ما زلت مقتنعا بأن الديمقراطية التمثيلية أفضل الأنظمة متى توافرت شروط وجود حياة سياسية ناضجة وثقافة سياسية تقبل التنوع والتعددية وتجيد إدارتهما، ولكننى أرى فى الوقت نفسه أن هذه الشروط لم تعد موجودة إلا فى عدد ضئيل جدا من الدول. ما أشاهده فى أغلب الدول المصنفة فى خانة الديمقراطية يؤكد صحة تحليلات وصواب رأى أفلاطون القاسى فى كتابه الأهم الجمهورية، يقول الكتاب: إن الديمقراطية نظام جذاب يضمن الحرية والتنوع والتعددية والجدل الرصين، ولكنه إن آجلا أم عاجلا نظام يدمر نفسه بنفسه، لأن آلياته تدفع دائما الأفراد إلى المطالبة بالمزيد من الكماليات، وتعجز عن فرز المطالب لتفضيل المشروعة منها وتلك التى ترتقى بالإنسان، ولا تثمن تلقائيا التربية والانضباط والتخطيط والعقلانية. فهى نظام يستطيع فيه كل من هب ودب أن يتكلم فى أى وقت ليقول ما يخطرعلى باله دون دراسة ودون عناء التفكير ودون حساب التبعات، وابن الديمقراطية يؤمن بالمساواة, ولكنه يتصور أنها تعنى أنه يستطيع أن يتكلم فى كل الموضوعات دون أى إلمام بها. ومن ناحيته يرى هوبز أن الديمقراطية قد تتحول إلى سباق للبلاغة ولفنون مخاطبة الجماهير.
لا أريد ولا أستطيع تأكيد أو نفى «حتمية» مآل النظام الديمقراطي، ولكنه من الواضح أن المشهد العام فى عدد من الدول الغربية يبدو مؤكدا لصحة تحليل أفلاطون، شخصيا أميل إلى تحليل يرى أن نجاح النظام الديمقراطى واستمراره دون تدهور يتطلبان نوعا من الأخلاق يسهم هو فى إضعافها، وأن منع هذا الإضعاف يتطلب سياسات تعليمية وتربوية مدروسة.
من ناحيته ندد الفيلسوف الفرنسى مارسيل جوشيه بالتطورات الأخيرة فى المشهد الفرنسى – تحديدا تسييس القضاء وإصداره أحكاما تؤثر على سير العمليات الانتخابية، وقال كلاما مفاده أن جوهر النظام الديمقراطى هو سيادة الشعب وحكم الأغلبية مع منع هذه الأغلبية من قمع الأقلية ومن الحجر على رأيها، وأن ما يحصل الآن هو تكريس اتجاه يمكن الأقلية من الحكم ومن قمع رأى الأغلبية، اتجاه يزعم أن القضاء يمثل ضمير الأمة ويحرس قيمها، ويمثلها تمثيلا أفضل من تمثيل الأغلبية البرلمانية لها، ويرى أن هذا الكلام جد خطير، ويقول... من المؤكد أن الأغلبية تخطئ أحيانا أو كثيرا، وأن الإرادة الشعبية تضل الطريق، ولكن المقولة – وهى لفيلسوف آخر هو بيير روزانفلاون- التى تزعم أن القضاء يمثل الإرادة الشعبية تمثيلا أصدق من التمثيل النيابى مغلوطة فاسدة، تعنى فيما تعنى أن من حق القضاء وضع القوانين، أو رفض تطبيق ما لا يعجبه فيها، ومن حقه التدخل فى العملية الانتخابية، الخ.
فساد مقولة روزانفلاون واضح بين، ولكن كلام جوشيه تبسيطي، صحيح أن القضاء الفرنسى بات مسيسا وأن أحكامه أثرت على انتخابات 2017 وقد تؤثر على انتخابات 2027 إن تم استبعاد مرشحة أقصى اليمين مارين لوبن، وصحيح أن القضاء يتحكم فى سرعة البت فى قضية وأنه يميل إلى التباطؤ مع بعض المتهمين وإلى الاستعجال مع البعض الآخر، ولكنه لم «يلفق» تهمة ولم يختلق الوقائع المنسوبة للسياسيين.
العلاقة بين هذا الجدل وكلام أفلاطون واضح، من ناحية أقنعت النخب نفسها بأن توجهات الشعب مرفوضة، الأحزاب التى حصلت على أكثر من 60% من الأصوات حققت هذه النتيجة وربما بفضل جنون برامجها، وترى النخب أن مصلحة البلاد تتطلب عدم الاستماع إلى رأى الشعب واستغلال عدم وجود أغلبية واضحة للاستمرار فى نفس السياسات حتى تلك التى يرفضها كل من أقصى اليمين واليسار بكل فصائلهما، أى حتى تلك السياسات التى ترفضها أغلبية كاسحة من الفرنسيين. وقال بعض الخبراء إننا رأينا ميلاد ليبرالية سلطوية متسلطة.
فى المرحلة الحالية يمكن تفسير عدم القيام بالإصلاحات التى يفرضها وضع مالى حرج ومرشح لمزيد من التدهور بالعجز عن إيجاد أغلبية أولا، وأغلبية قادرة على اتباع سياسة رشيدة ثانيا، ولكن هذا الوضع البرلمانى من المستجدات فى حين أن العزوف عن الإصلاح أو الاكتفاء بخطوات خجولة محدودة قديم.أخشى الوقوع فى فخ التعميم المتسرع وأعرف أن لكل أزمة واحتجاج شعبى خصوصيته، ولكنه من الواضح أن القيام بإصلاحات فى فرنسا أمر بالغ الصعوبة.
لايمكن اختزال المشهد فى صدام بين نخبة/ أقلية رشيدة وأغلبية/ شعب رافض لما هو ضرورى وغير قابل لمبدأ التضحية ببعض المزايا، نعم هناك أزمة بالغة الحدة، من عدم ثقة بين النخب والشعب، ولكن النخب تتحمل قدرا كبيرا من المسئولية عن تفاقمها. يكثر المسئولون السياسيون من التصريحات التى تفيد أنهم فشلوا فى شرح الإصلاحات وضرورتها، وهذه التصريحات استفزازية، لأنها تقول ضمنا إن الشعب لا يفهم، وتختزل الأزمة فى كونها فشلا فى تسويق سياسات رشيدة.
هناك أسباب أخرى للأزمة، قد يكون الأهم ميلا دائما إلى عدم الالتفات إلى بعض المطالب الشعبية وإلى «نزع شرعيتها» وتفادى النقاش حولها. على سبيل المثال مالت النخب إلى اعتبار تراجع الإحساس بالأمن فى الأوساط الشعبية «خوفا غير عقلانى من الآخر» ولم تفهم أن الأمر جد إلا بعد صعود أحزاب أقصى اليمين. ونشاهد كل يوم تقريبا شجارا نخبويا حول قضايا تافهة، وسلوكا صبيانيا، وتصريحات تستفز دون داع، اليوم (الأربعاء) استمعت إلى من يقول إن التعبير الشائع «الفرنسية لغة موليير»– كاتب مسرحى عظيم، تعبير عنصرى لا يسهم فى إدماج الآخر.
لمزيد من مقالات د. توفيق أكليمندوس رابط دائم: