فى نقطة الالتقاء الملتبسة بين الشرق والغرب، فى لحظة اقتراب النقيضين، لحظة اكتشاف الآخر، وتعريته بوضوح وقسوة، تقع رواية «مهنة سرية» لمحمد بركة، التى صدرت عن دار أقلام عربية. فعلها بركة من قبل بتردد وهيَبة فى «الفضيحة الإيطالية»، ثم بمغامرة وتوق للاكتشاف فى «أشباح بروكسل»، وأخيرا بوضوح وحدة فى هذه الرواية القصيرة، والروايات القصيرة الصغيرة دائما تكون مليئة بالجنون والبهجة، وهذه منطقة امتياز لمحمد بركة، وهى أقرب إلى مزاجه الحقيقى، يكتبها بحب، ومعرفة بالتفاصيل، ومعرفة بدوافع الآخر، فبركة خلافا لأغلب الروائيين، لا يغفل مسألة الدافع؛ بمعنى، لماذا تتصرف الشخصية فى الرواية بهذا الشكل، هناك دائما خلفية سابقة، هناك دائما سبب مقنع للسلوك الإنسانى، على غرابته أو طبيعيته، البطل «علاء»؛ أصبح هكذا لأنه جبل على التواطؤ على أمه، وخيانة أبيه طفلا، وسيظل هذا الدافع يحركه على طول الرواية، يعمل كمخدر فى لحظة الوعى، فى لحظة الرفض المتردد للواقع الذى يحياه كشاب يعمل فى مجال الجنس بأجر، وبرغم أن هذه منطقة مسكوت عنها فى الرواية المصرية، فإن بركة يفعلها بجرأة، تتجاهل العواقب أحيانا، فقد كانت الرواية المصرية والعربية تدخل منطقة اشتباك الشرقى والغربى معا، إما كنوع من الانتقام، كما فعل مصطفى السعيد فى رواية : «موسم الهجرة إلى الشمال» للطيب صالح، أو كنوع من محاولة الوصول إلى صيغة مشتركة للعيش والتوافق والنظر إلى الجانب الإيجابى فى الآخر الغربى، ومطالبته بالمعاملة بالمثل كما فى : «محاولة للخروج» لعبد الحكيم قاسم، أو أن هذا الآخر جميل ورومانسى، ويمكن التعايش معه حتى لو كان مستعمرا كما فى عصفور من الشرق؛ لتوفيق الحكيم، أو كنوع من الانبهار وجلد الذات كما فى الحى اللاتينى لسهيل إدريس، أذكر لك هذه الأمثلة لأوضح أن محمد بركة ، سواء فى أشباح بروكسل، أو مهنة سرية، يتعامل مع الآخر كنوع من الاكتشاف، ليس عن طريق الجسد فقط، فبطله فى الحقيقة لم يكن مجرد سلعة جنسية، بقدر ما كان دافعا وتكأة لاكتشاف الآخر، وإظهار تناقضاته، وأنا أفترض هنا أنك قرأت الرواية، وتعرف مسيرة «علاء» عامل «الجنس» المصرى الذى يؤجر نفسه للغريبات، ويتصرف كآلة، يلقى حمولته بقرار، ويمسكها بقرار، ومع ذلك وبرغم إيغال البطل واستسلامه لقوانين السوق الجنسية، فإنه لم يفقد إنسانيته، ووقع فى الحب، ليشكل الوقوع فى الحب، نهاية منطقية لمهنته التى كانت رائجة.
أبرز ما يميز الكتابة في هذه الرواية هو السرعة، لا يوجد سوى القليل جدًا من تفاصيل المشهد أو الوصف المادي، الجنس، على الرغم من كونه قاسما مشتركا أعظم في أغلب الأحداث وعنصرًا محوريًا في الحبكة، يُترك لخيالنا بالكامل تقريبًا، لا نتعلم الكثير عن شكل الشخصيات الرئيسية، باستثناء، أحيانًا، مدى جاذبيتها التقليدية في نظر البطل، يمر الوقت بسرعة، وتتحرك وجهة النظر بشكل غير متوقع، ويُعرض أكثر من خيط من خيوط الحبكة دون أن يُحسم.
هل كان يمكن أن يكتب هذه الرواية شخص آخر غير محمد بركة؟ راودنى هذاالسؤال طويلا ملحا، طوال صفحات الرواية، وتكون الإجابة صاخبة وجارحة: لا ليس بهذه الجرأة والاقتحامية، ليس بهذه الرغبة فى نزع الأقنعة بقسوة عن الناس والواقع، عن التدين و الزيف، عن علاقة الجسد بالسياسة، عن عبقرية الآخر فى اقتناص لحظات ضعفنا، عن استخدام حاجتنا وترتيب فوضانا، حيث يبرع محمد بركة أيضا فى كتابة رواية «الشخصية» وليس رواية الفكرة، وحيث يقع فى حب شخصياته المتخيلة، يكتبها كأنها قصيدة غير قابلة للتفسير والنقض .
رابط دائم: