لا يزال الروائي السورى خالد خليفة أسيرا لمدينته المفضلة «حلب» التى جعلها مسرحا لعدد من رواياته السابقة. فى روايته الأحدث «لم يُصلَ عليهم أحد» يعود خليفة إلى ماضٍ بعيد عن حلب اليوم، يرسم فيه تاريخا متخيلا، وإن كان يبدو شديد الواقعية، يجسد فيه ملحمة إنسانية ثرية تحركها قصص حب مستحيل وموت محتوم، حيث تتقاطع وتتشابك مصائر البشر باختلاف هوياتهم وشخصياتهم لتقدم صورة تاريخية متصورة للمدينة، تبرز كيف كانت حلب تتميز بالتنوع والتعددية فى الماضي.
فى الرواية، الصادرة بطبعتين في دار العين بالقاهرة ودار هاشيت انطوان ببيروت، تشتبك المجازرالتى ارتكبها العثمانيون ضد الأرمن وغيرهم ، مع الأوبئة والزلازل والطوفان الذى يبتلع قرية بأكملها، تتعدد الأسباب ويبقي الموت واحدا، عبئا ثقيلا وعملا شاقا لمن فقدوا أحباءهم. تبدأ الأحداث فى قرية تدعى «حوش حنا» تقع على تخوم حلب، حيث يفيض النهر عام 1907 ويبتلع القرية، فلا ينجو إلا من كان خارجها . ينجو زكريا وصديقه حنا بسبب وجودهم فى «قلعة الملذات» التى صممها صديقهم الثالث عازار، وبناها حنا وزكريا على احد التلال لتكون مقرا لمغامراتهم المثيرة مع بائعات الهوى وحفلات المجون، وخصصا فيها مكانا لمحبي الموت من المنتحرين إلا أنه لم ينتحر بها أحد. مثلت القلعة رمزا للتحرر وتحدى السلطة أيا كان نوعها، كما كانت ملجأ لبائعات الهوى العجائز المتقاعدات دون معيل، أيا كانت ديانتهن.
فى الطوفان فقد حنا زوجته وطفله، كما فقد زكريا ابنه، ونجت زوجته بصعوبة. تولى الصديقان بمساعدة الفلاحين من قرية مجاورة مهمة انتشال جثث الغرقى ودفنها. امتلأت مقبرة القرية بصف من القبور للمسلمين، وثانٍ للمسيحيين، وثالث للمجهولين والغرباء الذين لم يُصل عليهم أحد «حضر الكاهن والشيخ، ورفضا الصلاة على الجثث غير المعروفة أو ضائعة الملامح ، لكن زكريا تابع دفن الجميع على طريقته، دون اكتراث بصلاتهما مردداً أن الموتى يخسرون صفاتهم الدنيوية، ويتحولون إلى كائنات أخرى لا تعنيهم أمور الجنة» ، لتبدأ الرواية مبكرا فى التعرض لأزمة وتساؤلات الهوية ليس فقط فى حالة الموتى المجهولين بل أيضا فى براءة الطفلين نجيب البيازيدى، جد زكريا ، والصبى اليهودى حاييم إستنبولى ونظرتهم ليوم القيامة والذهاب إلى الجنة.
نجا «حنا» المسيحي السرياني وهو طفل من مجزرة ماردين التى قضي فيها الجنود العثمانيون على عائلته، وتكفلت عائلة صديق والده أحمد البيازيدى المسلمة بتربيته. هكذا كبر حنا مع صديقه زكريا أحمد البيازيدى واخته سعاد ذات المخيلة الواسعة التى مثلت حب العمر لـ«حنا»، وكانت نشأته وحبه لها جزءا أصيلا من معاناته المستمرة مع تحديد هويته وانتمائه رغم امتداد وقوة صداقة زكريا وحنا منذ الطفولة حتى الموت. كما صادق حنا وزكريا أيضا الفنان التشكيلى وليم عيسي ومهندس العمارة عازارابن حاييم استنبولى الذى ظل متمسكا بالعيش فى حلب ورفض الهجرة لإسرائيل كأبنائه.
تبرز الرواية التعايش والمواطنة الذين نعم بهما أهل حلب عبر قوة العلاقات بين العائلات رغم اختلاف دياناتها وقومياتها، حيث كان نسيج المدينة المجتمعى يتسع للمسلم والمسيحى واليهودى والكردى والأرمنى والتركى، مما وفرمساحة لتقبل الزواج المختلط، كما حدث مع قصة الحب المستحيل الذى جمع بين عائشة المفتى ووليم عيسي التى انتهت بقتلهما على يد حكمت ضاشوالى الضابط العثماني الذى افتتن بعائشة ورفضته فقتلها مع وليم لهروبها معه، وبعد قتلهما قام حنا وزكريا بدفنهما معا متجاورين بحقل كرزيمتلكه حنا، دون أن يُصل عليهما أحد، وصارا رمزا للحب وأصبح قبرهما يسمى قبر العاشقين، وسمى زكريا أبناءه باسمهما تكريما لذكراهما. قُتل العاشقان بسبب وشاية من صلاح العزيزي الذي كان مراسلاً بين عائشة ووليم، إلا أنه أحبها، وكره وجودها مع وليم فأفشى مكان وجودهما للضابط العثماني، وبعد قتلهما لم يتمكن من العيش مع الذنب والعار فقتل الضابط، وأخذ ينشد مقاطع من رسائل عائشة ووليم من على مئذنة الجامع الأموي لتسمعه كل حلب ثم انتحر فسمى بـ «إمام العاشقين». أيضا قصة حب حنا وسعاد كل منهما أحب الآخر للنهاية برغم أن كل منهما تزوج بشخص آخر. ولكن رغم قوة الحب، كانت المأساة والموت هما الأقوى.
تشهد شخصية حنا تحولات كبيرة فبعد غرق زوجته وطفله، استسلم للعزلة فقد«أوحى له مشهد الأرض بعد الطوفان بفكرة أنه ليس الناجون من الموت بالضرورة أناسا مازالوا على قيد الحياة، فمنذ تلك اللحظة بدأت أسئلة الحياة والموت تحفر فى عمق ذاته»، زهد حنا ملذات الحياة وأرقته تساؤلات هويته وجذوره، وألحت عليه رؤيا حول اكتشافه لكنيسة وديرتحت الأنقاض، فقرر اتباعها وسانده صديقه زكريا الذى كان يشاركه الحفر بحثا عن الكنيسة ، وعندما عثرا عليها ووقفا معا أمام بقايا حائطها، بكى حنا فى صمت، وأدرك زكريا أنه فقد صديقه القديم. أعاد حنا بناء الدير. سعت ماريانا، الفتاة الناجية من الطوفان إلى تحويل حنا إلى قديس صاحب معجزات رغم معارضته لكل القصص الكاذبة التى كانت تنشرها عنه وتصديق الناس لها ، ولكنه لم يستطع الفكاك من خطة ماريانا كما قال له الأب إبراهيم: « ليس المهم حدوث المعجزات بل الأهم تصديق الناس لها، دوما نحتاج إلى المعجزات للتخفيف من بؤسنا البشرى ، صناعة القديس تحتاج إلى تواطؤ العامة».لم ينجح حنا فى أن يصبح قديسا، كما لم ينجح فى العودة إلى سابق عهده من قبل الطوفان، ومع تقدمه بالعمرعاد ليعيش مع زكريا يعين كل منهما الآخر فى شيخوخته ومرضه، وانضمت لهما سعاد، وبعد تبادل خطابات الاعتراف بالحب بينها وبين حنا، قرر حنا الانتحار غرقا فى النهر.
فى مقابل تساؤلات الهوية، نجح خليفة بامتياز فى الحفاظ على بنية سردية قوية رغم تعقيدها وتشابكها، وتعدد الشخصيات، ورسم عوالم ملحمية للرواية تتقاطع فيها الأزمنة وتتشابك فيها مصائر الشخصيات التى أتت معبرة عن تنوع دينى وقومي واجتماعي وسياسي، عكس خلالها التيارات الدينية والثقافية المختلفة والصراعات بينهما في حلب القرن التاسع عشر ومنتصف القرن العشرين، وتأثير ذلك على التحولات الاجتماعية و السياسية والدينية التى ضربت بجذورها فى المدينة منذ ذلك الوقت وتصاعدت حتى عصرنا هذا. فمثلا عبر شخصية أمينة ، عمة زكريا وسعاد التى تحولت من زاهدة حنونة إلى امرأة متشددة تطالب بتطبيق الشريعة بقوة السلاح، ترصد الرواية ظهور الإسلاميين المتشددين الذين أحرقوا القلعة التي كانت تشكل رمز التحرر لأصحابها، كما أحرقوا عرض الأزياء ومشغل الخياطة التى كانت تملكه سعاد عقابا لها على خلعها للحجاب.
«لم يُصلّ عليهم أحد» ليست فقط رواية عن تاريخ متخيل لمدينة حلب. هى رواية تحفر فى الذات الإنسانية، وتطرح تساؤلات عن الهوية والانتماء، والحياة والموت، وكيف تسيطر المأساة الإنسانية لتجرد الحياة من مضمونها وروحها لتصبح مجرد استسلام دون أدنى مقاومة وانتظار لموت محتوم قادم.
خالد خليفة روائي وسينارست سوري ولد فى حلب، تُرجمت أعماله إلى الكثير من اللغات. ومنها «لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة» التي وصلت إلى القائمة القصيرة لجائزة البوكر العربيّة وحازت جائزة نجيب محفوظ لعام 2013، و»مديح الكراهية» (2006) التي وصلت إلى القائمة القصيرة لجائزة البوكر العربيّة كذلك. و»الموت عمل شاق» (2016).
رابط دائم: