عرفنا عبدالحميد الديب (1898 – 1943) شاعرا بائسا صعلوكا فقيرا معدما، يعاقر الخمر الرخيص، ويهجو الجميع بلا رحمة، ولا يؤمن بشىء؛ بل وصل به الأمر إلى حد الكفر بأنعم الله، هذا الشاعر له وجوه أخرى غير التى نعرفها عنه.
...........
ومن ضمن هذه الوجوه أنه عندما كان يقترب من الحادية والأربعين من عمره تسللت إلى روحه نفحات من الهدى والإيمان، وتاب وآمن بقضاء الله وقال:
تبتُ من ذنبى ومَنْ ترجع به
نفســــــــــــــــــــــه لله يبعثه نقيَّا
توبة مــــــــــن بعد أن فزت بها
كل شىءٍ صار فــــــــــى عينى هنيَّا
فترانى فى السماوات العُلا
أصحبُ الشمسَ وتعنو لى الثريَّا
ولدى سِدْرَتِها فـــــــى موكبٍ
مـــــــــــــا حَوَى إلا ملاكا أو نبيَّا
وعلى الأرضِ شهابًا لامعًا
مـــــــن صفاءِ القلب أو نور المحيَّا
فُتِحَت أبوابُ أرزاقى بِها
فسقانـــــــــى خيرَها شهدًا وريّا
ونأتْ عنى همومى بعدما
أصبح القلب من الدنيا خليا
ويقول:
أأكفر من بؤسي بأحكامِ خالقى
كفى بى رزقًا أننى الدهرُ مسلم
ثم يمضى على هذا المنوال فيقول:
وفى قسمةِ الأرزاقِ عدلٌ، وإنما
هنالك سرٌّ فى السماءِ وطَلْسَمُ
فيا رُبَّ محرومٍ من الرزق محْلُهُ
لكل عبـــــــــــــــاد الله خير وأنْعُمُ
ورُبَّ ليس يدرى غباؤه
أجنةُ خُلْد عيشه أم جَهَنَّمُ؟!!
ويقلع الديب عن شرب الخمر ويعلن تحطيمه للكأس:
تركتُ الطّلَى حتى حطمت كؤوسى
وخاصمت ندمانى بها وجليسى
ولــــــــــى من رضاءِ اللهِ أذكى مدامةً
أبيتُ بِها نشوان غير خسيِسِ
والوجه الثانى للديب أنه كان يكتب المقالات النثرية ببراعة، ويتضح من هذه منها أننا أمام كاتب ساخر من طراز فريد، يتميز نقده بالحدة، ويتسم بالصراحة الجارحة فى أحيان كثيرة. صور فى بعض هذه المقالات حياته وإدمانه وبؤسه وحكايته مع مستشفى المجانين وعلاجه من الإدمان والسجن تصويرا ساخرا صادقا صادما لا رياء فيه ولا نفاق ولم يجامل حتى نفسه. ومن مفاجآت هذه المقالات، اعترافه بأن الموسيقار الخالد سيد درويش هو الذى جرّه إلى أشياء أخرى يتعاطها؛ حيث كان الديب مقتصرا على الخمر الرخيص فقط، ويقول إنه تعرف عليه فى مقهى» نادى البرابرة» بحى بولاق وذلك عندما أجازه بشطر من الشعر كان مستعصيا على فنان الشعب الذى كان منزويا فى ركن يردد أكثر من مرة «والله تستاهل يا قلبى» دون أن يكمل عندئذ اقترب منه وأكمل قائلا: « ليه تميل ما كنت خالى انت أسباب كل كربى إنت أسباب ما جرالى» وبعدها أصبحا صديقين مؤتلفين إلا أن الموت اختطف درويش مبكرا ليتركه وحيدا مع بؤسه وفاقته وأحزانه بعد أيام من «النغنغة» فى صحبته. ويقول الديب فى مقال شائق له إن أمير الشعراء أحمد شوقى سطا على بيت من شعره وضعه فى أغنية عبدالوهاب الشهيرة «فى الليل لما خلى»وعندما أخبره صديق مشترك ضحك أمير الشعراء وقال: يعنى إيه يا سيدى سرقنا كلمتين من الديب زى بعضه! ويغفر الديب لشوقى فعلته بسبب جملته هذه ولكنه لم يغفر لشاعر الشباب أحمد رامى مثل هذا «السطو» لأنه لم يعتذر له!! ويصور الديب مأساته مع غرفته تصويرا ساخرا موجعا كما صوره شعرا من قبل؛ مؤكدا أنه كان كل أثاثها، وأن الجرائد والمجلات البالية هى وسادته وحشياته، ويستعجب الديب كيف عرفت بعض الحشرات طريقها إليه.
وفى مقال موجع يتحدث الديب عن الذين يعتدون على حريته ووحدانيته استهتارا بشخصيته، وسعيا وراء التسلية، وهو الذى يتحاشى الجميع؛ بسبب بؤس منظره، ورثاثة ثيابه، وكثرة النوافذ فى حذائه العتيق، وحالة طربوشه «اللى بالبلا»، هذه الحالة التى أدت أيضا إلى حرمانه من الحب وانصراف النساء عنه، وقد تزوج الديب بضعة أشهر من أرملة لديها طفلان، ولكنه طلقها لأنه «يا مولاى كما خلقتنى»! وكم فرقت الحاجة بين العزيزين المتحابين.
والعجيب فى أمر الديب أنه رغم سكره الدائم ومعاقرته للكأس الرديء يعترف أن الخمر عدو للشعر، وأنه لا يواتيه فى حالة السكر، وذكر أنه نظم القطعة التى غناها الموسيقار الموهوب رياض السنباطى وهو فى حالة استيقاظ ونشاط بعد إفاقته من غمرة السكر، والناس والأصدقاء يحسبون أنه كتبها وهو سكران «طينة» وتقول بداية القطعة المغناة: أكلما أقبَل ليلٌ أو نهارُ/شاقنى العهدُ وشاقتنى الديّارُ. وللديب كتابات سياسية ناقدة تناول فيها الأوضاع العامة المرتبطة بمصر وقضيتها فى تلك الفترة التى عاشها، وأبرز هذه الكتابات «استعباد الأمم مؤذن بضياع لغتها» و «قانون الطيران» و «الوداع يا جغبوب» وغيرها. أما قمة السخرية والتجريح ما كتبه الديب تحت عنوان «مداعبات مع الزملاء»؛ وهى ليست مداعبات بل نصال حادة مغروسة فى قلب ضحيته، وكما يقول هو» سنضطر اضطرارا إلى إفراد كل شخصية من شخصيات هؤلاء الأدعياء بمداعبة لكنها لابد من أن تكون قارصة فليتحملوا صدمة النقد كما حملونا الألم من سخافاتهم» ويقول عن زميل فى نهاية مقال بعد أن أوسعه نقدا من «اللى قلبك يحبه»: من فضلك يا ظريف بالعافية و«يا كشكش» الصحافة و«شارلى شابلن» وادى النيل».
والوجه الثالث للديب أنه كانت له قفشات ومواقف طريفة مع كبار الكتاب والأدباء؛ فقد ذهب يوما إلى مكتبة تتولى نشر وبيع كتب العقاد، ووجده هناك؛ فاقترب منه وحيّاه وسلم عليه؛ فأراد العقاد أن يكرمه بطريقة مهذبة ولا يجرح شعوره فهو عالم بحاله, وكان قد صدر للعقاد كتاب جديد أراد أن يقدم نسخا منه كهدايا لأصدقائه من أعلام الأدب والصحافة وكتب على كل نسخة الإهداء المناسب وقال للديب: أرجو أن تنوب عنى فى تقديم النسخ كهدايا لكل من كتبت اسمه عليها. ثم قدم له مبلغا من المال حتى لا يشعره بذل السؤال وقال له: خذ هذه الجنيهات لتنفق منها على المواصلات. كان العقاد يعلم أن المواصلات لن تكلفه سوى مليمات قليلة؛ ولكنه أراد مساعدته بطريقة غير مباشرة وربط عامل المكتبة نسخ الكتاب وحملها الديب ومضى إلى حال سبيله وبعد دقائق معدودات جاء رجل ومعه ربطة الكتب وقدمها إلى صاحب المكتبة والعقاد وأخبرهما أنه بائع كتب على سور الأزبكية وقد اشترى النسخ من رجل حالته بائسة ولما فتحها وجد على كل نسخة إهداءً إلى شخصية كبيرة وشهيرة فجاء بها إلى المكتبة ليتصرف فيها صاحبها..كان الديب قد باع الكتب ولم يوصلها لأصحابها كما أخبره صاحب العبقريات وأمام هذا الموقف دفع العقاد للبائع المبلغ الذى اشترى به النسخ من الديب وزيادة. وكان الشاعر الظريف كامل الشناوى يُخرج من جيبه عشرة قروش ويقربها للديب ويشير: حضرتها عشرة صاغ! ثم يلتفت إلى الورقة مشيرا إلى الديب ويقول لها وحضرته الشاعر الكبير عبدالحميد الديب!
رابط دائم: