غاية الطلب، سواء فى العلوم التطبيقية أو الدراسات النظرية أو الآداب والفنون، أن يضيف المرء جديداً لم يُسبق إليه. وكثيرون من مبدعى العالم احتفظ التاريخ بأسمائهم، فقط لأنهم قدموا زاوية جديدة، أو أضافوا لحقل اشتغالهم إضافة ولو صغيرة؛ فالإضافات تقاس بالأثر لا بالحجم.
من هذا المدخل اللافت، نجح الناقد الدكتور على بن تميم فى جعل كتابه «عيون العجائب.. فيما أورده أبوالطيِّب من اختراعاتٍ وغرائب»، إضافة نوعية إلى مسيرة الدراسات التى تناولت تجربة شاعر العربية الأول أبو الطيب ـ المتنبي.
اختار ابن تميم لكتابه الصادر حديثاً عن «مركز أبوظبى للغة العربية»، 40 بيتاً من شعر المتنبي، مما يدخل فى باب الاختراع. توقف أمام بيت معتنياً بتقديمه، وشرحه، وكشف خفاياه وأسراره، متنقلاً بين حقول اللغة، والتاريخ، والنقد، والفلسفة، مستفيداً من كل علم فى تقريب المعنى وإماطة اللثام عن السر فى عَدِّه من بين الاختراعات.
كما تضمن الكتاب مقدمة علمية استفاض خلالها الباحث فى تعريف مفهوم الاختراع مؤصلاً له، فى تراث النقد العربي، وفى التراث الإنسانى منذ الإغريق والرومان، إلى مدارس النقد الحديثة، مفرقاً بينه وبين الإبداع؛ يقول: «رغم أن كلمة اختراع تبدو حديثة ومعاصرة لارتباطها فى أذهان الناس بمنجزات التقنية والعلوم الطبيعية، فإنها مفردة علمية تراثية استخدمها علماء الأدب واللغة العرب منذ مئات السنين فى وصف حالة «الجهبذة والنبوغ»، وقسموا النبوغ إلى قسمين: الاختراع والإبداع»، مستخلصاً أن الاختراع يتعلق بالمعني، والإبداع يتعلق باللفظ؛ «فإذا تم للشاعر أن يأتى بمعنى مختَرع فى لفظ بديع فقد استولى على الأمر وحاز قصب السبق».
ويلفت ابن تميم فى مقدمته إلى أن التراث الأدبى العربى سبق التراث الأدبى الغربى بقرون فى التنظير لعدد من المفاهيم، منها الاختراع، وأن النقاد والشراح والشعراء العرب كانوا على وعى تام بذلك منذ القرن الثانى الهجري، مقدماً بين يدى استنتاجه عدداً كبيراً من الشواهد من كتابات العسكري، والقيرواني، والقلقشندي، وابن الأثير، والخفاجي، والجرجاني، وغيرهم. وعددا من المصطلحات التى استخدموها فى التنظير ومنها: «سلامة الابتداع»، و«سلامة الاختراع»، و«التشبيهات العقم» أو «المعانى العقم»، أو «التشبيهات الصحاح»، وهى التشبيهات والمعانى التى لم يأت أحد بمثلها من قبل.
ومن مدخل مختلف استعرض الباحث سيرة أبى الطيب، مسلطاً الضوء على أبرز الأحداث التى يرى أنها أثَّرت فى تكوينه النفسى والإبداعي، وعززت فيه «ميله التكوينى للاختراع». وأبرزها الخلاف حول النسب، وتهمة ادعاء النبوة. إذ يرى ابن تميم أن «أبا الطيب كان محركاً رئيساً لهذا الأمر، حريصاً على أن تظل سيرته محلَ فضول وتساؤل وإلهام وحيرة ودهشة وعجب.. وهى الانطباعات التى حين تتضافر معاً تصنع حالة الانفتاح على التأويل التى يوجزها مصطلح الاختراع».
فالمتنبى إذن، حسب ابن تميم ـ كان حريصاً على إبقاء نسبه محل خلاف، لأن «هذا الجدل كان قائماً فى حياته وبحضوره ومشاركته» كما أنه استثمر تهمة ادعاء النبوة فى تعزيز أسطورته، ويستشهد فى ذلك بإجابته الملغزة عندما سُئل عن حقيقة هذا اللقب؛ إذ قال «هو من النبوة»، وهذه إجابة «لا تذهب بعيداً فى دفع التهمة وفى الوقت ذاته لا تثبتها» لأنها «جزء من منهجه وميله التكوينى للاختراع».
يخلص الدكتور على بن تميم إلى أن أبا الطيب أراد، وعمل، وسعى لأن تظل حياته ـ كما شعره ـ مصدراً للاختراع فى التلقي: دهشة قائمة، وبحثٌ مستمر، وجدل لا ينتهي، وقد تحقق هذا الأمر فى شعره بقوته وقدرته وسبقه إلى اجتراحات لغوية، وإضافات بلاغية، وصور شعرية، لم يأت بها أحد من قبله. كما تحقق ذلك لسيرته وتفاصيل حياته التى باتت أقرب إلى الأساطير باستكمالها شروط البطولة الشعبية؛ فالبطل الشعبى عادة ما يضخم الوعى الشعبى خصائصه وأفعاله إلى أبعاد أسطورية، شريطة أن تتضمن حياتُه أفعالاً وأحداثاً جساماً تصلح للبناء عليها، وأن تخلو من تأريخ رسمى لتسمح للمخيلة بالنسج والاختراع؛ فصار أبو الطيب المخترع الأهم فى تاريخ الشعرية العربية، وصار شعره المنتج الأدبى العربى الوحيد الذى حظى بشروحات كثيرة فى العدد وتنوع مداخل الدرس والتناول على امتداد ألف سنة من تاريخ اللغة العربية.
رابط دائم: