رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

الإسلام الإندونيسى.. مرة أخرى

كتبت هنا عن الإسلام الإندونيسى عقب زيارة قمت بها إلى جاكرتا منذ سنوات، وهو ما أثار اندهاش كثيرين حول المصطلح ودلالاته السياسية والدينية، وكأن هناك إسلاماً مصرياً وآخر إندونيسيا وثالثاً سعودياً أو باكستانيا، كان المقصود وقتها التعريف بنمط جديد من التسامح لمواجهة الجماعات المتطرفة ودعم فكرة التعايش بين الأديان.

بعد نحو ثمانية أعوام من نشر المقال الأول، تابعت الاحتفال بمئوية جمعية نهضة العلماء يومى السادس والسابع من فبراير الحالى فى مدينة سورابايا وتبعد عن العاصمة جاكرتا نحو ألف كيلو متر، وهى الجمعية التى استوحيت منها مصطلح الإسلام الإندونيسى فى المقال السابق ولها علاقات وطيدة مع الأزهر الشريف وعلمائه، والكثير من المنتمين إليها درسوا فى جامعته وتضم فى عضويتها نحو تسعين مليون شخص من سكان إندونيسيا الذين يناهز عددهم 280 مليون نسمة.

كان الاحتفال الذى حضره ممثلون من دول مختلفة، فى مقدمتها مصر ومثلها وكيل شيخ الأزهر الدكتور محمد الضوينى، والدكتور محمود الهواري، أشبه بتدشين مرحلة جديدة فى تاريخ جمعية تبحث عن تأصيل عملى لمشروعها، ليتسنى تثبيت ونشر أفكارها داخل إندونيسيا وخارجها، وتحويل الدين الإسلامى من مشكلة فى دول كثيرة إلى وسيلة للحل عبر إعادة صياغة المبادئ الخمسة لما يعرف بالبانشا سيلا فى إندونيسيا، وهي: توحيد الإله والإنسانية والعدالة والوحدة الوطنية والشورى، بصورة تتناسب مع المجتمعات الأخرى، مع مراعاة خصوصياتها. يقوم مشروع التأصيل على الفصل بين الدين والسياسة، والبحث عن صيغة للدولة المدنية، والخروج من أسر الأفكار التى تنادى بالخلافة الإسلامية، ما يعنى تبنى مشروع يتصدى لجماعات تصر على الخلط بين الدين والسياسة وتوابعهما، يمكن أن يخدم حكومات عربية تكافح بضراوة الأفكار المتطرفة، ويستحق الدعم، لأنه يتسق مع قواعد النظام الدولى ومواثيق الأمم المتحدة، فالتحديات التى تواجهه كبيرة فى ظل وجود أنماط متباينة من التشدد.

تبدو هذه النوعية من التوجهات سهلة فى إندونيسيا التى يسودها التسامح والتعايش والانسجام، غير أن استمرارها وتعميمها يصطدم بعقبتين، الأولى نمو الجماعات المتطرفة مثل داعش والقاعدة والإخوان وتعارض أجنداتهم الخفية مع أساسيات النظام الدولي، والثانية عدم وجود تعاون وتنسيق كاملين بين مشروع نهضة العلماء والمنطقة العربية التى تمثل رمانة ميزان فى الاجتهادات الإسلامية.

إذا اعتبرنا العقبة الأولى قطعت فيها الجمعية شوطا كبيرا لكسر شوكتها، فالعقبة الثانية تحتاج إلى تكاتف جهود العلماء والمفكرين والحكومات، ويعد دور الأزهر ومجلس حكماء المسلمين ومقره أبوظبى ومنظمة العالم الإسلامي، من أهم ركائز تجاوزها. أعلم أن الأزهر له حضور طاغ فى دول شرق آسيا، وإندونيسيا بشكل خاص، لكن لا أفهم لماذا لا يشارك نهضة العلماء مشروعها الذى يمكن أن يغير فى مفاهيم تتردد حول أفكار تعد فى مقدمة التحديات التى تواجه الحكومات حاليا، ويقدم اجتهادات مباشرة تصب فى الفكرة العامة لتقديم مشروع حضارى لا تتنافر مكوناته مع أتباع الديانات الأخرى ويتصدى بصرامة لأفكار هدامة يروج لها متشددون فى دول مختلفة. لا يزال حضور الأزهر يقتصر على الطابع الرمزى والمعنوى فى كثير من المناسبات الدينية، ويؤدى تحاشيه الاجتهادات الفقهية الجريئة إلى التقليل من محوريته فى المستقبل، بدلا من تفويت الفرصة على تعظيم مكانته داخل مصر وخارجها، فاستثمار الحضور الذى يلقاه فى إندونيسيا وغيرها كفيل بأن يمنح القاهرة دورا مركزيا فى مواجهة الأفكار الكلاسيكية التى تغرف من التراث بلا تمييز بين عصر وآخر.

يحصل غالبية المسلمين على مراجعهم من المنطقة العربية، وعدم مسايرة علماء هذه المنطقة لما يجرى من تحولات سوف يؤدى إلى سحب البساط منهم، لأن الانفتاح الذى تتبناه جمعية نهضة العلماء ورئيسها الجديد يحيى خليل تثقوف لن يتوقف عند منطقة أو دولة بعينها،والذى يسير على خطى زعيمها الرئيس الإندونيسى الراحل عبدالرحمن وحيد. كما أن التفكير النقدى والحرص على الدولة الوطنية وتجاوز إشكاليات الخلاف بين الأديان السماوية من العوامل التى تشجع على المزيد من الاجتهاد لقطع الطريق على المتشددين، شريطة تقديم براهين علمية وحضارية قوية تجهض حجج المتمسكين بالتراث بلا تنقيح ما علق به من أخطاء ورواسب لا تتواءم مع العصر الراهن. تحتاج شرعنة الدولة المدنية إلى مروحة واسعة من الاجتهادات العصرية وقدرة كبيرة على الترويج لها لوقف زحف إعادة إنتاج التراث مرة أخرى الذى تقوم به حركات متطرفة، وهو ما يتنافر مع الأوضاع الحالية، فالخلافة العابرة للحدود التى تتبناها داعش والقاعدة وتظهر فى خطاب الإخوان على استحياء تراها نهضة العلماء عائقا أمام مشروعها ومن الواجب وضع تأصيل فقهى لحل أزمة مستمرة منذ قرون طويلة.

يمثل البقاء فى الخندق التقليدى كارثة على الحكومات والشعوب والمستقبل، ما يفرض على العلماء الظهور إلى النور والتصدى لأفكار ظلامية يجد فيها متشددون ضالتهم لبقاء الحال على ما هو عليه، فاستمرار الصمت أو الاجتهاد ببطء يمنحهم فرصة لاحتكار الفتوى والقبض على مفاتيحها ويعوق من يملكون مشروعا مناهضا لهم.

عبرت غالبية كلمات الوفود العربية والإسلامية عن نمط تقليدى تجاوزه الزمن، فقد تعاملوا مع مئوية جمعية نهضة العلماء بشكل كرنفالي، ولم ينتهز العلماء والشيوخ المناسبة لدعم مشروع نبذ الخلافة الإسلامية وتعزيز القواسم المشتركة لبناء أسس متينة للدولة المدنية فى المناطق التى تواجه أزمة حادة مع الجماعات الإسلامية، ولذلك قد تحتاج الدول العربية إلى مئة عام أخرى كى تستوعب مشروع نهضة العلماء فى إندونيسيا إذا أصر قادة المؤسسات الدينية فيها على دفن رءوسهم فى الرمال.


لمزيد من مقالات محمد أبو الفضل

رابط دائم: