كانت المرة الأولي التي أزور فيها تونس بمناسبة ندوة عن حرية الإعلام والصحافة. وليس لتغطية حدث سياسي كما جري لاحقا. ففي سبتمبر2011 خصتني الهيئة الوطنية المستقلة لإصلاح الإعلام ورابطة حقوق الانسان هناك بدعوة كريمة لحضور الندوة.
وقد اعتبرت هذه الدعوة تكريما لصحفي مصري كان له موقفه الناقد لدكتاتورية نظام بن علي في وقته وأوانه, وحينما كانت إعلانات هذا النظام تغرق صفحات بعض الصحف المصرية بمختلف أشكال ملكيتها وتطوق أمواله اعناق نقباء ورؤساء مجالس ادارة وتحرير سابقين علي نحو لا يسمح مطلقا بتسرب الأخبار الصحيحة عن واقع تونس ما قبل.2011
والحقيقة ان الصحفيين التونسيين الأحرار من مختلف الأجيال قاموا برد الجميل للعبد لله المرة تلو المرة. لم يقتصر الأمر علي كلمات ثناء اخجلتني في افتتاح ندوة الهيئة والرابطة. فقد وجدت مقالا/ دراسة نشرتها علي موقع البديل الألكتروني قبل اطاحة الثورة التونسية بالدكتاتور بعنوان: تونس الحمراء وأبناء بن علي في الصحافة المصرية وقد أعيد نشرها كاملة كشهادة موثقة في كتاب صدر هناك عام2013 بعنوان صحفيون تونسيون في مواجهة الدكتاتورية: ثلاثة وعشرون عاما من القمع والتضليل. أقول ان زملاء مهنة البحث عن المتاعب طوقوا عنقي مرات ومرات. لأنني كلما ذهبت الي تونس ساعيا لنقل تجربة تحولها الي الديمقراطية الي القارئ المصري وجدت منهم أخلص مساعدة في تحديد موعد لمقابلة أي مسئول أو شخصية أطلبها لحوار أو لقاء.
وناهيك عن كل هذا فقد منحني زملاء المهنة في تونس من وقتهم بلاحساب كي أطلع علي تطور الإعلام التونسي ومشكلاته. وقد لاحظت مدي التضامن المهني والانساني بين الصحفيين التونسيين علي نحو يفرض احترام المصادر المؤثرة التي تمتلك السلطة السياسة والأمنية والمال للصحافة والصحفيين. وهو أمر ما زلنا نفتقده في مصر. وفي مهنة تتسم بالمنافسة عرفت كيف يمتد هذا التضامن ليتجسد في خدمات مهنية. مثلما هو عليه الحال مع صفحة علي الفيس بوك تزود الصحفيين بأرقام هواتف مصادرالأخبار والعمل الصحفي.
ومن أجمل ما اطلعني عليه الزملاء هو جهود جمعيات المجتمع المدني المتخصصة في الدفاع عن حرية الإعلام والصحافة. بما في ذلك اعتماد وتطوير منهجيات وآليات دولية في رصد الرقابة داخل المؤسسات الاعلامية والذاتية وفضحها ومقاومتها. وفي هذا السياق ثمة تقرير سنوي تصادف خلال زيارتي الأخيرة صدور نسخته الثانية لمركز حرية الصحافة في تونس. ولقد شرفني زملاء المهنة هناك بحضور لحظة اطلاقه والإعلان عنه في26 ديسمبر الماضي. وهذا التقرير يكشف عن الايجابيات والسلبيات التي تواجهها صحافة تونس بعد الثورة. فقد قطعت هذه الصحافة أشواطا في المرحلة الانتقالية التي دامت أربع سنوات باصدار تشريعات اكثر تقدما وباستحداث مؤسسات وهياكل تنظيمية مستقلة متطورة ووضع مدونات سلوك مهنية وبالتخلص من مرض عبادة الحاكم الفرد.
وكل هذا يدفعنا لإطلاق وصف الربيع علي ما يعيشه الصحفيون التونسيون. وهو ربيع يتجسد في صدور أكثر من30 صحيفة جديدة وانتعاش الإذاعات المحلية والقنوات التليفزيونية بعيدا عن ملكية الدولة ومحاولات جادة لإصلاح الاعلام العمومي بما في ذلك طريقة اختيار قيادات هذا الإعلام, وما شهده هذا الإعلام في وقت مبكر بعد الثورة من ممارسة النقد الذاتي والمساءلة والمكاشفة داخل مؤسساته بين من تسلطوا علي زملائهم وعلي الحقيقة وبين الضحايا. لكن هذا الربيع تشوبه ظواهر ما زالت سلبية مثل إفلات منتهكي الحريات الإعلامية وحقوق الصحفيين من العقاب و عدم تفعيل القوانين الديمقراطية الجديدة. وأيضا المعوقات في سبيل تغطية مهنية لأحداث الإرهاب, وعلي نحو يحد من سطوة الرواية الأمنية الرسمية علي ما ينشر الصحفيون, ويحفظ حق المجتمع في معلومة صحيحة بعيدا عن التهوين أو التهويل. كما أن هناك ملفات مفتوحة مثل تعثر وضع القائمة السوداء لرجال ابن عليب خدم الاستبداد والفساد في الصحافة رغم مجهودات النقابة وجهات أخري. ناهيك عن تدني أجور الصحفيين العاملين في الإعلام المحلي. كما يدفع الزميلان سفيان الشواربي ونذير قطاري ضريبة مخاطر المهنة باختطافهما في ليبيا منذ سبتمبر الماضي.
لكن علي اي حال فإنني في المرة الأخيرة التي زرت فيها تونس أدركت الي اي حد تطورت الصحافة في المغرب العربي بأسره. فهناك صحف مطبوعة في المغرب والجزائر يتجاوز توزيع الواحدة منها يوميا نصف المليون نسخة وتتمتع بهامش حريات أكبر وبجودة مهنية عالية. وحتي في تونس التي يقدر عدد سكانها بعشرة في المائة من تعداد المصريين فان هناك صحفا توزع نحو80 ألف نسخة يوميا. وهو رقم يعني بحساب عدد سكان مصر نحو800 ألف. فأي صحيفة في مصر الآن يبلع متوسط توزيعها كل يوم هذا الرقم؟.
كنت قبل أن اذهب الي تونس للمرة الأولي لاأعرف من كتابها وصحفييها إلا الصديق( كمال العبيدي)والصديقة( نزيهة رجيبة)( أم زياد). وهما مدافعان لايكلان عن الحرية والمهنية. لكنني كل مرة أعود بالمزيد من عشرات الأصدقاء ومن أجيال الشباب. وهم خير رصيد في زمن عربي مازال صعبا.