كانت الجامعات الأمريكية إبان حرب فيتنام وما تلاها من حركات الحقوق المدنية ومجابهة العنصرية فى الولايات المتحدة، ونتيجة طبيعة الشباب الأمريكى الحر واللا ذلول، هى موطن شرارات التغيير الذى حدث فى ستينيات القرن العشرين ونتج عنه تحقيق الكثير من المكاسب التاريخية. عندما بدأت إسرائيل عدوانها الوحشى على غزة، نشأ حراك مماثل لما حدث فى الستينيات فى كثير من الجامعات الأمريكية، وظن القائمون عليه أنهم قادرون على تكرار الأمر وإجبار إسرائيل على كبح طغيانها الذى جاوز المدي.
وعندما اشتدت تلك المظاهرات وتبلورت لتكون مثل سابقاتها إبان حرب فيتنام، خرج نيتانياهو نفسه الذى يعلم علم اليقين خطورة ذلك الأمر، وبعد اجتماع لمجلس الوزراء الإسرائيلى ليعلنها بعلو صوته أنه لا بد من كبح تلك التظاهرات. ظن الكثيرون أنه لن ينجح نتيجة أن الدستور الأمريكى يمنح هؤلاء المتظاهرين حق التعبير عن رأيهم طبقا لقوانين الحقوق والتى تنص الإضافة الأولى منه على أن التعبيرعن الرأى حق مكفول طبقا للدستور الأمريكي. كانت المفاجأة التاريخية يومها أن استجاب الرئيس بايدن وغالبية أعضاء مجلس النواب وعلى رأسهم رئيس ذلك المجلس وذهبوا الى تجمعات المتظاهرين فى جامعة كولومبيا وغيرها وبدأوا سرد ما سيواجه هؤلاء الطلاب والأساتذة من عقوبات، ووصفوهم بالعداء للسامية، ونتيجة محاولة إثبات أن الجميع سمع نداء السيد نيتانياهو، بدأت عملية جعل ذلك قانونا ووشما وسلاحا، ما الى مواجهته من سبيل، وبدأت عمليات تنفيذه الكبرى كما يقول الكثيرون من المحللين، تدار من إسرائيل ومن أمريكا بواسطة منظمة ايباك.
فى مقال نشرته صحيفة نيويورك تايمز بتاريخ 25 نوفمبر 2024، ذكر أن عملية التحكم فى ظاهرة التظاهرات الجامعية، بدأت تؤتى أكلها، بحيث يتم القبض على كل من يجرؤ ويجهر بالتظاهر، وما حدث ويحدث حتى الآن مجرد تفاصيل.
وما نشهده الآن هو تنفيذ دقيق لما حدث فى عهد الرئيس بايدن من عمليات التحكم فى المظاهرات والذى ورثه الرئيس ترامب الآن، وأن من تحدثه نفسه ولو بمجرد التظاهر فى أى جامعة أمريكية، سيوشم فورا بالعداء للسامية، طالبا كان أو أستاذا بتلك الجامعة، وسيتم ترحيله لو كان أجنبيا. ولو اقتضى الأمر التضحية بأعظم جامعة فى العالم كله.
يستغرب المشاهد لتلك الأمور من بعد، ويسأل نفسه، هل من المعقول التضحية بحرية شباب الجامعات الأمريكية إرضاء لنداء نيتانياهو وحكومته المتطرفة؟ هل يمكن تحطيم روح جامعة مثل هارفارد فداء لنيتانياهو؟ هذا ما حدث بالفعل، فتم تخريص طلابها وتم قطع المعونات الفيدرالية عنها، وتم إجبار رئيستها على الاستقالة، وتم توجيه كثير من الأوامر لها ومنها منع قبول طلاب أجانب، وطلب الرئيس ترامب مؤخرا تقليل نسبتهم الى النصف.
يتساءل المرء: هل يصل أمر إرضاء نيتانياهو بالتضحية بأعظم جامعة فى العالم كله. الجامعة التى أخرجت للناس 161 جائزة نوبل، أكثر من ألمانيا واليابان والصين مجتمعة. ألمانيا بجلالة قدرها حاصلة على 110 جوائز واليابان 31، والصين 8، وهو ما يجعل مجموع تلك الجوائز 149 جائزة، أى أقل مما حصلت عليه هارفارد منفردة. الجامعة التى قدمت للبشرية آلاف الاكتشافات مثل أول عملية زراعة كلى ناجحة فى العالم عام 1954، أجراها الجراح جوزيف موراي، وهو الأمر الذى فتح الباب لعصر زراعة الأعضاء الذى أنقذ ملايين الضحايا. فى هارفارد أيضا تم اكتشاف جينات السرطان بالتعاون مع معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا فى عام 1982، وهو الجين المسبب للسرطان مما أدى الى علاجات له.
وفى مجال الفيزياء تم كثير من الاكتشافات العظيمة منها تصنيف النجوم فى أوائل القرن العشرين، وإثبات موجات الجاذبية عام 2015. ومنها تخليق البروستاجلاندين عام 1969، حيث نجح الكيميائى جيمس خورى فى تخليق هذه الجزيئات الحيوية، مما أسهم فى تطوير أدوية للالتهابات وعمليات الولادة.
وفى مجال علوم المواد، تمكن علماء هارفارد من تصنيع مواد نانوية ذكية فى أول القرن الحادى والعشرين تستخدم فى توصيل الأدوية داخل الجسم بدقة. فى هارفارد تم إجراء أطول دراسة عن السعادة، بدأت عام 1938، ومازالت مستمرة حتى وقتنا هذا، والتى أثبتت أن العلاقات الاجتماعية هى المفتاح لذلك. فى هارفارد أيضا تتم حاليا أهم عمليات تطوير الذكاء الاصطناعي، وكذلك تصنيع روبوتات مستوحاة من المخلوقات الحية.
فى هارفارد أيضا تم تقديم أول نماذج حاسوبية لتأثير ثانى أكسيد الكربون على الاحتباس الحراري. وغير ذلك الآلاف من الاكتشافات المصيرية والتى أدت الى تحسين الحياة على الأرض. من أجل ذلك يحب العالم كله هارفارد، وعندما تذكر الجامعات العظيمة فى العالم تبرز هارفارد كأم الجامعات، ليس فقط بسبب عمرها الذى يقارب أربعة قرون بداية من 1636، بل لأنها المكان الذى تصنع فيه المعجزات وتصنع فيه الأفكار وتقدم فيه الحلول لخدمة البشرية جمعاء.
فى مطبعة جامعة هارفارد تطبع آلاف الكتب فى مختلف المجالات، وتصدر مئات الدوريات الكبرى فى العلوم والتكنولوجيا والطب والتعليم والعلوم الطبيعية والسياسية والقانونية وإدارة الأعمال. من هارفارد تخرج ثمانية رؤساء لأمريكا. يجب فى نهاية المقال ذكر أن لمصر حضورا ملموسا فى هارفارد. يعمل بها أساتذة مصريون منهم الدكتور هشام فهمى أستاذ الهندسة وعلوم الحاسب، والدكتور خالد فهمى والدكتورة ليلى أحمد. إضافة الى مئات الخريجين ومنهم الدكتور طارق مسعود، الدكتور عمرو العريان، والدكتورة منى خليل، ومنهم الدكتور أسامة الباز عليه رحمة الله، وابنه رجل الأعمال باسل الباز.
لمزيد من مقالات د. مصطفى جودة رابط دائم: