مع اقتراب الذكرى الثلاثين للشراكة الأوروبية المتوسطية التى بدأت فى نوفمبر عام 1995 وعرفت بـ«عملية برشلونة»، أطلقت مبادرة لتجديد رؤى التعاون تحت مسمى «ميثاق جديد من أجل المتوسط»، وهو عرف أوروبى معتاد فى إجراء المراجعات، حيث شهدت أطر التعاون المتوسطية دورات متعاقبة من محاولات الإحياء، وإعادة التقييم، وتحديد الأولويات والسياسات المناسبة لكل مرحلة. وقد حرص الجانب الأوروبى هذه المرة على أن تسبق بلورة الرؤية الجديدة مراحل من المشاورات مع دول جنوب المتوسط، لكى تأتى معبرة عن روح الشراكة ومصالح جميع أطرافها.وعقدت من أجل ذلك دورتان تشاوريتان إحداهما فى الرباط فى أبريل الماضي، والثانية فى القاهرة فى نهاية مايو بالتنسيق بين المعهد الأوروبى لدراسات البحر المتوسط (إسبانيا)، ومركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، وبمشاركة واستضافة الجامعة الأمريكية بالقاهرة، بينما تختتم العملية التشاورية بدورة نقاش تعقد فى بروكسيل اليوم وغدا.
ويعد مرور عقود ثلاثة من التعاون عبر المتوسط فرصة مهمة للتأمل فى حصاد هذا الإطار التعاوني، ما حققه، وما تبقى منه، وما هى النظرة المستقبلية المأمولة والممكنة منه. فالشراكة الأوروبية المتوسطية التى أتمت عامها الثلاثين هى وليدة عالم مختلف، كان فيه الاتحاد الأوروبى وتعريفه لنفسه ودوره ونظرته لجواره المتوسطى أكثر طموحا، وكذلك كانت آمال دول الجنوب، فى إقليم يسوده السلام، وعلاقات تعاون متعددة الأبعاد، والدور الأوروبى فى كل ذلك كبيرة.على النقيض من ذلك،يغلب على ذكرى التأسيس نظرة غير تفاؤلية على الجانب العربي، وتوجه شديد البراجماتية، يترجم فى تغليب منهج الحد الأدنى الممكن، على الجانب الأوروبي. فقد أطلقت عملية برشلونة عام 1995 ردف كل من معاهدة ماستريخت التى أسست الاتحاد الأوروبي، واتفاقية أوسلو للسلام بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل. ومن ثم ولدت الشراكة فى ظل روح مغايرة إقليميا ودوليا، حيث كانت الآمال فى السلام فى المنطقة فى أوجها، وعالميا كان التوجه نحو العولمة وأطر التعاون الإقليمى وعبر الإقليمي، هو السائد. وكان الاعتقاد فى قدرة المصالح والتشبيك الاقتصادى أوما يسمى العائد الاقتصادى للسلام، ودوره فى تسوية الصراعات بعد سنوات من سقوط حائط برلين يرتفع لمرتبة العقيدة. وتأتى المبادرة الحالية لميثاق جديد للتعاون المتوسطى فى ظل أوضاع شبه انقلابية على السياق الذى أفرز الشراكة بسلاتها الثلاث السياسية، والاقتصادية، والثقافية أو الإنسانية. فعلى المستوى السياسى ماتت عملية السلام تدريجيا، وسادت مبادرات وأفكار للتعاون الإقليمى منزوع السلام حتى انفجرت الأوضاع بالحرب الإسرائيلية مفتوحة الأفق الزمنى ومستويات العنف الإبادى على غزة.ولم تحطم الحرب الإسرائيلية الحالية المحور السياسى للشراكة المتوسطية فحسب، وإنما أصابت بضرر بالغ آخر معاقل النظرة الأخلاقية للاتحاد الأوروبى باعتباره قوة من أجل السلام العالمي. وعلى الصعيد الاقتصادي، تقلص سقف الطموح من منطقة متوسطية للتجارة الحرة، إلى مجموعة مختارة من مبادئ التنمية المستدامة كإطار ملهم للميثاق المتوسطى الجديد، على رأسها التحول المزدوج الأخضر والرقمي، والاهتمام بخلق فرص العمل خاصة للشباب وبدور المرأة والقطاع الخاص، والتعاون فى مجال الطاقة، وبطبيعة الحال قضية الهجرة التى ظلت محورا أساسيا للتعاون، لضبط الحدود ومنع تدفق الهجرة غير الشرعية إلى أوروبا. يعكس هذا الانكماش فى مجال الشراكة وسقف طموحها فى أحد أبعاده تطورات الاتحاد الأوروبى نفسه، والذى يظل نواتها المؤسسية وصاحب المبادرة فى وضع الرؤى والبرامج وتطوير السياسات فى سياقها. فقد نشأت برشلونة وإطارها التعاونى الشامل فى ظل كيان أوروبى صاعدآخذ فى التوسع وفى ترسيخ سياسة أمنية وخارجية مشتركة تجمع بين أعضائه.ولعب البعد القيمى دورا محوريا فى تعريف الاتحاد لدوره العالمي، حيث حرص على تمييز نفسه دوما كقوة أخلاقية، وفاعل حريص على السلام والعدل الدوليين، فكان يطرح نفسه ليس ككيان للاندماج الإقليمى الاقتصادى والسياسى فحسب، وإنما كنموذج ومثال.ولسنوات طويلة دار العديد من المؤتمرات والتنظيرات الأوروبية حول فكرة القوة المعيارية باعتبار أوروبا وإن لم تكن الأقوى أو الأكثر تطورا، فهى البوصلة الأخلاقية للعالم المتحضر. ولعبت عوامل عديدة دورا فى الانكفاء الأوروبى على الذات وتقليص سقف الاهتمام بدول جنوب المتوسط، منها ما يخص زيادة التحديات السياسية فى المنطقة، ومنها اعتبارات أوروبية خالصة كالتوسع شرقا تارة، والحرب الروسية الأوكرانية تارة، مرورا بالتحولات الداخلية للاتحاد، والهزات والضغوط التى تعرض لها من قبيل الأزمة الاقتصادية اليونانية والبريكست. ولم يعد الاتحاد الأوروبى فى أوج ثقته كقوة اقتصادية وسياسية، ولا يبدو قادرا وعازما على تحمل تبعات فكرة القوة المعيارية. ومع تقلص الأبعاد السياسية والجوهر المعيارى للشراكة المتوسطية، وصعود قوى اقتصادية منافسة ترسخ أقدامها وتعاونها فى المنطقة خاصة الصين، فقدت الشراكة بعض زخمها والكثير من روحها.فرغم أن الاتحاد الأوروبى ما زال الشريك التجارى الرئيسى لعدد من دول المتوسط فإن الصين تحقق صعودا دءوبا وليس من المستبعد أن تحل محله قريبا فى هذا المضمار. بل إن بعض المبادرات التى أطلقها الاتحاد الأوروبى مؤخرا خاصة ما يعرف بالبوابة العالمية والتى بدأت عام 2021 ، لا يمكن قراءتها بمعزل عن التنافس مع مشروع الحزام والطريق الصيني. ففى عالم يسلم فيه الاتحاد الأوروبى بحجم قدرته على التأثير المادي، ويتخلى عن قوته المعنوية، تحل الذكرى الثلاثون لعملية برشلونة، معلنة انتهاء الأحلام والمشروعات المتوسطية الكبرى والاكتفاء بالحد الأدنى من الأهداف العملية القابلة للتحقق.
لمزيد من مقالات د. هناء عبيد رابط دائم: