هناك أشياء كثيراً ما نجهل أننا نجهلها .. ولكن حين تستيقظ لدينا حاسة النقد وطرح السؤال .. تنفتح الشهية على الفضول وحب الاستطلاع والشوق للمعرفة بلا حدود كما لو كنا نبحث عن وجه معين فى الزحام .
فمن بين 114 سورة فى القرآن الكريم ورد ذكر اليهود أو التوراة أو الاثنين معاً 85 مرة .. فى دراسات أخرى لبعض الراصدين للقرآن إليكترونياً .. ورد اسم موسى 136 مرة .. وذكرت قصة مقابلة موسى مع فرعون 20 مرة .. ويذكر د. حفنى أن اليهود جاء ذكرهم فى «110 آيات» من سورة البقرة – 286 آية - والتى يطلق عليها «فسطاط القرآن» لكثرة ما فيها من القصص والآداب والمصطلحات والفلسفات فى كل جوانب الحياة .. وقيل عنها أيضاً إن بها : ألف حكم وألف أمر ونهياً وألف خبر .. وقد سميت بهذا الاسم إشارة لحادث القتل الذى وقع فى عهد موسى وطلبوا منه أن يحدد القاتل فيما بينهم .. فألهمه الله أن يأمرهم بذبح بقرة وضرب القتيل ببعضها فيقوم من موته – بإذن الله – ليخبرهم عن القاتل ثم يتوفى مرة أخرى .. ووصف القصة رائع فى القرآن الكريم ويبين كيف كان اليهود يتشددون فى السؤال والاستفسار فى لجاجة وغشامة .. فكان موسى يتشدد معهم أيضاً – كما يأمره ربه – فى الجواب .. وصولاً إلى الآية الشهيرة : «إن البقر تشابه علينا وإنا إن شاء الله لمهتدون» بل إنهم طلبوا أن يروا الله جهرة وحوارهم فى التوراة يقتصر على تعبير «ربك يا موسى» كناية عن تجاوزهم فى الحوار مع موسى والرب.
ومن خلال القراءة نكتشف أن قصة موسى على طولها وأحداثها الكثيرة والمتشابكة وتكرار أجزاء منها فى معظم السور إلا أنها فى كل مرة تأتى بجديد يثير خيال القارئ ويشركه فى الوقائع الحقيقية بسحر اللغة والبيان والصور الحية وجميع عناصر القصة من أشخاص وأزمنة وأماكن وسياق زمنى وتجسيم أدبى يشعر معه القارئ أنه يرى صوراً حية لا تزال نابضة .. قمة فى الإيجاز والإعجاز اللغوى .. لذلك لا يمل أبداً قارئ القرآن من قراءة الذكر الحكيم .. إضافة إلى أن الموعظة القصصية أقوى تأثيراً فى نفس المتلقى .. وقصة سيدنا موسى ممتلئة بكل الثراء الدرامى .. منذ ميلاده وفراره بعد قتل أحد المصريين .. وسفره للشام وزواجه من ابنة شعيب وعودته هو وأهله إلى مصر .. وحديثه مع الله .. وذهابه إلى فرعون بالقول اللين فى بادئ الأمر .. وكيف استضعف بنى إسرائيل فى الأرض.
«لا تكرار فى القرآن وإن رأيت شيئاً مكرراً من حيث الظاهر .. أنظر إلى سوابقه ولواحقه .. لتتكشف لك الفائدة» تلك إشارة الإمام الغزالى ومفتاح الفهم الصحيح لهذه الظاهرة .. فالعبرة من التكرار بالسياق وما يقتضيه المقام وعرض الصورة من مختلف أبعادها وزواياها .. ولكن لماذا ذكر سيدنا موسى بهذا الزخم وما دلالته الدينية حتى أن ابن حنبل قال «أحسن أحاديث الأنبياء .. قصة تكليم الله لموسى» فهى للعلماء بمثابة «درة القصص» فى السورة التى تحمل نفس الاسم .. وهذه الآية فى سورة عمران تحمل الجواب : «انزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وآخر متشابهات فأما الذين فى قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون فى العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولو الألباب».
وكما أخبرنا المولى عز وجل انفتح باب الطعن من خصوم الإسلام من تلك الزاوية – التكرار – واستغل – المتعالمون – الفرصة لفرض تصوراتهم الخيالية فيما أطلقوا عليه تأويلاً حتى أصبح موضة سائدة يتكسب من وراءها البعض الكثير.
لقى النبى من جهالة قريش وعنتهم وتجبرهم وظلمهم وتكذيبهم له .. ما يتشابه مع ما عاناه موسى مع قومه وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يتأسى بموسى فى أمور كثيرة .. وبالمثل كما جادلوا موسى جادل اليهود الرسول فى أشياء كثيرة مثل أصحاب الكهف والروح وتحديد الجنين وطالب المشركون الرسول بخوارق مادية ونزول الملائكة .. أو أن يكون بيته من زخرف أو جنة وأعناب وبلغوا أقصى آيات العنت والمكابرة .. وواجه أيضاً عقليات لا تختلف كثيراً عن عقلية قارون .. «إنما أوتيته على علم عندى» وأقصى الآيات الإيمانية لم تؤد إلى إيمان المتعنتين منهم !
والأصل فى اليهود أنهم «أهل كتاب» لكنهم انحرفوا وغضب الله عليهم .. ومن أول سورة الفاتحة حتى آخر سورة فى القرآن رصد د. حفنى الوجود اليهودى فى النص القرآنى ودلالته.. ففاتحة الكتاب على سبيل المثال نقرأ فيها :
«أهدنا الصراط المستقيم. صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم» فموسى غضب عليهم مراراً بل إنه مات متبرئ منهم غاضباً عليهم .. فحين لبى ميقات ربه وذهب كما أُمر .. صنعوا من الذهب الذى خرجوا به من مصر عجلا له خوار .. وكلما وقعت مصيبة رجعوا إلى الله يدعونه ثم يعودون إلى ممارسة كل الموبقات.
ومن يطلع على صفحات الإنترنت مؤخراً .. يكتشف كيف يعملون لبث سمومهم لنشر الإلحاد والفكر الدينى المتطرف والتشكيك فى القصص القرآنية والأحاديث .. لذا فإبطال هذه السموم بالحجج والبراهين والأسانيد واجب دينى على كل علماء المسلمين.
ومن أبرز الأمثلة المتنوعة على موضوع واحد فى القرآن الكريم يمكننا رصد (صيغة الخوف) فى قصة موسى بأساليب شتى ومواقف متنوعة فى هذه الآيات : «فأوجس فى نفسه خيفة موسى. قلنا لا تخف إنك أنت الاعلى» و«فخرج منها خائفا يترقب» «لا تخف نجوت من القوم الظالمين» «إنى أخاف ان يكذبون» .. وحينما أمره الله بالذهاب إلى فرعون لأنه طغى هو وأخيه هارون .. كان جواب المولى عز وجل على خوفه بقوله تعالى: «لا تخافا إننى معكما أسمع وأرى» صدق الله العظيم .. أنها لآلئ ودرر منثورة لمن يقرأ ويتفكر.
كان سيدنا موسى قوياً شجاعاً لا ريب .. ولكنها ليست الشجاعة العنترية المزعومة – أى عدم الخوف .. فقد قتل إنساناً لشجاعته ووقوفه مع الحق أمام الباطل .. وكانت قصته مع فرعون تمثل أرفع مثال للتفرقة بين الحق والضلال ففرعون وموسى على طرفى نقيض .. علم موسى أن الشجاعة والقوة لا تعتمد على ساحات الحرب فقط وعدم الذعر وإبداء الرأى والمجاهرة بالحق والاعتراف بالخطأ ولكنها فى ذروتها تصل إلى الحد الأقصى لضبط النفس ومراعاة مقتضى الحال .. وقديماً قال المتنبى : «الرأى قبل شجاعة الشجعان» .. فالخوف والتمهل واختمار الرأى والمشورة عند اللحظات المصيرية مطلوب .. ولم يخف موسى حين خرج بقومه من مصر لأنه كان يعلم عاقبة الأمور وما سيؤول إليه فرعون من مصير .. ذات يوم سأل عمرو بن العاص «معاوية بن سفيان مستفسراً عن مدى شجاعته فقال له عمرو : لقد أعيانى أن اعلم .. اجبان أنت أم شجاع ؟ فقال له معاوية : شجاع إذا أمكنتنى الفرصة .. وإلا فجبان»..
فالشجاع لا يفكر فى المصائب إذا وقعت لكنه يحتملها بثبات ويواجهها بصبر وهمة وعلم .. وتوطين النفس على الشدائد والمران على التمرس لها أصبح ضرورة يفرضها المشهد الحالى فى عالمنا على المستوى الدينى والسياسى من الملحدين إلى الداعشيين.
آه .. لو تدبرنا كتاب الله .. فهو ملىء بالأعاجيب فهو الذى قيل فيه «ولو أن قرآنا سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى».. لكان هذا القرآن .. وأخيراً فالذكرى تنفع المؤمنين.