باستثناء الدول المتورطة مباشرة فى الحروب الجارية فى المنطقة، فإن مصر هى الأكثر تضررا من جراء هذه الصراعات. التوتروالصراع سيد الموقف فى كل الاتجاهات الاستراتيجية المحيطة بمصر، فى الشرق والجنوب والغرب. فقط الاتجاه الشمالى، جهة شرق المتوسط، لديه إمكانات تعاون تنموى هائل وإن كان معطلا جزئيا بسبب حروب إسرائيل، وبسبب توترات سياسية ذات صلة. تعدد المخاطر واتجاهات التهديد يفرض على مصر أعباء هائلة، ويحتم تطوير استراتيجيات خلاقة.
الاتجاهات الأربعة المحيطة بمصر ليست مجرد اتجاهات جغرافية، لكنها أربعة أقاليم استراتيجية أمنية مختلفة، لكل منها مشكلاته وصراعاته وأطرافه والتفاعلات الخاصة به. موقع مصر الجغرافى الفريد يجعلها عضوا فى أكثر من إقليم استراتيجى أمنى فى نفس الوقت، على عكس دول المنطقة الأخرى التى ينتمى كل منها إلى إقليم استراتيجى واحد، أو إقليمين كحد أقصى. تنتمى مصر إلى إقليم الشرق الأوسط المتمحور حول فلسطين، وإلى إقليم القرن الإفريقى المتمحور حول مياه الشرب العذبة ومياه البحار المالحة، وإلى إقليم الشمال الإفريقى القريب المتمحور حول ليبيا، وأخيرا إلى إقليم شرق المتوسط المتمحور حول موارد الغاز. التهديد فى إقليم الشرق الأوسط مركب. هناك إسرائيل التى تسعى إلى تحقيق الأمن المطلق، بما ينطوى عليه ذلك من إبقاء كل الآخرين فى حالة انكشاف تجاه القوة الإسرائيلية المتفوقة والمدعومة أمريكيا. هناك أيضا مشروع الهيمنة الإيرانية، المغلف إسلاميا. لا ترى إيران فى المنطقة دولا،لها حكومات شرعية، وهويات وطنية، وحدود محترمة، لكن ترى فيها طوائف وأيديولوجيات وميليشيات، تنساح بحرية عبر حدود الدول، وضد إرادة حكوماتها. بعض دول المنطقة تلوذ بإسرائيل لتساعدها فى التصدى للتهديد الإيراني. لا يمكن لمصر الالتحاق بإسرائيل أو قبول الهيمنة الإيرانية. هذا اختيار صعب ومكلف، لكنه الاختيار السليم.
للشرق الأوسط أهمية خاصة بين أقاليم مصر الاستراتيجية الأمنية. هوية مصر وثقافتها ترتبط بالشرق الأوسط أكثر من ارتباطها بأى من الأقاليم الأخرى. المخاطر والقيود المفروضة على الحركة فى الشرق الأوسط شديدة الوطأة، فالشرق الأوسط منطقة مزدحمة، متخمة بالسلاح، تتقاطع وتتصادم فيها مصالح قوى كبرى ودول كثيرة.
استراتيجيا، القرن الإفريقى إقليم واسع، يشمل القرن الإفريقى وشرق إفريقيا والبحر الأحمر، يضم دولا عدة واهتمامات وأولويات متنوعة، بما يصعب من إمكانية جمع التحديات الأمنية والاستراتيجية فى المنطقة تحت عنوان واحد. لمصر مصلحة حيوية فى تنمية حوض النيل ليصبح منطقة ازدهار لمصلحة كل شعوبه، ولاستمرار تدفق مياه النهر إلى دول المصب، وهو ما يتعارض مع سياسات تهدف إلى استخدام ماء النيل لابتزاز مصر والضغط عليها. تأمين الملاحة فى البحر الأحمر والمداخل والمضايق المؤدية إليه هو أيضا مصلحة حيوية لمصر. القرصنة وتأثيرات الصراع فى فلسطين تثير تهديدات مباشرة لأمن الملاحة فى البحر الأحمر. مياه النيل هى شريان الحياة لمصر، والملاحة الآمنة فى البحر الأحمر هى الشرط الذى بدونه يصبح موقع مصر الجغرافى نقمة لا نعمة. شمال إفريقيا هو إقليم استراتيجى أمنى ثالث تنتمى له مصر. تاريخيا مثل شمال إفريقيا جزء من الشرق الأوسط الواسع، غير أنه اكتسب درجة كبيرة من الاستقلال، خاصة منذ اضطرابات الربيع عام 2011.ليبيا، والوضع المضطرب فيها، هى مركز الثقل فى الاهتمام المصرى بهذا الإقليم. ضعف الدولة الوطنية، ومخاطر التنافس بين دول شمال إفريقيا على توجيه الأحداث فى البلد المنقسم، ومخاطر إرهاب تتحرك جماعاته بحرية كبيرة عبر أقطار الساحل والصحراء، ووجود الأغراب الأجانب الساعين لاستغلال الفراغ. كل هذه تحديات تتعامل معها مصر فى الاتجاه الاستراتيجى الغربى.
شرق المتوسط هو إقليم استراتيجى أمنى قيد التشكل، مدفوعا بمكتشفات الغاز الهائلة تحت مياهه. فى هذا الإقليم توجد خلافات حول رسم الحدود البحرية واقتسام الثروات، وهناك أيضا المنافع الهائلة التى يمكن للجميع الفوز بها لو تم تعزيز الأمن والتعاون فى هذا الإقليم. تقلل حروب الشرق الأوسط من فرص استثمار الإمكانات الهائلة فى هذا الإقليم، وإن كان شرق المتوسط استطاع تحصين نفسه ضد امتداد الآثار السلبية المباشرة لحروب الشرق الأوسط. مفهوم الأقاليم الاستراتيجية الأمنية أكثر فائدة لعملية تخطيط السياسة الخارجية المصرية من مفهوم الدوائر الثلاث، العربية والإسلامية والإفريقية، الذى مثل أساسا للسياسة الخارجية المصرية لعقود. الدوائر الثلاث هى مجالات للتحرك. بينما الأقاليم الأربعة هى أقاليم أمنية، تنبع منها تهديدات مباشرة للأمن القومى المصرى. نشأ مفهوم الدوائر الثلاث عندما كانت مصر تحارب معركة وحيدة، هى معركة التخلص من الاستعمار فى العالم العربى، فاتجهت للبحث عن التضامن والمساندة فى الدوائر العربية والإسلامية والإفريقية، فى وقت كان فيه للخطر والتهديد مصدر واحد فقط هو الاستعمار الغربى، بما أتاح وحدة كفاحية وانسجاما لم يعد موجودا فى العصر الراهن، زمن التفتت، وتعدد المخاطر، وسقوط السرديات الكبرى، وانفراط عقد التضامن الكفاحى. الأقاليم الاستراتيجية الأمنية الأربعة مستقلة عن بعضها إلى حد بعيد جدا، يحتاج كل منها لتطوير السياسات والاستراتيجيات المناسبة له، وتجنب تعميم المفاهيم والاستنتاجات من واحد منها إلى الآخر. على مصر تطوير سياسات خارجية ودفاعية وأمنية خاصة فى كل واحد من هذه الأقاليم، كما لو كانت تنفذ عدة سياسات خارجية فى نفس الوقت.هذا بالتأكيد عبء كبير لدولة متوسطة الحجم والموارد، لكن لا بديل.
لمزيد من مقالات د. جمال عبد الجواد رابط دائم: