تستطيع أن تقول، من غير مبالغة، إن الصين نفسها عبارة عن قصيدة شعر مطولة. معلقة فوق أستار التاريخ على مر الزمان ،تضم السنين بطرف أهدابها، وتدون بقاءها بمداد الأساطير،
حتى إنها جعلت من أقدم مدونة تراثية عندها، وهو «كتاب الشعر» سجلا مقدسا يحفظ بين دفتيه تاريخ وجودها وأصول الأسر الامبراطورية القديمة، وشكل الحياة والناس منذ لحظة ميلادها كأمة ودولة وحضارة. قيل إن حكيمها كونفوشيوس كان ينصح تلاميذه باستظهار «كتاب الشعر» واتخاذه مرجعاً دائما لحفظ الذاكرة الإبداعية الأولى ،وقت أن عرف الناس لحياتهم معنى بالكلمة والإيقاع. اكتشف كونفوشيوس في «إيقاعات وأوزان» الشعر القديم وتفعيلاته قيمة كبيرة ومفيدة في تأسيس «قواعد» أخلاقية تتساوق مع رهافة الحس الجمالي، ولا يصبح التقيد بها إلا ضربا من التآلف والانسجام الذي يؤلف من نثار الحياة اليومية بتفاصيلها الكثيرة»شكل وكتلة ونسق» القصائد ، فيعيش الناس مثل كلمات لها إيقاعها وأوزانها ومقاديرها المحسوبة جمالياً. لكن الصين الحديثة وسط عالم مختلف وزمن له إيقاعه الخاص تحررت من أثقال ميراثها الشعري القديم على يد رواد إبداعها الحديث وواكبت الجديد عبر مراحل تطور متلاحقة. ووصلت في الثمانينيات والتسعينيات إلى شكل يتناقض جذريا مع قديمها. وكانت لغتها العامية هي سيدة الموقف. لكن شعرها الحديث ،بحساسية جمالية متحررة ،لم يكن يستطيع أبدا أن يتخلص من نسق التفعيلة الشعرية التقليدية ،فشهدت في السنوات القليلة الماضية ظهور تيار «المحافظين الجدد» في الكتابة الشعرية، لتعيد اكتشاف ملامح جمال قديم. ومن صندوق دفاترالصين المعاصرة يلتقط الأستاذ أسامة الغزولي أوراقاً كادت تنطوي في زحام اللهاث وراء خطى العصر. فاستوقف الخطى وتأمل إبداع جيل من أهم شعرائها الحاليين، وثبت الصورة على لحظة مهمة في مشوار الكتابة الشعرية الصينية المعاصرة. لحظة أبرزت ملامح عنقاء كتابة شعرية جديدة انبعثت من ركام عصور الأباطرة.
رام الله
للشاعر باي داو
في رام الله
يلعب الأقدمون الشطرنج في سماء مثقلة بالنجوم
تومض لعبة النهاية
عصفور محبوس في ساعة الحائط
يقفزخارجا ليعلن الوقت
في رام الله تتسلق الشمس الحائط كرجل مسن
وتخترق السوق
لتقذف ضوء المرايا
فوق صحن نحاسي صدئ
تعُبّ الآلهة الماء من الجرار
يسأل قوس وترا عن الاتجاهات
يبدأ صبي مسيرته لوراثة المحيط
منطلقا من حافة السماء
تُبذر البذور على امتداد الظهيرة المحتدمة
يورق الموت خارج نافذتي
وفي المقاومة تأخذ الشجرة من العاصفة
الشكل الأصلي العنيف
أنشودة لزهرة أوركيد
من : أشعار ليو سونغماي
يولان،الأوركيدة الخفية،
المختبئة في أحراج كثيفة فوق تل سامق،
لايزال العوام غير قادرين على رؤيتها.
يولان،الأوركيدة المنعزلة،
ليست بحاجة لإفراط في التأنق ،
وهي التي يفوق جمالها أجمل الربات الخالدات.
يولان، الأوركيدة الشبحية،
يطوف عبقهاالمخيّم،
ليسحر كل القلوب حولها.
يولان، الأوركيدة المطمئنة،
أغنيتها الجميلة ،شئ مبهم،يداعب أوتار القلوب بلمسات رقيقة.
أقحوانة أزهرت قبل الأوان
من أشعار ليو شنغييو
رفعت رأسي وإذا بالفراغ ينشق عنك.
لابد أنه كان حلما . همست قائلا «مرحبا بالأقحوانة»
خوفا من أن يبدد السحر صوتي.
منذ التقينا قبل عام ،وأنا أعد لك ممرا.
بدأت بإزاحة الجليد، ثم رفعت الأحجار،
وعندما بدأت أتطلع للمزيد من الأيام المشمسة،
ظهرت على غير انتظار.
بدأ الصيف ولم أتوفربعد على كلمات
لأتغنى بحمدك ؛ أقسمت أن أكتب نظما يفوق
«أربع أغنيات لأقحوانة» التي كتبتها العام الماضي،
لأضعها على الطريق ترحيبا بك.
وقفت فوق الحصى عند حافة الطريق،
ناديت باسمك مرة أخرى
وأوشكت أن أمسح الدمعات عن رموشك ،لكنك هززت رأسك قائلة : «اتفقنا أن نلتقي في الخريف».
لكني بالأمس حلمت بك
وسرعان ما انتهى الصيف اللانهائي.
الحلقات الشجرية *
من أشعار : لي جوانغ
التموجات داخل الشجرة
تنمو وتنتشر،
لكن ما من أحد شاهد المنشئ الذي رمى بالحجر
لكي يُحْدثها.
تحت الشجرة يسمع المرء الزيزان* والأمطار؛
تسكع كلب في الجوار ورفع رجلا خلفية؛
تعانق عاشقان وانفرجت أربع شفاه؛
لكن هزيم الرعد لم يهزم الجذع،
وإن ندت عنه دمدمة...
كم أن قلبها رقيق،
كأنه تخلّق بلمسة سماوية!
لنضع إبرة فوق تلمها
حتى نشعر أو نسمع
الزمن إذ يجري تسجيله
* الزيزان حشرات نصفية الجناح تحط طويلا على الشجر ولها صوت أحادي النغم
أنشودة للجبال والأنهار
من أشعار: ليو تشيوان
حيثما ولّيت وجهي،وجدت عالما منهكا،
لكن هناك شيئا خفيا
لشجرات الهيكل العظمي.
يحتويني ويسري عني.
وقد فعل ذلك عشرةآلاف مرة
حتى إن الموت لم يعد ذا معنى.
ترف الطيلسان
يعرض الجمال الظاهرللعالم،
لكن روحا تتحرك عبر أوردته الأرضية،
المتصلة بالغابات الصغيرة
لأشجار الهيكل العظمي.
أتغنى بمجد ممرات الريح،
بفضائلها المُخْضرّة،
بالسحر الذاوي للثعلب المسحور،
وبالحكايا المديدة
لهذا العالم الصاخب.
في المعبد الكبير.. لتعظيم زيا*
من أشعار : لي يون
ها أنذا أقف أمامك أخيرا،
راغبا في أن أقول أشياء كثيرة،
لكني نسيت الكلمات.
حسنا،منح الرتب..
إسباغ البركات،
الذهاب للصيد...
كانت هذه كلها أمور عظيمة،
وكانت كلها حوادث صغيرة.
في رفة جفن،
انزلقت على مسار السنوات.
والآن ،في هدوء الوحدة،
أنا المرأة الصغيرة،
أقف على أعتابك،
ويداي على صدري،
أميل للأمام وللخلف ...
كيف حالك يا زيا ، يا أخي الأكبر؟
هل ولاية جو الغربية راسخة؟
هل العاصمة ينشيو بخير؟
أما بالنسبة لي أنا المرأة البسيطة،
فكل شئ بخير منذ رحيلك.
* زيا شخصية مستشار ملكي يفترض أنه عاش في القرن الثاني عشر قبل الميلاد ويشار إليه أيضا باسم جيانغ زيا
وهم قاتل
من أشعار : لي شيانجن
هي في البداية ترسم رجلا،
ثم امرأة.
ولحظة يلتقي الرجل والمرأة
تنبعث في سمعها أصوات دقات محمومة.
وفي وقت وجيز،
فإن قماش الكنفا
يستحيل
رمادا،
تنفخ فيه ريح رخية
مبتعدة به عن الأنظار.
ولا يعود عند الحافة المتخيلة
سوى الفرشاة وهي لاتزال ممسكة بقطرة سخية من الطلاء
كعين دامعة،
تحاول ألا يصدر عنها صوت.
هكذا
من أشعار : لي واي
على جانبي الحارة،
مطاعم صغيرة ومحال للبقالة.
بعيدا عن المنطقة المضيئة ،القريبة من الحوانيت،
تأتي الظلال لتحتل الشارع،
وبوسع المرء أن يسمع دمدمات المشاة
يمضون اثنين اثنين ،أوثلاثة ثلاثة
عابرين الشارع،وفجأة ،ولغيرما سبب،
ينطلقون في خط مستقيم،
وتتصادم تكويناتهم الرشيقة
مع الشعاع المنبعث من المصابيح الأمامية للسيارات.
لقد عبروا الطريق،
ليتلاشواعلى الجانب الآخر،
تماما كما تتلاشى أضواء المصابيح الأمامية في المدى.
وبعيدا هناك لايوجد شئ،
سوى الضباب ،وربما كان مجاورا لنهر واسع؛
أما إلى أين يمضي تدفق النهر،
فلا أحد يدري ولا أحد يبالي.
صيف هندي
من أشعار : لي تونغ
خطر لي ،فجأة ،أن طقس يوليو
عاد ،بسوء نية، في سبتمبر.
مؤامرة الغراب الذي غافل الجميع،
وحرك الأحجار ليقيم جدارا خانقا.
لا أستطيع ،بالحقيقة، أن أجد تفسيرا
لعدم مجئ الخريف ليحبط انقلاب الصيف.
والآن أنا غارق في عرقي من مجرد المشي؛
حتى الشارع الضيق صارساخنا حتى استحال لمسه.
لم تعد الهيئة أولوية ،فتركت شعري المنسدل يتحول إلى خصلات مبللة.
لكن لا أحد يعرفني أفضل مني؛
أختبئ في ظل شجرة أو ورقة
خوفا من أن يتخلى الخريف عني حقا.
لكن دعوني ،بالوقت نفسه ،أفتح صناديق ثياب الصيف،
لأعيد لعملائي الشعور بالجو اللطيف.
ريح الغواية
من أشعار: لي شانغييو
يدق جرس الهاتف،
تثور ريح خضراء مُسْودّة،
ريح غواية...من حياة المرء المُضيّعة،
ولكن أسلاك الهاتف،وأسلاك الحاسوب،وغيرها وغيرها،
لا تلبث أن تأتي لتقتحم ،وهي تتلوى بغير نهاية ؛فيشعر بأنه مكبل بالأسلاك.
وإذ تضايقه الأسلاك ،من دون نهاية ،وإذ يستشعر الحصار،
تصبح غرفة النوم ،والصالون ،والمطبخ،
تصبح كلها جلسة استجواب ،ولكن أين محاميه؟
في الصين لا يحاكم القانون سوى المستضعفين.
قولي له يا ريح الغواية : لا تكون الحياة إلا مرة واحدة.
وفي زمن سلالة سونغ،كان الناس يُقتلون من دون ترتيب ،والفرسان يخطرون في كل اتجاه.
يرن جرس الهاتف بالداخل ،ينفث الريح الخضراء المُسْودّة،
فتاة الربيع ،ريح الغواية ،لكنه يعيش مرضا صينيا صيفيا.
الأشياء يعاد ترتيبها
من أشعار : هوانغ ليهاي
يكمن سر العالم في تقلبات طفيفة.
عبق القهوة في هواء الصباح
تحسه كأنه الوهج من قرص العسل،
وبالوقت ذاته ،فخارج النافذة،
تتشبع دغلة الزيتون بضباب الغسق.
خطى صغيرة تتتبع أصواتا خافتة إلى مواضع قصية،
لكن الصياد عاد ، وهو جالس في الفناء ،
إلى مراقبة طائر يفتش في الأشجار.
لم يزل يحلم برسائل يبعث بها إلى الأهل.
البحر ينسى والثلاجات تلد كتلا جليدية،
وهكذا فكل الأشياء تحت الشمس
يعاد ترتيبها.
رسالة إلى صديق
من أشعار : آ شين
دعني أحدثك عن هذه الخراف. إنها ،من نواح كثيرة،
تشبه مخلوقات المحيط التي تعرفها حق المعرفة:
فمن كرم الخالق أن بطنها يحمل الأجنّة،
ولكل جنين وجه صبي أو وجه رجل عجوز.
الولْدان تسعى اليوم فوق التلال ،كقطيع مرصوص البنيان ،قطيع دافئ،
فوق ظهره طبقة خفيفة من الجمد ، كأنه جبل أبيض.
وفوقهم كوكبات لاحصر لها:
الدب الأكبر في الشمال، الدب الأصغر في الجنوب ،الساقي العربي،
طريق التبانة،كوكبات فياضة مثل الأمازون...عتيقة لكنها منعشة.
أنصب خيمتي قريبا منهم.
أحلامي كثيرة،هي الأخرى،وكل حلم منهايأتي بسلواه.
والفجر الذي يقطر منه الندى يهبط من قمة الجبل وكأنه يمضي إلى وجهة ما
كأنه أرماد لاغالب لها تبحر باتجاه بحر مجهول.
أما أنا فعائد إلى المدينة
حيث تنتظرني أيامي وينتظرني قدري.
هل خدعت عيْنيّ
من أشعار : باي شياو هوانغ
لا أستطيع أن أرفع عيني عن هذه الأوراق.
الزوايا التي تتخذها ، وهي تسقط ،تتزامن على نحو تام
مع السماء الخريفية.
تلال بعيدة ،تلال قريبة ،تجلس مسترخية
مثل أسود ذهبية الفراء،
ويتسرب الغسق من خلال جفونها الثقيلة النعسانة.
لماذا أنظر ولا أرى شيئا؟ تهبط الظلمة
لكني لا أشعر برغبة في الرحيل.
كل ما في الأمر أني أفكر:
هل تسللت أنت من ورائي
وفي هدوء غطيت عيني؟
ملء الفراغات
من أشعار : تشين كويليانغ
السماء ،كما ترى ،فارغة،فارغة تماما،
ياله من فراغ ... ... ... شاسع،
ترى ما الذي يمكن أن يسده.
هو يذكرني بالموت
وكيف هو مدُوّن على خط النسب لكل عشيرة؛
وكل إضافة للسجل تحتاج أن تزهق روح.
ذات أصيل ربيعي،
قضى الوالد فجأة،
مالئا فراغ جيل.
أعلم أن مزيدا من الأهل
سوف يسدون الفراغات الباقية.
لن يمر وقت طويل
قبل أن أستبدل هؤلاء الناس
قبل أن أصبح زوجا ،أبا،
لأمنح حبي من دون شروط،
مدركا أنه سيكون هناك آخر
سوف يفعل ما أفعل-
ويسد الفراغ .. .. .. يسد الفراغ.
يناير (أمسية للقراءة)
من أشعار : تشين يانتشيانغ
مرتحلين إلى ديسمبر
تمضي البلاد كلها
سوف يُسلم الربيع لأهل كل بيت
فعمال التراحيل عائدون لمواطنهم
والجميلات تظهرن في الشوارع
وتحت دثارمن الصوف أو الزغب
لم تعد نبضات قلوبهن مرئية
الناس في كل مكان يتبضعون للسنة الجديدة
وأنا لم أدرك أن العام ينقضي
إلا وأنا أقلب أوراق الروزنامة قبل أيام
هذا زمان شخللة العملات الذهبية
وإرهاقي الرصاصي استحال وحشا
ملّ أسلوب الحياة الذي تغير والكآبة المخيّمة
في هذه اللحظة يزداد الليل عمقا
وأشعر به أكثر هدوءا حتى من عزلتي
أتكوّم بجوار الفرن الكهربي في غرفة المعيشة
وهي ليست مكانا لأية محادثة
وأفتح صحيفة «الشعب» الأدبية التي وصلت لتوها
وأباشر بقراءة «فتيات المصنع» لجنغ شياوشيونغ
وأنزلق في بطء إلى العالم الجهنمي
الذي ابتلع كل هذه الأرواح
كل هذه الأرواح الصينية الجنوبية
وفجأة يتولد لديّ دافع أن أبعث برسالة للمؤلفة
لأسألها :أين ستكون ليلة رأس السنة.