كغيره من المثقفين الطامحين الذين تركوا بلادهم إثر حروب واشتباكات طائفية, قرر الشاب داود بركات ابن الـ19 عاما وقتها أن يشد الرحال إلي مصر, أرض الأحلام والاطمئنان,ملجأ المثقفين والأدباء, منارة الشرق.
جاء إلي مصر, وهو يملك أدواته: أجاد العربية والفرنسية والإنجليزية والسريانية, بدأ موظفا في مصلحة المساحة بطنطا,ثم مدرسا بزفتي, حتي جاء حادث شهير ليلقي به في مهنة الصعاب والأشواك, مهنة الصحافة, ليبزغ نجمه سريعا, ويتنقل بين عدة صحف صغيرة, النيل والمحروسة والقاهرة, ثم يؤسس مع صديقه يوسف الخازن جريدة الأخبار, ومنها إلي الأهرام رئيسا لتحريرها, وتكون فترتها هي أطول فترة لرئيس تحرير في تاريخها, أكثر من33 عاما.
ولد داود بركات في يحشوش- فتوح كسروان, لبنان, صباح الثامن من كانون الأول ديسمبر سنة1868, وتلقي دروسه الأولية في مدرسة تحت السنديانة علي يد عمه الخوري يوسف بركات أحد حاملي ألوية العلم والأدب في المنطقة,ومنها تعلم صلابة الإيمان والفكر والعمل, وانتقل إلي مدرسة المحبة في عرمون وهي المشهورة بتعليم اللغة العربية, ومنها إلي مدرسة الحكمة في بيروت, وفيها نهل الحكمة من جذورها وفروعها.
أنهي دروسه وهو في سن المراهقة متقنا العربية والفرنسية والانجليزية, وتولي التعليم في مدرسة بئر اللهيت, هاجر إلي مصر سنة1887 طلبا لآفاق أوسع حيث عمل في وظيفة حكومية في مصلحة المساحة بطنطا,ثم في التدريس في مدرسة زفتي ومدرستي اليسوعية والاميركان, حرر في جريدة المحروسة فترة من الزمن, ثم أنشأ مع صديقه الشيخ يوسف الخازن ونسيبه إبراهيم بركات جريدة الأخبار, وفي سنة1899 ترأس تحرير جريدة الأهرام حتي وفاته عام.1933
داود بركات.. شيخ الصحافة العربية
في كتابه داود بركات شيخ الصحافة العربية.. من بلاد الأرز إلي وادي النيل يقول رياض نخول عنه: داود بركات صحافي بارع له المقام الأول بين كتاب العصر, وسياسي خبير له معرفة بدقائق الأمور وأسرارها, تولي رئاسة تحرير الأهرام علي مدي34 سنة, فبرز كأبرع الصحافيين في الشرق, ومن أعفهم قلما,ومن أقدرهم علي استخراج النتائج من الحوادث, امتاز بدقة النظر وسعة الاطلاع, فهو سياسي قدير وقف علي أسرار السياسة الشرقية وعالج مشاكلها وقضاياها علي ضوء مصالح مصر والعروبة والإسلام فكان له أياد بيضاء وهجمات عنيفة في سبيل القضية الفلسطينية, ويؤكد نجيب كنعان أن داود بركات قد لعب دورا فاعلا في نشأة الجامعة العربية بل إنها أول ما ولدت في مكاتب الأهرام, مثبتا بعمله تمسكه بقوميته العربية أكثر من أي شخصية سياسية أو فكرية أخري أكانت معاصرة أم لا.
عرف ببره لوطنيه: لبنان ومصر, وبولائه لهما, وظل أمينا لهما مخلصا في حبهما, مدافعا من خلالهما عن القضية المصرية والقضية السورية.
وداود مؤرخ دقيق, كتب في نهضة مصر الحديثة بعد إبراهيم باشا, وفي الثورة العرابية في الحجاز في1916 وحوادث السودان, كما كتب في السياسة الانجليزية في الشرق ولا سيما مصر, ولقد اعتبر لسنوات طويلة من الشخصيات الصحافية ذات النفوذ الواسع في السياسة المصرية, بحيث كان يوجه الرأي العام والحكومات.
كان مكتبه في جريدة الأهرام مجتمعا أدبيا للساسة والكتاب, يحسن استقبالهم ببشاشته ولطفه, فأجمع الناس علي حبه واحترامه, وكان الوزراء يقصدونه للتداول معه حول العديد من القضايا الكبري آخذين برأيه ونصائحه في المسائل المهمة, وقد لعب دورا سياسيا مهما, حيث أصبح المرجع الأهم للحكومات المصرية التي كانت تؤلف في مكتبه وتستقيل من مكتبه.
ويضيف نخول: مع انتقال جريدة الأهرام إلي القاهرة عام1898 طلب بشارة تقلا من داود بركات عام1899 أن يتولي رئاسة التحرير وظل في منصبه حتي وفاته سنة1933, وقد اتسعت الأهرام في أيامه, إذ عندما تسلمها كانت تصدر في أربع صفحات, فتوفي وهي أكبر صحيفة في الشرق العربي تصدر في أربع عشرة صفحة, حتي قال صديقه بولس غانم إنه ساس أمورها بحكمة وإخلاص, وقادها وسط العواصف قيادة الربان الماهر حتي أصبحت أرقي الصحف وأوسعها انتشارا, فأمكن الأهرام إبان الحرب العالمية وفي ظل الأحكام العرفية أن تطلع قراءها علي كل خفي ممنوع نشره من دون أن تتعرض إلي إيقاف أو تعطيل وقد أطلق عليه شيخ الصحافة لما تحلي به من الثقافة العالية والمقدرة الصحافية ولمواقفه السياسية البعيدة عن المتاجرة بالمباديء.
الحكومة المصرية تهدي لبنان تمثالا لداود بركات
في سبتمبر عام1984 أقيمت احتفالية خاصة بالراحل دوادبركات إزاحة الستار عن تمثاله, حيث قدمته الحكومة المصرية هدية للراحل, وذلك في حديقته ببلدته يحشوش, وقد كان من ضمن الحاضرين ممثلا لرئيس الجمهورية وقتها الشيخ أمين الجميل, والرئيس شارل حلو, وسفير مصر في لبنان حسن شاش, ونقيب الصحافة محمد البعلبكي, ونقيب المحررين ملحم كرم, وصلاح الدين حافظ مدير التحرير وقتها.
وكانت كلمة مدير تحرير الأهرام صلاح الدين حافظ الذي نقل تحية إعزاز وتقدير من أسرة الأهرام وعلي رأسها الاستاذ ابراهيم نافع رئيس مجلس الادارة ورئيس التحريروقال:
ومثلما كانت كل من الحضارة الفرعونية والحضارة الفينيقية سباقة الي ريادة التاريخ وفتح آفاق الشروق والتقدم, امام البشرية قبل آلاف السنين, جاءت المدرستان الصحافيتان المصرية واللبنانية ترتادان آفاق الفكر والثقافة والاعلام والتنوير والتحديث بداية من القرن الماضي. واللافت انهما ما زالتا الي اليوم تحتلان موقع الريادة ومقعد القيادة بالنسبة الي الصحافة العربية عامة. ومثلما كانت الحضارتان الفرعونية والفينيقية تتسابقان منذ القدم, لارتياد المجهول والخوض في بحر الظلمات بحثا ومغامرة واستكشافا, جاءت المدرستان الصحافيتان المصرية واللبنانية تعيدان الكرة وتفتحان مغاليق التطور وتدقان ابواب الاستنارة في وطننا العربي الكبير.
وقدمت أخيرا هدية الاهرام الي عائلة داود بركات لوحة تاريخية موشاة بالذهب تمثل الصفحة الاولي من العدد الاول من الاهرام.
وقد ألقي المطران بشارة الراعي( البطريرك الحالي) ممثلا البطريرك مار نصر الله بطرس صفيركلمة تحدث فيها عن ثلاث عبر استشفها من حياة داود بركات وهي: العبرة الوطنية, حيث اغترب عن لبنان, وهو في عز شبابه, وانتقل الي مصر. لم يغترب نفورا من أرض احبها, ولا كفرا بقيم آمن بها, ولا طمعا بمال اشتهاه. انما هاجر, ورعيل من الأدباء والمفكرين, رفضا لذل, وتحديا لظلم تركي اسود, وانتصارا علي ارهاب فكري انحطاطي.
والعبرة الحضارية, فمن هذا الجبل اللبناني الأبي, انتقل داود بركات إلي مصر, ليعمل في صحافتها, وليصبح شيخ الصحافة العربية فيها. لم يكن وحده في هجرته, سبقه الي مصر ورافقه ولحق به عدد كبير من رجالات لبنان الخالدين, من مثل سليم وبشارة تقلا, جرجي زيدان, ابراهيم اليازجي,يعقوب صروف وغيرهم. وكانت الاهرام و المقتطف, وكانت نهضة مصر الحضارية.
وأخيرا العبرة الاعلامية: ففضلا عن شخصيته الوطنية والسياسية والتاريخية واللغوية, فان الوجه الاعلامي لداود بركات كان الوجه الأكثر بروزا وخلودا, بعصاميته وجهده وكده اليومي, استطاع هذا الرجل الكبير ان يرتقي سلم الصحافة,بدأ مراسلا ومحررا, وانتهي رئيسا لتحرير الاهرام ومؤسسا لنقابة الصحافة المصرية.
رئيس جمعية داوود بركات الثقافية الدكتور حكمت بركات قال عنه في ندوة توقيع كتاب داوود بركات شيخ الصحافة العربيةفي2012/12/4: إن موضوع هذه الندوة يتخطي قدراتنا. السرد فيه يطول, وينساب دون اجترار. الباحث في أغواره يعتريه الذهول وتمسكه الرعشة, كلما غاص في بركات هذا البحر, لوفرة الكنوز الجديدة المكتشفة في كل سبر. وكم هو الحمل ثقيل, ليرتقي به الي اليابسة, كي يتلألأ تحت الشمس,بفضل رواد العلم والمعرفة. رحم الله أحمد زكي باشا الذي إختصر داوود بركات بالأمة.
داوود بركات المنارة التي إنطفأت فجأة قبل أوانها, أعتمت محيطهما, فتعثر قاطنوه ومازالوا يتخبطون حتي يومنا هذا.
أمة برجل. وللأمة ركائز متشعبة يصعب تحديدها. فكأن شيخ الصحافة العربية اختصرها بذاته. فحول بقدرته وجبروته مكاتب الأهرام الي مجالس تنظر بشؤون الدولة وتوجهاتها داخليا وخارجيا. فلم يهادن المنافقين والكذبة وما أكثرهم. ولم يهب قلمه أحدا حتي انحني تحت مقصلته كل من توهم أنه إعتلي شأنا فتعداه, أو أصاب مركزا فتخطاه.
وأشار د. حكمت إلي أن داود كان سياسيا كبيرا وصحافياحرا, كان يصحح دون كيد, وينتقد دون تجريح, كما قال عنه المغفور له الرئيس شارل حلو.
فلم يترك داوود بركات مناسبة, عامة أو خاصة, حتي تكلم غاضبا, منتقدا هجرة المزارعين والفلاحين والحرفيين من القري الي المدن, هؤلاء الناس الذين أحبهم كثيرا, وناضل وروع حكومات من أجلهم, فدعا المسؤولين جميعهم لصب اهتماماتهم من أجل إنماء الريف لإرتباطه الوثيق بالأمن الإجتماعي والسياسي والقومي.
وبحكم موقعه وما يتنامي اليه, تأكد بأن المصلحة الوحيدة للقوي الخارجية, ومعها أصدقاء الداخل, هي نشر عدم الإستقرار الدائم الآيل الي حين حدوث فوضي عامة, ثم حروب تدمر فيها حضارات, وما أعظمها, وتنهب خلالها وبعدها خيرات وما أكثرها. لذلك, بجرأة فذة, جابه المسئولين والسفراء والرؤساء والملوك. لم يكترث للمحرمات المزعومة, فاجتاحها; لم يأبه للمقامات المجلجلة, دينية كانت أم مدنية, فاقتحمها. فحذرت, حتي السباع صده, هذا المصلح العظيم المخيف والشجاع, صدر يوما بحق أهرامه قرار ملكي بالإقفال, فلم يجرؤ الوزير المختص علي تنفيذه.
قالوا عنه
> داود الصحافي
لما احترف الصحافة لم يضن عليها بكل جهده وكل وقته, ولم يأذن لأمر غير عالق بها أن يشغله عنها, فعني بالكثير والقليل من شئونها ورقب الصحف الغربية الكبري في أطوار تكاملها,وتنبه للدقيق والجليل من عوامل رقيها واستفاد خير ما يستفاد لتهذيب وتدريب المؤتمرين أمره. فأما تهذيب ملكته, وهو الأهم, فقد بلغ به نهاية ما يطلب في الصحفي المتفوق. ذلك أنه لم يكتف بملاحظة الحوادث والرجال واستبطان ما خفي من كنه كل فئة من فئات وكل فرد من الأفراد في المحيط الذي عاش به وله, ولم يكتف بما كانت تذخره له ذاكراته العجيبة من مختلف الموسوعات والمشهودات بل أمعن في استيفاء ذلك التهذيب إمعانا لم يخطر لمحرر شرقي قبله أنه بحاجة له. فلم يدع كتابا إلا طالعه ولا وثيقة إلا وقف عليها من كل ما له صلة بالمسائل الشرقية التي كان همه منصرفا إليها. ومع إحاطته بذلك البحر الزاخر من المعلومات, وما رزقه من سلامة الحكم في جواهرها وأعراضها ومن صحة التبين لأسبابها ومسبباتها, ومن المقدرة علي التصرف فيها بالمقارنة والتخريج,أو علي استحضار كل مجهول أو منسي منها للتدليل والإقناع. ومع ما أوتيه من السجية النقية في الأدب وأفضي به إليه المران والارتياض من سهولة التركيب وفصاحة الأسلوب وبلاغة التعبير عن الغرض وطلاقة القريحة في مقامات الإسهاب ولطف تقييدها بما قل ودل في مقامات الإيجاز, سما إلي تلك المكانة التي أكسبته ذلك الولاء والإعجاب اللذين أظهرتها له الأمم بما لم يسبق له مثيل من الإجماع علي اختلاف الآراء والمذاهب.
> خليل مطران
وجمع داود في روحه الصحفي بين صحافة القرن التاسع عشر التي كانت صحافة رأي وفكر وسياسة وبين صحافة القرن العشرين التي أصبحت مجموعة قصص من معايش الناس ومصالحهم وأخبارهم وحوادثهم ولا تكترث للسياسة إلا بقدر ما تشغله من أفكار الناس.
> توفيق اليازجي
فحياة الأهرام من روح داود.. وروح الأهرام من إيمانه
> بولس غانم
كان للثورة المصرية بمثابة النار للفتيل
> حسين هيكل
إن داود بركات قد تمثلت فيه إرادة أمة وثورة أمة.
وفاته
في اليوم الرابع من تشرين الثاني/ نوفمبر1933 ساءت حالة داود بركات الصحية وشعر الجميع بخطورة الموقف, وكان طبيبه الدكتور محجوب تابت بجانبه في أثناء النزع الأخير, فقال له: داود, لا تخف.. ففتح عينيه وابتسم ابتسامة تنم عن الاطمئنان إلي المصير الأخير, وأجابه: ومتي عهدتني جبانا فصافح الموت بسلام, ومشت وراء نعشه مصر بكاملها.
رابط دائم: