قف، فنحن الآن فى رحاب «أكتوبر».
عظم شهيدك، وارفع رأسك، واحمد الله، وامسك فى وطنك «بإيديك وسنانك».
.. يا الله!!
كم شهيدا سقط كى يحيا هذا البلد؟ وتحيا أنت؟
كم روحا أزهقت، وكم جرحا نزف، وكم شابا فقد عينه أو ذراعه أو ساقه، كى يبقى هذا الوطن حرا آمنا، مستقلا مستقرا؟
كم امرأة ترملت، وكم طفلا تيتم، وكم أبا فقد فلذة كبده، كى تبلغ مصر هذا المشهد الحالى، كملاذ آمن، وبناء ثابت شامخ كالجبل، لا يهتز، ولا يتزعزع من مكانه مهما اشتدت الرياح؟
لو كانت مصر قد سقطت فى 2011، أو فيما بعدها، لكانت الآن كومة رماد، و«600 حتة»، وهباء منثورا لا وجود لها، ولكان كل كيلومتر مربع فيها مباعا للخارج!
غزة سقطت، وبعدها لبنان، ومن قبلهما، عاصفة العملاء والمتآمرين تطيح باستقرار تونس وليبيا وسوريا واليمن والسودان والعراق، ولا أحد يعرف من سيصيبه الدور لاحقا.
النيران تشتعل فى المنطقة، وتحيط بمصر من جميع الجهات، ومع ذلك، لم تمسها النار.
لم تقع مصر أسيرة فكر «حنجورى»، ولم تحكمها ميليشيات أو ائتلافات، أو «جنس مخلوق» فى واشنطن أو لندن أو باريس، لا فى الماضى، ولا فى الحاضر، ولن يحدث ذلك فى المستقبل.
جيشها وشعبها هما من حماها وقادها إلى بر الأمان.
لم يحدث ذلك إلا بتضحيات ودماء، وأذرع وأرجل طارت، وأعين فقدت.
من حرب 48، أول صراع مسلح بين العرب وإسرائيل، إلى التصدى لعدوان 1956، وحرب الاستنزاف، ثم حرب أكتوبر المجيدة عام 1973 التى نحن فى ذكراها الآن.
من هزمهم السادات فى 73 هم أنفسهم الذين أسقطوه شهيدا فى 81، وهم أنفسهم الذين شمتوا فى هزيمة مصر عام 67، وهم أنفسهم الذين قادوا أكبر عدوان لتخريب مصر فى 2011، وهم أنفسهم أيضا الذين لا يسعدهم الآن أن يروا مصر تخطو خطوة للأمام، لا بمدن جديدة، ولا بمشروعات، ولا ببنية أساسية، ولا استثمارات، فكلها «مصائب» بالنسبة لهم، ويحاولون أن يصوروها لك على هذا النحو، و«تشرب» أنت بكل سهولة!
هم أنفسهم الذين لا يطلقون رصاصة واحدة على تل أبيب، لا إخوان، ولا قاعدة، ولا داعش، ولن يفعلوا، وكأنهم يفضحون أنفسهم بأنفسهم أمام العالم أجمع، فليسوا سوى عملاء، وليسوا سوى قتلة، ولا فارق بين أدوارهم فى 2011 وما بعدها، وحملات التشكيك والتسخيف والتشهير وتزييف الوعى التى يمارسونها عبر منصات التواصل، مستغلين تواطؤ شركات التكنولوجيا معهم، وطيبة المصريين، وأزماتهم، التى هى «ولا حاجة» مقارنة بمن فقدوا أوطانهم، وبيوتهم، وأحباءهم، ويستيقظون يوميا على أصوات القنابل والمدافع والطائرات.
من أبطال الاستنزاف، ومعارك إيلات ورأس العش وتبة الشجرة، وشهداء أكتوبر 73، وصولا إلى هشام بركات والمنسى ومبروك، وطابور طويل من الشهداء والجرحى، جاء ما نحن فيه، فلولا هؤلاء لصرنا الآن فى عداد الموتى أو الجوعى أو اللاجئين أو المطاريد فى شوارع أوروبا.
محمود حسن إسماعيل يقول فى قصيدة «مصر نادتنا»، التى غناها عبدالوهاب: «ترخص الأرواح والدنيا فداها .. ونروى بالدم الغالى ثراها». هذه الأرض الطيبة، مروية بدماء الشهداء، منذ قديم الأزل، وحتى يومنا هذا.
هذا ما لا يفهمه مروجو الشائعات والحرب النفسية ضد المصريين، ممن لا يزالون يعتقدون بأن مصريا حقيقيا يمكن أن يقتنع بمن يحاول إيهامه بأن أسعار الدولار والطماطم والبطاطس يمكن أن تكون أهم لديه من وطن يضيع، أو أرض تنهب!
مصر التى يصفونها بأنها وطن يضيع وبلد يفلس وشعب محبط، هى ذاتها التى يراها النازحون من حروب المنطقة وطنا ثانيا لهم، وملاذا آمنا، وأرضا للفرص، وأغلبهم لن يفكر فى الرحيل منها!
مصر التى تبنى وتعمر وتدعو للسلام، هى ذاتها صاحبة الرادعة لمن تسول له نفسه الاقتراب من أمنها أو سيادتها.
مصر التى تتخذ قراراتها بالحكمة وتتسم سياستها بالعقلانية والاتزان، تجاه كل أزمات المنطقة، هى نفسها التى أنجبت خير شهداء الأرض، وصنعت أروع قصص الفداء من أجل الوطن، على استعداد لأن تقدم المزيد والمزيد، لتظل أرضها تروى بدماء شهدائها وأبنائها، وتبنى وتنهض بصمودهم وثباتهم وتماسكهم فى وجه التحديات.
ستبقى مصر دائما «كنانة» الله فى أرضه، وحضن العروبة والإسلام الدافئ، وحائط الدنيا الأخير.
«الفاتحة» لشهدائنا، والمجد لمن أبقونا ووطننا أحياء أقوياء أعزاء، لا يضرنا من خذلنا.
قف، فأنت فى حرم أكتوبر.
ولنترك لهم الصراخ، والصياح، والشكوى، والكذب.
لمزيد من مقالات هانى عسل رابط دائم: