريس هذا الجزء، أو أن المعلم قد طالب الدارسين بأهداف أكبر بكثير من استعدادهم أو لا يمكن تحقيقها فى الوقت المخصص لهذا الجزء من المقرر بالنسبة لباقى محتوياتها المقرر الدراسى فى هذا العلم وباقى العلوم ، ولهذا فإن المناقشة الموضوعية الصادقة لنتائج كل اختبار تلقى الضوء على العيوب فى العملية التعليمية بغرض إصلاحها والتأكد من تلافيها وعدم تكرارها فى العام التالى..



أيضا يحسن أن يكون هناك امتحان ليتخذه المعلم كذلك هدفا حافزا ، فوجود المنهج يكسب المعلم حاسة اتجاه نحو غرض ممكن التحقيق ، فيرى واجبه أن يضع الخطة لعمله، وأن يعالج هذا العمل فى اطمئنان ثابت ، متجنبا كل ما يغريه بالمغالاة فى الاستطراد، وواجبه كذلك أن يعنى بكل طلابه على السواء ، لأنه يعلم أن النجاح والفشل مهمان لطالب المؤخرة وطالب المقدمة سواء بسواء. والمناهج وأسئلة الامتحان تُكسب المعلم علما بالمستوى المطلوب، إذ يعرف ما تؤديه غير مدرسته مقيسا فى نفس الظروف التى قيس فيها عمله هو ، فيمكنه فى ضوء هذا العلم أن يزيد نصيبه من التوفيق فى عمله.



.. فكيف أصبحت » شرا » ؟



وإذا كانت هذه » منافع » الامتحانات ، فلماذا تحولت إلى » شر » يجر العديد من السيئات والسلبيات على العمل التعليمى ؟ إن الصورة التاريخية الموجزة التى شرحناها تكشف عن جانب مهم من الأسباب والظروف ، لكن تبقى جوانب أخرى فى » بِنية » الامتحانات نفسها، خاصة بصورتها الحالية المطبقة فى معاهد تعليمنا المصرية ، وهذا هو ما يهمنا الوقوف عليه الآن:



إن أكبر ما يؤخذ على التعليم فى مؤسساتنا التعليمية هو أنها لا تثقف عقل الطالب ولا تنمى فكره ، ولا تربى فيه قوة الابتكار وسلامة الحكم وروح النقد ، والاستقلال فى الرأى ، ولا تبعث فى نفسه حب العلم وتقديس الصالح العام، والشعور بحتمية النضال من أجل هذا الصالح العام ، وبالإجمال لا تهيئ الفرص لتكوين الشخصية المتكاملة الناضجة النافذة التى تمكن الطالب من النضال والكفاح. ومن أهم أسباب ذلك ، أننا أخطأنا غاية التنشئة ، فصرنا نعنى بتكديس المعلومات ، ولا نبحث عن أثرها فى السلوك ، ولا شك أن الامتحانات بصورتها الحالية عامل قوى ، بل هى أقوى عامل يوجه التعليم فى ذلك الاتجاه.



إن الصورة التى يكونها المرء فى ذهنه عن الحياة العقلية للطالب المصرى عندما يفحص أوراق الأسئلة يتمثل فيها العقل فى شكل صندوق المستقبل؛ تصب فيه المعلومات كما يصب الماء فى مستودعه ، وتبقى فيه إلى أن يحين وقت تفريغها منه، كما يسحب الماء من المستودع، ولكن الماء يبقى فى المستودع مستقلا عنه لا يؤثر فى تكوينه ، فهل هذه هى العلاقة التى نريدها بين المعلومات والعقل ؟ أم نريدها علاقة الغذاء بالجسم ينميه ويقويه، والغذاء لا يبقى فى الجسم على حالته الأصلية ، بل يتفاعل مع إفرازاته ويتحول إلى عصارة مهضومة تختلف فى تركيبها عن الطعام الأصلى ، ويمتصها الجسم فيكسب منها القوة، أما إذا بقى الطعام فى المعدة على حالته الأولى ، فلا تنتج عنه الا تُخمة، فكذلك المعلومات إذا بقيت فى الذهن عائمة منفصلة ، مستعدة للخروج منه على نفس الصورة التى دخلت بها ، فإنه لا تنتج عنها إلا تُخمة عقلية.



إن المعلومات التى يحصلها الإنسان لا تصبح علما أو ثقافة بالمعنى الصحيح إلا بعد أن يتفاعل معها العقل، فيؤثر فيها كما تؤثر فيه ، أو بالأصح تصبح جزءا من نسيجه ، فينمو بما اكتسبه منها ويصير بعد امتصاصها أقدر على التصرف فى المشاكل التى تعرض له مما كان قبلا، وبذلك تؤثر فى اتجاهات الإنسان النفسية وتصبح نظرته العامة إلى أمور الحياة من غير أن يشعر ، وفى هذه الحالة لا يصبح من المتيسر اختبار قيمة هذه المعلومات باستعادتها من العقل كما كانت، بل بقياس القوة التى اكتسبها العقل منها .



كذلك أثبتت بحوث قام بها كثيرون من أساتذة التربية وعلم النفس فى مصر أن الأسلوب التقليدى فى الامتحانات الذى حكمها عقودا طويلة فى مصر تشوبه عيوب عدة، تجعل منها وسيلة غير فعالة ( تربويا ) أشهر هذه العيوب:



> الامتحان التقليدى فى أى مادة لا يقيس شيئا واحدا ، بل أشياء كثيرة مختلطة بعضها ببعض. ومن القواعد المقررة عند علماء التقويم التربوى أن المقياس الذى يستعمل لقياس شيئين فى آن واحد لا يقيس شيئا ما . فامتحان الجغرافية مثلا يختبر تحصيل التلاميذ فى بعض موضوعات هذه المادة، ولا يختبر فى نفس الوقت قدرتهم على التفكير، وقدرتهم على التعبير عن أفكارهم، ومهاراتهم فى رسم الخرائط، وسرعاتهم فى قراءة الأسئلة، وفى كتابة الإجابة عنها، وغير ذلك من العوامل التى تتوقف عليها الدرجة التى تعطى للتلميذ، وهذه العوامل تختلط بعضها ببعض بنسب مختلفة تختلف من امتحان لامتحان، مما يؤدى إلى اختلاف نتيجتها مجتمعة.



> ورقة الامتحان التقليدى تحتوى عادة على عدد قليل من الأسئلة، يمكن أن يتناول جميع موضوعات المنهج الذى يمتحن فيه التلاميذ ونقطه. ولذلك قد يصادف الحظ تلميذ فى أحد الامتحانين فتأتى الأسئلة مما يتقنه، وقد يعاكسه الحظ فى الامتحان الثانى فتأتى بعض الأسئلة مما لا يعرفه، ويتسبب من ذلك اختلاف درجته فى الامتحانين، فالدرجة لا تمثل قوة التلميذ فى المادة بأجمعها، بل فى ذلك الجزء الذى اشتملت عليه ورقة الأسئلة .



> الامتحان مقياس ذاتى، ومعنى هذا أن النتائج التى يعطيها تتأثر برأى الشخص الذى يقوم به وتقديره. وتتجلى هذه الذاتية فى جميع خطوات الامتحان، فالحكم على درجة صعوبة الأسئلة ومقدار ملاءمتها لقوة التلاميذ هو حكم ذاتى يتوقف على رأى واضعها الشخصى الذى لا ضابط له. وتقدير الدرجة التى تستحقها إجابة كل تلميذ هو تقدير ذاتى يتوقف على رأى المصحح . وقد أثبتت التجارب العلمية الكثيرة اختلاف المصححين اختلافا بينا فى تقدير الدرجة التى تعطى للإجابة إذا عرضت عليه مرات تفصلها فترات طويلة أو قصيرة من الزمن .. ثم إن تحديد مستوى النجاح أيضا هو تحديد ذاتى يتوقف على رأى المشرع، وهو رأى اعتباطى لا يستند إلى سند معقول، ولذا نجد الحد الأدنى للنجاح فى بعض الأحيان 40%، وفى بعضها 50% وفى بعضها 60%، وكل هذه النسب الثانوية ليس لها فى الحقيقة مدلول ثابت، فمدلولها يتوقف على ظروف كثيرة، من أظهرها مقدار صعوبة الامتحان أو سهولته.



>ونظم التقويم والامتحانات الحالية تحكم على مستوى أداء التلميذ من حيث النجاح أو الرسوب، ولكنها لا تشتمل على النواحى التشخيصية التى تبين بوضوح نواحى ضعف التلميذ حتى يعالجها فى محاولته التالية للنجاح.



> والأصل فى التقويم والامتحانات أنها حكم على حصيلة العملية التعليمية كلها، لا على الطالب وحده ، والنتائج التى نصل إليها عن طريق النظم الحالية للتقويم والامتحانات لا تبين إلا مستوى أداء الطالب، والمفروض أنها تبين مستوى المادة، ومدى مناسبتها لفهم التلاميذ، وطرائق التدريس ومدى نجاحها، وهل هى إحدى الطرق الممكنة أم أن هناك من الطرق ما هو خير منها حتى يمكن الاستعانة بها فى إنجاح عملية التعليم.