-
أنا «بنت النيل».. ومصر لم تفارقنى فى غربتى
-
مجتمعى كان من الإذاعة و«الأهرام» .. ولم أنتمِ لشلة الفن
-
كنت أُتّهم بالغرور.. والحقيقة أننى خجولة
-
شعرت بأن العمر توقف مع كورونا لحظة نجاحى حين نادانى الناس بأسماء شخصياتى
-
والدى كان مصدر ثقافى.. وعقلى كان سابقا عمرى
بخطوات هادئة، تحمل فى طياتها مزيجًا من الذكريات والدهشة، دخلت الفنانة الكبيرة لبنى عبدالعزيز مبنى جريدة الأهرام. لم تكن خطوات عابرة، بل كانت شريطًا طويلًا من الصور والمواقف التى بدأت منذ طفولتها، يوم اصطحبها والدها الراحل حامد عبدالعزيز، المحرر بالأهرام، وهى لم تتجاوز العاشرة من عمرها، لتتعرف على أروقة الصحيفة العريقة.
منذ ذلك الحين، صار هذا المكان شاهدًا على أول ملامح وعيها بالحياة والكلمة والمعنى. تأملت الجدران بعينين مازال سحرهما حاضرا، وحين جلست فى قاعة لبيب السباعى، وقد أحاطت بها وجوه صحفية وأدبية وفكرية، أخذنا نستمع إليها وهى تحكي، ونتجاذب أطراف الحديث معهاوفى لفتة تحمل الكثير من المعاني، تم تكريم لبنى عبدالعزيز، حيث أهداها الكاتب الصحفى ماجد منير، رئيس تحرير الأهرام، نسخة نادرة من العدد الأول للجريدة. أضاءت ملامحها بفرح طفولى ممتزج بوقار السنين، وكأنها عادت بذاكرتها إلى بداياتها حين كانت تقرأ الأهرام لتنهل من صفحاتها ثقافة شكلت وعيها ورسخت معاييرها الفكرية والفنية.
افتتحت الندوة بكلمات الكاتبة الصحفية فاطمة شعراوى التى رحبت بالفنانة الكبيرة قائلة: «نرحب بكِ فى الأهرام.. بيتك وبيت والدك»، وما إن أنهت عبارتها حتى قاطعتها لبنى عبدالعزيز بابتسامة واسعة قائلة: «منذ أن كنت فى العاشرة من عمرى وأنا متصلة بالأهرام» جاء الرد سريعا، لكنه كان محملا بصدق الذكريات، لترد فاطمة شعراوى مؤكدة: «صاحبة الأعمال الجميلة، التى إن شوهد فيلم لها مرة، شوهد ألف مرة.. لمضمونه وهدفه».
ثم جاءت مداخلة الصحفية أنس الوجود رضوان التى رحبت بها بدفء: «أهلا بحضرتك فى مؤسسة الأهرام، نحن سعداء بوجودك اليوم.. أنا معجبة بفنك وأدائك، وكان لى الحظ أن أجرى أكثر من حوار معكِ، شخصية مثقفة، حضورك طاغٍ، ومازلتِ تحتفظين بصوتك الجميل الدافئ. وأود أن أبدأ من البدايات، من الطفولة.. فسيكولوجية الطفولة أمر بالغ الصعوبة، كيف تعاملتِ معها، وكيف استطعتِ التغلب عليها؟
تنهدت لبنى عبدالعزيز قليلا، وأخذت تسترجع الذكريات، لتروى بصوتها الرقيق: «كنت طفلة متفوقة جدًا فى المدرسة، وإذا أقيمت حفلة بحضور كبار الضيوف، كانوا يطلبون منى أن ألقى شعرا. حتى والدي، حين كان يقيم حفلات فى بيتنا، وأمام الحضور كان بينهم عبدالحميد يونس، طلب منى أن ألقى قصيدة، فعلت ذلك، فأدهشت الحاضرين، حتى إن الأستاذ عبدالحميد طلب من والدى أن يأخذنى إلى الإذاعة».
ابتسمت وهى تتابع: «انبهروا بي، وكانوا ينادوننى بـ «لولو» تشبيها بكارتون شهير وقتها اسمه «ليتل لولو». مثلت، وغنيت، وألقيت الشعر.. وبعد سنتين أو ثلاث أُخرج الإنجليز من الإذاعة، لكننى بقيت مرتبطة بها. عندما سألنى عبدالحميد يونس: هنعمل إيه؟ قلت له إننى أريد أن أقدم برنامجا، وقتها كان هناك كبار الأسماء مثل جمال فارس وآخرين، فتكاتفوا ليساعدوني. وبالفعل أعددنا برنامجًا، وتولى عبد الحميد يونس تقديمه. وحين سمعنى المسئولون قالوا: دى كويسة أوى.. عينّوها».
ثم تلمع عيناها وهى تستحضر وجوها غابت: «أتذكر جيدًا الصحفى الكبير على حمدى الجمال، كان يأتى ويشارك معنا، ومرت السنوات حتى جاءت منحة الفولبرايت. اختاروا سبعة طلاب وكنت واحدة منهم، بعد تسعة أشهر حصلت على الماجستير، وبدأت فى الدكتوراه، لكن مرض أختى أجبرنى على العودة، عدت سريعًا، وعدت أيضًا إلى علاقتى بالأهرام عبر والدى، حيث كنت أرسل له مقالات بالإنجليزية، فيعيد صياغتها بالعربية وتنشر على صفحات الأهرام».
وتكمل بابتسامة حنين: «الأستاذ عثمان العزب وقتها كلّفنى بعمل برنامج على شرائط الفيديو الخاصة بمصر فى أمريكا، ثم تضحك قليلًا وهى تسترجع موقفًا: «أتذكر أننى التقيت عبد الحليم حافظ لأول مرة فى بيت حمدى الجمال.. لم أكن أعلم أننى سأصير جزءا من جيل ستتغزل فيه الأغنيات».
البداية كانت مصادفة، حين فتح معها الحديث عن التمثيل ورغبة إحسان عبد القدوس فى تقديم رواية «الوسادة الخالية»، بينما كان رمسيس نجيب وجمال الليثى يلحان عليها بتوقيع عقد لثلاثة أفلام دفعة واحدة.
جلست تفكر طويلا، وسألت والدها، الذى رد عليها بهدوء الأب الواثق: «اختارى ما ترينه مناسبا.. القرار قرارك». لم تكن تميل إلى الأضواء ولاتحب أن تُزج فى عالم الشهرة، لكنها فى النهاية قالت لنفسها: «لمَ لا أجرب مرة واحدة؟» وعندما طلبت أن يكون الأمر مجرد تجربة، جاءها ردهم المفاجئ: «إذن لا داعى». لكن بعد أسبوع عادوا إليها من جديد، ليعرضوا أن توقع عقدًا لفيلم واحد فقط، فإذا نجح مضت المسيرة بفيلمين آخرين.

لبنى عبد العزيز مع رئيس التحرير خلال تكريمها
ابتسمت وهى تتذكر أول يوم تصوير، قالت إن الخوف كان يسيطر عليها تمامًا، كل شىء بدا غريبًا، الوجوه، والكاميرات، والأجواء. كانت ترتجف. وحين جلس أمامها الماكير ليغيّر ملامحها، لم تتعرف عليها أختها حين رأتها، وكأنها صارت شخصًا آخر. تصف أستاذها رمسيس نجيب بقولها إنه كان رجلًا مهيبا «لم أكن أحبه فى البداية، كنت أرتجف من حضوره، لكن مع الوقت تغيّر، وانكشفت وراء تلك الهيبة روح مرحة وضحكة صافية».
ثم تستعيد بحماس مشهد افتتاح الفيلم، أكثر من ثلاثمائة صحفى وزائر فى الاستوديو، كاميرات تلاحقها، أصوات تتعالى بالتهانى، وعندما تم اخطارها أن الفنانة الكبيرة فاتن حمامة ستحضر خصيصًا لتبارك لها، لم تُظهر اندهاشا كبيرا، الأمر الذى أثار استغراب المحيطين بها. كانت طبيعتها البسيطة بعيدة عن مظاهر الانبهار والتصنع.
وبنفس العفوية التى كانت عليها وهى صغيرة، فاجأت الحضور باعتراف: «لم أشاهد أفلامي، حتى «الوسادة الخالية» الذى كان بدايتى.. لم أجلس يوما لأشاهده، كنت أخشى دائمًا أن أنتقد نفسى، لم أحب أن أرى نفسى على الشاشة بعد انتهاء العمل».
وعند سؤالها عن السبب وراء قرارها المفاجئ بالابتعاد عن السينما فى قمة تألقها، ابتسمت لبنى عبدالعزيز ابتسامة هادئة، كأنها تعود بذاكرتها إلى تلك اللحظة الفاصلة فى حياتها. قالت إنها لم تضع خطة مسبقة لذلك، بل كان الأمر أقرب إلى «صدفة قادها القدر»، حين ارتبطت بزوجها الدكتور إسماعيل برادة، الذى كان يستعد للسفر إلى الولايات المتحدة لاستكمال دراسته. كانت نيتها أن ترافقه ثم تعود سريعا لاستكمال عقودها الفنية، وقعت بالفعل ثلاثة أفلام مع الكاتب الكبير سعد الدين وهبة، إلى جانب فيلمين مع المخرج حسن الإمام، لكنها فوجئت بزوجها يطلب منها ألا تعود.
هنا وجدت نفسها أمام مفترق طرق: الفن أم الأسرة؟ لم تتردد لحظة، واختارت العائلة. ورغم أن مشوارها الفنى لم يتجاوز عشر سنوات، فإنها نجحت خلالها فى أن تقدم تسعة عشر فيلما فقط، كانت كفيلة بأن تضعها فى الصف الأول بين نجمات جيلها. ثم أضافت، أنها لم تشعر بالندم قط، بل كانت مطمئنة لأنها أدت رسالتها كأم وزوجة، تماما كما أدت رسالتها على الشاشة. بناتها لم ينشغلن يوما بكونها فنانة، ولم يشاهدن أفلامها، وكان زوجها وحده الذى يحدثهن عنها.
وعن ارتباطها بالنيل، قالت إنها تشعر وكأن النيل يسرى فى دمها. وكتبت مقالة فى «الأهرام ويكلى» تحدثت فيها عن هذه العلاقة الخاصة، حيث رفضت الاكتفاء بالمقولة التقليدية «مصر هبة النيل»، لتؤكد أن «النيل أيضًا هبة مصر»، فالنهر يمتد عبر 11 دولة، لكنه لم يصنع حضارة إلا على أرض مصر.
وعن اهتماماتها الثقافية التى انعكست فى اختياراتها السينمائية، قالت: البيئة التى نشأت فيها هى التى صنعتني، فقد كان والدى هو المصدر الأول لثقافتى، إذ كان يحدثنى منذ طفولتى عن شكسبير وأدونيس وغيرهما من رموز الأدب والتاريخ، وأنا لم أتجاوز الخامسة من عمري. لم يكن يروى لى حكايات الأطفال التقليدية، بل كان يغذينى بحكايات الفكر والأدب. كنت أصغى إليه بإنصات وشغف، مستسلمة لسحر كلماته التى تسكن قلبى حتى وقتنا هذا».
تستكمل: «كان عقلى أكبر من سني، حينما شاركت فى مسرحية بالجامعة بعنوان «أخواتى الثلاثة»، انبهر والدى من ادائى وفلسفتي، وهى المسرحية التى كتب عنها العالم كله، وتناقلتها الصحافة باهتمام بالغ».
تابعت: «لحظة النجاح الحقيقية كانت حينما بدأ الناس ينادوننى بأسماء الشخصيات التى أجسدها على الشاشة. لم يكن لى يوما أى شللية فى الوسط الفني، فلم يشغلنى سوى عملى ومحاولتى الدائمة أن أتفوّق على نفسي، إذ كان عالمى الحقيقى أقرب إلى الإذاعة وصحيفة الأهرام. كثيرًا ما كان يُقال عنى إننى متعالية، بينما الحقيقة أننى لم أكن كذلك، بل خجولة، ولا أملك الجرأة لاقتحام صداقات مع أشخاص لا أعرفهم.»
وعند سؤالها عن النجومية العالمية وفرصها خارج مصر، أكدت أن اندماجها فى «مجتمع النجومية» كان صعبًا عليها، فهى لم تبحث يومًا عن بهرجة أو أضواء، بل كانت تبحث عن فن صادق يعكس قناعاتها. وأضافت: «ربما لهذا السبب لم أندمج كثيرًا.. لأننى لا أحب أن أعيش لأُرضى أحدا، رفضت أن أصبح نسخة تُعجب الآخرين، بل أن أبقى نفسى».
ثم استحضرت شوقها العميق لمصر، قائلة إنها رغم سنوات الغياب الطويلة فى الولايات المتحدة، كانت تعود دائمًا بحنين لاينقطع: «كنت أحب مصر جدا.. كل يوم كنت أحزم حقيبتى على أمل أن أعود، لكن ظروف زوجى الصحية كانت تمنع ذلك، كان صراعًا بين القلب والعقل، بين الوطن والأسرة».
وعندما عادت بعد ثلاثين عامًا، فوجئت بمحبة الناس وذاكرتهم الحية لأعمالها، حتى إن بعضهم كان لايزال يناديها بأسماء شخصياتها السينمائية.
وعند سؤالها عن ارتباطها بمصر ورؤيتها للأعمال التى قدمتها خارج السينما، قالت لبنى عبد العزيز إن فكرة الهوية والعودة إلى الجذور كانت دائمًا تسكنها. وروت كيف قدمت فى الإذاعة برنامجًا خاصًا استوحت فكرته من «عروس النيل»، حيث تخيلت نفرتيتى فى غربتها وهى تبكى كل مساء، متمنية أن تعود إلى وطنها. ومن خلال تلك الفكرة قدّمت رسالة رمزية عن ضرورة استعادة الآثار المصرية المنهوبة، وهو ما نال حينها إشادة واسعة وجوائز كبرى، بينها جائزة الإبداع الأولى. قائلة: «كنت أشعر دائمًا بأننى صوت من أصوات مصر القديمة والحديثة معًا، وأننى جسر يصل بين الاثنين».
وعن عودتها للسينما بعد سنوات طويلة من التوقف، تحدثت عن فيلم «جدو حبيبى»، الذى اختارت أن تقدمه لأنه لامس قلبها بصدق: «أحببت الفكرة لأن الحب لايعرف عمرا.. فحتى فى الشيخوخة يبقى القلب نابضًا، والعاطفة موجودة. المشهد الذى أثر فى لم يكن مجرد تمثيل، كنت أبكى من داخلى، لأننى شعرت بواقعية الموقف». وأشارت إلى أن اختيارها للفيلم لم يكن بدافع المادة أبدًا، وإنما كان اقتناعًا بالقصة وفريق العمل.
أما عن رفضها لأعمال أخرى عُرضت عليها، فأكدت أنها لم تكن من النوع الذى يسعى وراء الكمّ أو مجرد الظهور، بل كانت دائمًا تختار ما يرضى ضميرها.
وحول محنة كورونا وتجربتها الصحية الأخيرة، قالت إنها شعرت للحظة أن العمر قد توقف، خصوصًا بعد أن فقد العالم كثيرين فى تلك الفترة.
تابعت: «أصبت بالفيروس وتعبت بشدة.. كنت أظن أننى لن أعود كما كنت، لكن الحمد لله ربنا أراد لى الاستمرار. وأكدت أنها صارت أكثر هدوءا فى حياتها بعد تلك التجربة، فأصبحت تمارس رياضة بسيطة، تمشى دقائق معدودة كل يوم، وتستمتع بلحظات الحياة بعيدا عن المجهود الشاق الذى اعتادت عليه فى شبابها.
رابط دائم: