أحمد السيد النجار
محمد عبد الهادي علام
خواطر حول الدعوة لتجديد الخطاب الدينى
11 مايو 2015
د‏.‏ جلال أمين

ليس من الغريب أن تظهر من وقت لآخر دعوة إلى «التجديد» فى الخطاب الدينى وينطبق هذا على الإسلام كما ينطبق على غيره من الأديان. فالدين،



وإن كانت له مبادئه وأفكاره الثابتة، له أيضا طقوس وشعائر تتطلب القيام ببعض الأعمال المادية، وتأدية بعض الواجبات الاجتماعية، ولكن ظروف الحياة متغيرة، والدين قد ينشأ فى بلد ثم ينتشر فى بلاد أخرى ذات ثقافات ولغات وعادات مختلفة، ومن ثم يجد أصحاب الثقافات المختلفة، بل قد يجد أصحاب نفس الثقافة ولكن فى ظروف مختلفة، أنهم فى حاجة إلى التعبير عن نفس المبادئ والأفكار الثابتة التى آمنوا بها، بطريقة مختلفة تلائم الثقافة أو الظروف الجديدة.



ليس فى هذا أى شىء غريب، بل ليس غريبا أيضا أن يختلف الناس حول الحدود التى لا يجوز أن تتجاوزها محاولات التجديد، وذلك لاختلافهم حول ما يعتبرونه من قبيل «الخطاب الدينى» وما يعتبرونه جزءا من الدين نفسه، أى لاختلافهم حول ما هو «بشرى» يجوز تغييره، وما هو «إلهى» لا يجوز المساس به.



تذكرت وأنا أفكر فى هذا الأمر قصة عميقة المغزى، وبالغة الطرافة، كتبها الكاتب الفرنسى الشهير (أناتول فرانس)، فى أواخر القرن التاسع عشر، واسمها (الحاوى والسيدة العذراء) حازت شهرة عظيمة فأعيدت صياغتها أكثر من مرة، وعرضت فى صور مختلفة على المسرح، وفى فيلم سينمائى، وفى رقصة للباليه.. الخ تروى القصة أن حاويا فقيرا فى مدينة فرنسية صغيرة، كان يجوب الشوارع محاولا أن يلفت نظر المارة، وخاصة الأطفال، لبعض الألعاب التى أتقنها ويظهر مهارة فيها، كان يضع قرشا فى أعلى عصا طويلة ثم يضع العصا على طرف أنفه، ويستطيع بالمحافظة على توازنه أن يحتفظ بالعصا مستقرة على الأنف دون أن يقع القرش، فيستمر التصفيق من المتفرجين، أو كان يلقى ببضع كور ملونة فى الهواء ثم يتلقاها بيديه الواحدة تلو الأخرى دون أن تقع أى منها على الأرض، أو أن يفعل مثل هذا مع مجموعة من السكاكين دون أن يصيب نفسه أو أحدا غيره بأذى .. الخ.



كان الرجل يسير فى أحد الأيام عندما قابل فى طريقه أحد الرهبان فتبادل الاثنان الحديث ولاحظ الراهب أن الحاوى يحمل فى قلبه إيمانا صادقا، فعرض عليه أن ينضم اليهم فى الدير ويصبح راهبا مثله. رحب الحاوى بالفكرة وذهب لاحضار متاعه البسيط وقصد الدير وبدأ حياة الرهبان.



اطمأن الرهبان اليه، ولاحظوا جميعا قوة إيمانه وأثنوا عليه، ولكنهم لاحظوا بعد بضعة أسابيع تغيبه عن بعض الصلوات، وعندما تكرر ذلك أرسلوا أحدهم إلى حجرته لمعرفة ما الذى يمكن أن يشغله عن الاشتراك معهم فى الصورة: ذهب الراهب فوجد باب حجرة الحاوى مغلقا، ولكنه رأى شقا فى الباب يمكنه من خلاله أن يشاهد ما يجرى فى الغرفة نظر الراهب فرأى ما لم تصدقه عيناه. رأى الحاوى واقفا أمام تمثال السيدة العذراء وكأنه يصلى، ولكنه فوجئ برؤيته وهو يقوم فى نفس الوقت ببعض الألعاب التى اعتاد القيام بها أمام المارة فى الطريق؟



فهو يقوم بها الآن فى مواجهة التمثال ولكنه يعرض مهاراته على السيدة العذراء للاحتفاظ بالعصا واقفة على أنفه والقاء الكور الملونة فى الهواء ثم التقاطها واللعب بالسكاكين. كان من الواضح أنه يفعل ذلك الآن من أجل السيدة العذراء دون غيرها إذ لم يكن هناك شخص آخر فى الغرفة.



اعترت الراهب دهشة عظيمة ثم ذهب لنقل الخبر إلى بقية الرهاب، فلما تأكدوا من روايته، اعتراهم غضب شديد، واعتبروا ما يحدث عملا شائنا للغاية، بل ذهب بعضهم إلى اعتباره من قبيل الكفر الصريح. قرروا ارسال اثنين منهم لكسر الباب ومنع الرجل من الاسترسال فى هذا العمل الشائن أمام تمثال العذراء.



ولكنهم فوجئوا برؤية منظر لم يكن يخطر لهم على بال. إذ قبل أن يوجه أحدهما أى كلمة إلى الحاوى، رأيا تمثال السيدة العذراء يتحرك، وإذا بها تمد يدها فتمسك بطرف ردائها وتقربه من وجه الحاوى الواقف أمامها والمتصبب عرقا، فتمسح بطرف الرداء بعض العرق من وجهه فى لمسة حانية.



من الممكن أن نعتبر ما فعله الحاوى فى هذه القصة محاولة للتجديد فى ممارسة التدين. كان الرجل بلا شك كما يفهم من روايه أناتول فرانس قصته، مخلصا وصادقا فى تدينه، ولكن طريقة تجديده لممارسة شعائر الدين لم تعجب زملاءه من الرهبان، فاتهموه بالهرطقة أو الكفر.



النزوع إلى التجديد، حتى فى الخطاب الدينى وممارسة الشعائر الدينية، هو إذن ميل طبيعى لدى الإنسان على مر العصور، وعلى اختلاف الثقافات، كما أن رفض بعض أشكال التجديد ميل طبيعى كذلك لدى بعض المتدينين دون غيرهم، لأسباب كثيرة نفسية واجتماعية، وإن كان هؤلاء يكرهون دائما الاعتراف بهذه الأسباب، ويميلون إلى تصدير موقفهم على أنه هو الموقف الصحيح، بل إنه الموقف الوحيد الذى يمكن أن يرضى عنه الله.



مرت بذهنى هذه الخواطر بمناسبة ما شهدناه فى الأسابيع الأخيرة من ظهور الدعوة من جديد إلى تجديد الفكر أو الخطاب الدينى، كالعادة بين المؤيدين والرافضين لدعوة التجديد هذه.



ولكن لفت نظرى فى هذه المرة ندرة أو غياب لفظ أو اصطلاح كان شائعا حتى وقت قريب فى وصف مثل هذا التجديد وهو «الاجتهاد» لقد فهم المسلمون لفظ «الاجتهاد» على مر العصور على أنه إعادة تفسير النصوص الدينية على ضوء الظروف الجديدة، واحتفلوا أيضا على مر العصور حول الحدود المسموح بها فى الاجتهاد. وقد حمل لواء الدعوة إلى الاجتهاد رجال عظام فى مختلف البلاد الإسلامية، من مصر وتركيا وأفغانستان والهند.. الخ وهو لفظ يبدو لى أكثر اعتدالا (بل قد أقول أكثر تهذيبا) من لفظ التجديد. فكلمة «الاجتهاد» لا توحى من قريب أو بعيد بمعنى التنكر على أى وجه لمبادئ الإسلام وثوابته، إذ لا تشير إلى شىء قديم يراد تجديده، بل تشير فقط إلى جهد مطلوب من المسلم لتصحيح فهمه هو وسلوكه هو. كما أن لفظ «الاجتهاد» لا يوحى بأن من يبذل هذا الجهد هو بالضرورة مصيب دائما وإن كان يحمد له جهده دائما، بينما قد يوحى لفظ «التجديد» بتأييد هذا الجهد أيا كان، إذ قد يعتبر الجديد أقرب إلى الصحة من القديم لمجرد كونه جديدا.



لاحظت أيضا أن موضوعات الخلاف الآن، حول ما إذا كان التجديد جائزا فى هذا الأمر أو ذاك، قد أصابها تدهور ملحوظ، بالمقارنة بما كانت عليه موضوعات الخلاف قبل نصف قرن، بل بما كانت عليه منذ أكثر من قرن كامل، عندما كان من بين المجتهدين الشيخ محمد عبده. كان يشغل هؤلاء المجتهدين القدامى ما إذا كان من الجائز أو غير الجائز اقتضاء فوائد على قروض البنوك، أو التأمين على الحياة، فأصبح الخلاف يحتدم اليوم حول أمور مثل الزى الذى يفرضه أو يرفضه الإسلام، أو عن الوقت الأمثل الذى يجب أن تؤدى فيه صلاة المغرب بعد ظهور الشفق فى الأفق.. الخ فقد تحولت موضوعات الاجتهاد، فيما يبدو أمورا وثيقة الصلة بمقاصد الدين الأخلاقية، إلى أمور قد لا تمس مشاعر المرء الحقيقية أو قوة إيمانه.



هل يمكن تفسير هذا التدهور بما قيل مرة من أن «ابتلاء الأمة بمجنون خير من ابتلائها بنصف عالم» على اعتبار أن نصف العالم (أو نصف المتعلم) هو الأكثر استعدادا للتقليد، والأقل استعدادا للاجتهاد؟ وبالنظر إلى كثرة ما ابتلينا به، خلال المائة عام الماضية من أنصاف العلماء أو أنصاف المتعلمين؟