هذا هو لب تلك (العقيدة) الغربية (غير السماوية) التي تسعى الولايات المتحدة وحلفاؤها لبسط نفوذها ونشرها في ربوع الكرة الأرضية، وكما لو أن الله سبحانه وتعالى- من وجهة نظرهم- قد خلق الأكوان و المخلوقات جميعا من أجل الديمقراطية؛ فمن آمن بها نجا، ومن اعترض عليها هلك!!
تلك هي (اللبانة) التى تتشدق بها الأنظمة في مشارق الأرض ومغاربها لمراضاة (كهنة) الديمقراطية من ناحية، ومراضاة الشعوب المقهورة الحالمة من ناحية أخرى، حتى ولو كانت هذه الأغلبية على ضلال؟ نعم، حتى ولو كانت الأغلبية على منتهى الضلال!!
ولقد لوحت أمريكا وأتباعها بهذه (الجزرة) لشعوب الشرق الأوسط قاطبة، تمنيهم وتزين لهم سوء أعمالهم، وهي تعلم علم اليقين أن هذا الشعار البراق قادر على أن يدغدغ المشاعر ويلهب العزائم والحناجر (نحو غد أفضل)، فإذا بالشعوب تخرج عن بكرة أبيها رافعة شعار الديمقراطية في كل الميادين؛ تسقط نظاما تلو نظام، فمن أدرك هول الأزمة (تنحى) نزولا على رغبة (الأغلبية) الكاسحة، ومن عصى رفع الغرب في وجهه العصا، وانبرى يقاتله وشيعته إلى يوم يبعثون؛ يهدم ويحرق كل من يقف في طريقه الأغر!!
أما الغريب حقا، فهو أنه حينما استشرت الفوضى العارمة في المدائن ارتكازا على هذا المبدأ ، أو قل تحققت المرحلة الأولى من السيناريو الفوضوي إذا بأمريكا وأتباعها يمارسون منتهى عكس كل مابشروا به تماما.. كيف؟
فلايغفل الضرير والبصير أنه إذا كان سلاح الأغلبية هو السلاح الفتاك الذى تم استخدامه للنيل من استقرار الأوطان المستهدفة في المرحلة الأولى، فإن الغرب راح يميل نحو مناصرة الأقليات على حساب الأغلبية (فجأة)!!
فليس من قبيل الصدفة في شىء أبدا أن نشهد هذا الإصرار الأمريكي-الغربي على تمكين جماعة مثل الإخوان المسلمين مثلا من حكم مصر بشتى السبل وبأي ثمن ضاربين عرض الحائط بجحافل رأوها رؤي العين في ثورة جارفة نشبت من أجل التخلص منهم! وفي هذا ، فأنا لا أعتقد بأي حال من الأحوال أن الأمر يحتاج إلى دراسات أو أبحاث أو إحصائيات لاستبيان الحجم السكاني الذي تشكله جماعة الإخوان ومؤيدوها داخل التركيبة السكانية في مصر؛ أو قل حجم التأثير الأيديولوجى لفكر هذه الجماعة داخل أروقة ودهاليز المجتمع المصري الذي يمكننا القياس عليه أو قياسه بمعيار الأغلبية والأقلية؛ فجميعنا نعرف، ومن قبلنا الغرب يعرف، حجم ما تتمتع به هذه الجماعة (باعتراف الجميع) من سرية وتكتم منذ نشأتها وحتى وصولها للحكم بل وحتى يومنا هذا ، إلى الدرجة التى تجعلنا نتحدى أن يزعم أحد علمه الكامل ببواطن فكر هذه الجماعة، ربما باستثناء عناصر محددة داخل أروقة الأجهزة الأمنية، بما يجعل ما دون ذلك مجرد أضغاث أحلام وادعاءات معرفية لا ترقى إلى مستوى المعرفة الحقة وإنما شذرات وقصاصات كتب من هنا أو هناك، وإلا فبماذا تفسر مدى العجز المجتمعي الواضح في التعامل مع هؤلاء أثناء وبعد سقوط حكمهم؟ وهو التعامل الذي تدنى للأسف إلى مستوى العراك والاشتباك بالأيدى والسلاح فقط لاغير؛فما أن يتبدى هؤلاء حتى تجد رد الفعل الوحيد واللغة الوحيدة المعتمدة(شعبيا) هي الضرب؛ ولو أن هناك ملامح خطاب عقلاني يمكنه الارتكاز على سابق اطلاع يذكرعلى فكرهم، إذن لتحاور الناس معهم على أساسه! ولكن هذا لا يحدث، فمن أين جاءت فكرة الأغلبية التي يمثلها هؤلاء بمنطق الديمقراطية إذن؟
وليست مصر هى النموذج الوحيد الذى يثبت انحياز الغرب المفاجئ غير المبرر للأقلية على حساب الأغلبية (بعكس ماتدعو إليه الديمقراطية)،فالناظر عن اليمين إلى بلاد اليمن مثلا سيجد الفكرة نفسها؛ فماتلبث أمريكا وأتباعها أن تؤجج فكرة تغليب الحوثيين عنوة، ثم بالنظر إلى الأعلى قليلا، سيجد تمكين الشيعة (الأغلبية) بعد (إسقاط) صرح صدام حسين، ثم مساعدة السنة (الأقلية) بعد ذلك من خلال تمثيلية داعش الآن.. وهلم جرا في مختلف الاتجاهات!
وأخيرا ..إذا كان الزعم الديمقراطي بأن استقرار الأوطان و ازدهارها مبني في الأساس على تمكين الأغلبية من الحكم ، فإن العبث بأحلام الأقليات لتمكينها (عنوة) لهو السلاح الشيطانى الأمثل من أجل إدخال هذه المجتمعات في دوائر صراع وعنف؛ وهو الضمان النموذجي لاستشراء فوضى لانهائية وقودها شيئان : رغبة الأغلبية في استرداد الحق المنطقي المسلوب, في مقابل (استقتال) الأقلية دفاعا عن مكتسب ذاقت حلاوته و تعلم علم اليقين أنها لن تناله مرة أخرى أبدا إذا مافرطت فيه!