شرحنا فى الأسبوع الماضى أن الحوسبة الكمومية تعنى تخزين ومعالجة المعلومات باستخدام ذرات أو إلكترونات أو فوتونات فردية, وأن هناك تماثلا بين الكومبيوتر العادى والكمبيوتر الكمى فبينما يستخدم الكمبيوتر الكمى وحدات البت الكمموية وهى عبارة عن جسيمات الذرة وهو سر قوتها وقدرتها على توليد ومعالجة تلك البتتات الكمموية, يستخدم الكمبيوتر التقليدى البتاتات العادية للكمبيوترات التقليدية. هذا يجعل من استخدام الكمبيوتر الكمى قادرا على سبر غور بعض الظواهر الغامضة فى ميكانيكا الكم لتحقيق قفزات هائلة والتى يطلق عليها قفزات كوانتمية فى معالجتها للأمور المستعصية وفى مجالات مختلفة من علوم وهندسة المواد والطاقة المتجددة والتى ستكون مصر من روادها الأساسيين قريبا, إضافة الى إحداث طفرات فى بقية فروع الهندسة والطب والتطور فى صناعة الأدوية مما سيؤدى الى ابتكار عقاقير وأدوية جديدة, وهو الأمر الذى يضمن تفوق هذه الكمبيوترات على السوبركمبيوتر والكمبيوتر التقليدى, وبيناأيضا أن عمل ذلك ليس بالأمر الهين وذلك لأن تصميم هذا الكمبيوتر يحتاج مجهودات خارقة قد تكون شبيهة بتصنيع القنبلة الذرية التى تمت من خلال مشروع مانهاتن العملاق والذى استخدمت فيه إمكانات مادية وبشرية لم يعرفها العالم من قبل. ومثلما كان هناك سباق محموم بين الدول العظمى حينها على الفوز بالسباق النووى, فإنه يوجد سباق مماثل الآن بين الصين والولايات المتحدة واليابان وروسيا وغيرها. الى جانب هؤلاء العمالقة توجد إسرائيل وكذلك الإمارات العربية فى ذلك السباق الرهيب, كل يريد إحراز السبق فى ذلك المضمار الذى سيقلب الدنيا اقتصاديا وعسكريا رأسا على عقب بطريقة لم تعهدها البشرية من قبل. من هنا فإن الوقت هو الآن لمن يفكر فى الرخاء المستقبلى ويفكر فى السلع الصناعية المطلوبة لزمننا والأزمنة القادمة ولديه الرغبة فى الالتحاق بذلك الركب السريع الخطى والذى لا ينتظر أحد.
السؤال الملح: هل تستطيع مصرالتى يشغلها المستقبل الآن وتشغلها عمليات التنمية اللائقة بها, أن تكون ضمن الزمرة الفائزة فى هذا المضمار الخطير؟.نعم تستطيع نتيجة حتمية الضرورة ولأن المتخلف عن هذا الركب سينفصل عن الثورة العلمية التى تشتعل بضراوة الآن. ولنا فى التاريخ عبرة وأمل كبير. فى بداية القرن العشرين ونتيجة السياسة البريطانية التى انتهجها كرومر لضمان تركيع مصر وجعل التعليم بها مقصورا على الكتاتيب وبالتالى لم تكن بها جامعات وكليات للعلوم. ولكن هذا المكر الشيطانى تبخر كله بوجود النابغ على مصطفى مشرفة الذى شاءت إرادة الله أن يكون وحده ممثلا لمصر ولكل العرب فى أكبر ثورة علمية حدثت فى التاريخ. ولنا فى قصة الدكتور مشرفة عبرة ونموذج يحتذى به. كان معاصرا لأهم مرحلة فى تاريخ الفيزياء وهى الثورة العلمية التى غيرت تاريخ العالم, وكان معاصرا لأينشتاين وباولى وبوهر وهيزينبرج وشرودينجروديراك وكل الأساطين الذين أسسوا ميكانيكا الكم والفيزياء الحديثة كما نعرفها الآن وكان فى مستواهم وعلى قدرهم. كان محبا للرياضيات والفيزياء. حصل على الشهادة الثانوية قسم أول (الكفاءة) عام 1912, وقسم ثان (البكالوريا) فى عام 1914وكان ترتيبه الثانى على القطر وكان بإمكانه أن يلتحق بمدرسة الطب أو الهندسة, إلا أن عشقه للعلوم الأساسية جعله يلتحق بمدرسة المعلمين العليا, حيث إنه لم تكن فى مصر حينها جامعات وكلية للعلوم. تخرج فى مدرسة المعلمين العليا عام 1917, وكان ترتيبه الثانى على دفعته, ثم تم اختياره لبعثة الى جامعة نوتنجهام فى الفترة من 1917- 1920, وحصوله على البكالوريوس منها فى الرياضيات فى ثلاث سنوات بدلا من أربع فى دلالة واضحة على نبوغه وتفرده. التحق بعدها بجامعة لندن فى الفترة من 1920-1923, حيث حصل على الدكتوراة فى الفلسفة من جامعة لندن فى فبراير 1923, وكان أول مصرى يحصل على الدكتوراة فى العلوم فى مارس 1924. مكن هذا التعليم المتقدم للدكتور مشرفة من جعله مساهما أساسيا فى واحدة من مراحل التقدم العلمى فى تاريخ البشرية وهى ميكانيكا الكم وكأن إرادة الله شاءت أن تكون مصر حاضرة بقوة فى تلك الثورة, ولولا وجوده ما عرفت مصر والعالم العربى هذا المجال. كانت مساهماته البحثية والتى تشمل 24 بحثا فى أرقى المجلات العلمية مثل مجلة نيتشر وساينس وغيرهما, وكان من أبحاثه فى الطبيعة الازدواجية للضوء وهو أن شعاع الضوء يتصرف أحيانا كما لو كان مكونا من جسيمات وأحيانا كما لو كان موجات كهرومغناطيسية وهى الظاهرة الكمية التى تعنى ببساطة أن الموجات الضوئية يمكن أن تكون شيئين فى وقت واحد أو جسيمات وموجات. كانت تلك الأبحاث تؤهله للحصول على جائزة نوبل ولكن تم منحها للفرنسى ديبرولى إضافة الى أن المنية وافته ليموت وهو فى الثانية والخمسين من عمره إضافة الى أن الجائزة حينها كانت تقتصر على أوروبيين أو أمريكيين.
مصر بها الآن المئات الذين على إلمام بميكانيكا الكم ولديها عدد كبير من ابنائها بالخارج الذين لا يختلفون عن أعظم علماء العالم. ولتحقيق ذلك بالسرعة الكافية يجب وضع خطة إستراتيجية طموحة تقوم بها وزارات التعليم والتعليم العالى والصناعة تشمل الاهتمام البالغ بكليات العلوم وجعلها كليات قمة مثلما هو الحال فى العالم كله. كليات العلوم هى التى ستنتج الكثيرين من أمثال مشرفة. إضافة الى ذلك توفير الأموال اللازمة لعمل الأبحاث فى هذا المضمار. وفى نفس الوقت إرسال البعثات العلمية التى تشمل الشهادة الجامعية الأولى الى الدول الرائدة فى ذلك المجال مثلما فعل محمد على, وأن يخصص جزء من ميزانية التعليم والبحث العلمى لذلك الغرض.
لمزيد من مقالات د. مصطفى جودة رابط دائم: