الحديث عن السيدة سميحة أيوب لاينتهى، فصفحات حياتها مرصعة بلآلئ من الأعمال الفنية والمواقف المختلفة التى أثبتت بها دائما أنها سيدة مسرح من طراز نادر، فقد كان حضورها طاغيا بين المسرحيين، أصدقاء وتلاميذ وشبابا موهوبين، حتى آخر أيامها، تماما مثلما كان حضورها طاغيا على خشبات مسارح مصر والعالم، لأنها تدرك تماما أن قيمتها التى حفرتها على جبين المسرح عبر السنين بدأب والتزام وحزم، من قيمة المسرح ذاته وقدرته على التفاعل مع ما يمر به المجتمع من أحداث سعيدة وعصيبة بنفس القدر، وأن وجودها المستمر بين الجميع هو صمام أمان وأمل يتشبث به المسرحيون على اختلاف أجيالهم... نعم، رحلت سميحة أيوب، ولكن يبقى الأثر فى وجداننا لاتزول أصداؤه.
أصدق ممثلات المسرح وأكثرهن تأثيرا
هكذا وصف الكاتب خيرى شلبى أداء سميحة ايوب فى البورتريه الذى كتبه عنها، وهو الوصف الأدق فى أداء سميحة أيوب، فهى ممثلة تهابُها خشبة المسرح وتفتح لها ذراعيها لكى تفعل ما تشاء.. تصول وتجول بين أركانها وكواليسها كملكة متوجة تملك مفاتيح مملكة الأداء، تطوع ثقافتها ومعارفها لخدمة الشخصية التى تلعبها، فهى تجذب إليها الشخصية، وتمنحها من وهجها الخاص.. سألتها ذات مرة عن الفارق بين ممثل المسرح وممثل السينما أو التليفزيون.. قالت: لافارق باستثناء قوة الصوت على المسرح.. فالتعامل مع الشخصية الدرامية يحتاج إلى فهم وبساطة حتى يصدقه الجمهور.. لا افتعال ولا ابتذال.. عبقريتها من قوة الموضوعات التى اختارت أن تشارك فى طرحها.. قضايا الفكر والوطن أولوية قصوى فى أعمالها، فارتبط اسمها بجزء مهم من تاريخ الوطن.
صوتها القوى الرخيم الواضح وضوح الشمس فى كل مخارج ألفاظه وحروفه كان نغما أطرب آذان الجمهور فى وقت لم يكن من وسيلة ترفيه أو إعلام سوى الإذاعة المصرية أو المسرح، صوت متدفق، سيولة لامتناهية فى طبقات الصوت، قدرة عذبة على التنقل بين الطبقات بمرونة فائقة، قوة مخيفة إذا أرادت، وحنان طاغ إذا أرادت، ففى عام 1955 شغلت شخصية سمارة أذهان الشارع المصرى بالكامل، وقت إذاعة المسلسل تخلو الشوارع تماما، الجميع يلتف حول الراديو انتظارا لتلك السيدة القوية الجريئة الذكية التى تحير الرجال وتلهب مشاعرهم بجمالها، وفى صوت سميحة أيوب تكمن أسرار الجاذبية.
لم تهب «الست سميحة» شيئا، سواء فى مساندة الموهوبين الحقيقيين أو فى اختيار أدوارها بجرأة ما دامت قد اقتنعت بها، ونصب عينيها باستمرار تبسيط القضية وتوعية عقول الجمهور على اختلاف وعيهم، ففى عرض «المومس الفاضلة» سنة 1958، تأليف جان بول سارتر وإخراج حمدى غيث، كانت فى أوج شهرتها، ورغم صدمة العنوان وتوجس الكثيرين من تقبل الجمهور والنقاد لهذا العمل، أجرت نقاشا جادا مع حمدى غيث عن طبيعة شخصية البطلة، وحين تعرف أن شخصية «ليزي» تواجه العنصرية بإخفائها أحد الزنوج فى بيتها، وأنها تعانى أشد المعاناة لحمايته بلا مقابل دفاعا عن العدالة المهترئة، فإنها تقبل الدور على الفور وتلعبه بأداء بالغ التدفق، فقد أدركت أنها ليست مجرد شخصية غانية، ولكنها سيدة تدافع عن حق إنساني، وترفض أن يلمسها الزنجى لأن ذلك ضد قضيتها، وحقق العرض نجاحا مذهلا نقديا وجماهيريا، وانتصرت سميحة.

سميحة ايوب
نعم، انتصرت سميحة دوما إلى إنسانية الشخصيات التى تلعبها أو حتى التى لاتلعبها، وقد يكون فى هذا تفسير لتفاعل الجمهور مع الشخصيات الأجنبية التى جسدتها مثل فيدرا وغيرها ورغم فلسفة القضايا المطروحة من خلالها وصعوبتها، وحتى أنها قالت للراحل صلاح جاهين ذات مرة أنها وقعت فى غرام مسرحية سليمان الحلبى التى كتبها ألفريد فرج للدرجة التى تمنت فيها أن تلعب شخصية سليمان الحلبى نفسه!
آمنت دوما بضرورة مواجهة موجات الشهرة الزائفة التى قد تجذب الجمهور لفترة ما، وأن المسرح ليس مجرد رقص، واثبتت ذلك بالدليل القاطع حين خاف الراحل عبدالله غيث من تقديم عرض «الوزير العاشق» وقال لها: كيف سنؤدى هذا العرض الجاد لجماهير الجينز والاستريتش؟! ولكنها قالت له: لا تخف سينبهر الجمهور بالعرض، وبالفعل تهافتت الجماهير على العمل حتى آخر ليلة عرض..
وهذا هو الإيمان بالموضوع الجاد والانتصار لقيمة الكلمة وتأثيرها.
لعبت العديد من الأدوار التى تتفق كلها فى صعوبتها وتعقيدها، ليصبح بذلك تحديا تصر على خوضه، لذلك نراها مثلا قد تلعب دورا واحد بأداءين مختلفين بسبب اختلاف الوسيط والنص الدرامى، فقد شعرت بتآلف شديد مثلا مع شخصية رابعة العدوية لأنها شخصية مركبة تجمع بين الفضائل والنقائص، فلعبتها إذاعيا، كما هو معروف فى التاريخ، امرأة أُجبرت على الانحلال ثم اختارت طريق الزهد، أما فى المسرح فقد اكتشفت رابعة أنها لاتقدم شيئا بزهدها فعاشت بين الناس واندمجت لأن التصوف وحده والبعد عن الناس لايجدى بل لابد من التفاعل مع الناس.
إذا كانت إحدى أدوات الممثل هى قدرته على استخدام نظرات عينيه، ففى عيون سميحة أيوب ترى الحزم والحسم والصرامة والجدية، بنفس القدر الذى تمنحك فيه الحنان والعذوبة والرقة والولع، وهى هبة لاتتكرر كثيرا، وبين قوة الصوت ولغة العين تتشكل ملامح أداء «الست سميحة»، ويكتمل الأمر بقدرتها على استخدام تفكيك الشخصية ليتقبلها الجمهور، لذلك نصدقها بلا تردد وهى البغى الفاضلة فى عرض السلطان الحائر لتوفيق الحكيم، سوسو البائسة اللاهثة نحو أضواء الفن والشهرة فى «سكة السلامة» لسعد الدين وهبة، الفلاحة المقهورة فى «السبنسة»، المرأة الكادحة فى «كوبرى الناموس»، ولادة بنت المستكفى المحبة فى «الوزير العاشق»، إيلينا فى «الخال فانيا»، صفية فى «دماء على ستار الكعبة»، سلمى فى «الفتى مهران»، إيمى فى «وطنى عكا»، مبروكة فى «الصفقة»، كليوباترا التى رفضت أن تلعبها من زاوية اللهو والتلاعب بالعواطف، فقد أدركت أنها تستخدم أنوثتها سياسيا من أجل غاية تبحث عنها، وأنها ميكيافيللية الشخصية قبل أن يظهر المنهج الميكيافيللى بقرون.
ستظل سميحة أيوب وهجا لايخفت مع مرور الزمن.. بريقا لايظلم، فهى باقية بيننا برصيد تجاوز المائة عرض مسرحى، منها أربعة أعمال لمخرجين روسى، ألمانى، فرنسى وانجليزى، وهى النجمة التى تركت أثرها على مسارح مصر والعالم العربى والغربى أيضا فسيذكرها الجميع بكل الخير ويدعو لها بالرحمة والمغفرة.
رابط دائم: