هناك مداخل كثيرة يمكن أن تساعدنا فى تفسير ما يحدث بالمنطقة من تصعيد عسكرى بدأ فى حرب غزة، وامتد إلى الضفة الغربية، والآن فى جنوب لبنان، بالإضافة إلى التوابع فى سوريا واليمن والبحر الأحمر ولا أستبعد امتداده إلى إيران. وأكتفى فى هذا المقال بعرض مجموعه من المحددات التى تساعدنا فى تفسير جانب من هذه الصورة. اول هذه المحددات تتعلق بالتيار اليمينى المتطرف الذى يقود الحكومة الإسرائيلية. هذا التيار يرى ان احداث 7 أكتوبر لم تكن تمثل «كارثة» بالنسبة لإسرائيل، بل تعامل معها على انها «فرصة» لتحقيق اهداف كبرى تتجاوز الانتقام من حماس. وزيرة الاستيطان أوريت ستروك، وأحد رموز هذا التيار ذكرت «أننا نعيش فى زمن المعجزة»، وفى حديث لها مع مجموعة من المستوطنين أشارت إلى السهولة التى تستطيع بها الآن هى وزملاؤها من الوزراء اليمينيين تفويض وتمويل المزيد من البناء الاستيطانى فى الضفة الغربية، وتهجير التجمعات الفلسطينية الريفية. وزير المالية ورئيس حزب «الصهيونية الدينية» سموتريتش، ذكر أن حرب غزة تعد «فرصة سماوية» لتحقيق المزيد، مثل الشروع فى حرب أوسع فى لبنان ضد حزب الله، وكذلك القضاء على السلطة الفلسطينية فى الضفة الغربية، وضم الضفة لإسرائيل. إذن التوسع فى أهداف الحرب هو أحد أهداف هذه المجموعة اليمينية المتطرفة التى تقود الحكومة الإسرائيلية حاليا.
المحدد الثانى يتعلق برئيس الوزراء بنيامين نيتانياهو، وشبقه السياسى ونرجسيته، وكما كتب أحد المحللين الأمريكيين الذين تابعوا مسيرته السياسية، «يرى نيتانياهو نفسه من منظور تشرشل، فأنا وحدى من يملك البراعة السياسية والدهاء، وأنا وحدى من يملك الرؤية الواقعية لظروف إسرائيل فى التاريخ. أنا وحدى من يستطيع قيادة هذا البلد». رغبته المرضية فى الاستمرار فى الحكم هى التى جعلته يقيم هذا التحالف الشيطانيّ مع أشد التيارات الدينية تطرفا فى إسرائيل، وأصبح اسيراً لها ولأفكارها، وإلا انفض ائتلافه الحكومى، وأصبح خارج دائرة الحكم.
ولكن يضاف لذلك بعد أيديولوجى يتعلق بنيتانياهو نفسه، وهو انه لم يكن يوما مؤمنا بإقامة دولة فلسطينية او حل الدولتين، ويبدو أن حرب غزة، أتاحت له الفرصة لان يكون أكثر اتساقا مع الأفكار التى كان يؤمن بها دائما، والتى حالت ظروف ومواءمات سابقة عن الحديث عنها او تطبيقها.
المحدد الثالث يتعلق بالولايات المتحدة الأمريكية، والتى أصبحت فاعلا سلبيا وفشلت سياستها فشلا ذريعا فى التعامل مع الأزمة. فهى تطلب من إسرائيل دائما عدم التصعيد، ولكن الحكومة الإسرائيلية تتجاهل دائما هذا المطلب الأمريكي.
فى المقابل تقوم الولايات المتحدة بإرسال أساطيل وقوات إضافية إلى منطقة الشرق الأوسط بحجة ردع التصعيد فى المنطقة، ولكن نتيجة ذلك هو تشجيع إسرائيل نحو المزيد من التصعيد، وهو تناقض كبير فى السياسة الأمريكية لن يتغير قريبا.
ويرتبط بما سبق عامل يتعلق بالتوقيت، وهو أننا دخلنا فى الأسابيع الأربعة الأخيرة قبل التصويت فى الانتخابات الأمريكية وهى أسابيع ستهتم فيها الولايات المتحدة بشكل أكبر بالشأن الداخلى، مما يعطى الفرصة للحكومة الإسرائيلية للمزيد من العربدة فى المنطقة، وتجاهل أى مطالب أمريكية بعدم التصعيد.
يضاف لذلك أن نيتانياهو يفضل فوز المرشح الجمهورى والرئيس السابق دونالد ترامب فى الانتخابات الأمريكية القادمة، ويفضله أيضا أكثرية الرأى العام الإسرائيلى (وفقا لاستطلاع حديث للرأى العام الإسرائيلى أشار 50% من الإسرائيليين إلى تفضيلهم ترامب، و25% لمرشحة الحزب الديمقراطى كاميلا هاريس، والباقون لا رأى لهم.)
ويؤمن نيتانياهو ان التصعيد ورفض اى وقف لإطلاق النار سواء فى غزة او لبنان، وعدم الامتثال لمطالب إدارة بايدن وحرمانها من اى مكسب دبلوماسى، وربما توريطها فى عمل عسكرى بالمنطقة سوف يضر بالديمقراطيين، وقد يسهم فى تعزيز فرص ترامب فى الوصول مرة أخرى إلى البيت الأبيض.
هذا لا يمنع من وجود تغيرات إيجابية مهمة فى الرأى العام الامريكى خاصة فى الحزب الديمقراطى تجاه القضية الفلسطينية، ولكن هذه التغيرات لم تجد لها صدى كبيرا لدى الإدارة الأمريكية نتيجة تأثير جماعات المصالح المؤيدة لإسرائيل. ووفقا لاستطلاع للرأى العام أجراه معهد الشئون العالمية فى الأسبوع الماضى، فقد أيدت أغلبية قوية من الديمقراطيين أن الولايات المتحدة لابد أن تتوقف عن دعم جهود الحرب الإسرائيلية بالكامل أو أن تجعل هذا الدعم مشروطا بوقف إطلاق النار (67%) ــ مقارنة بنحو 41% فقط من الجمهوريين. وفى حين يؤيد 23% فقط تقديم مساعدات غير مشروطة لإسرائيل، فإن هذا أيضا انقسم على أسس حزبية، حيث وافق 8% فقط من الديمقراطيين و42% من الجمهوريين على الفكرة. ولكن تأثير جماعات المصالح المؤيدة لإسرائيل، يؤدى إلى استمرار هذه الفجوة بين مواقف الرأى العام وسياسات الإدارة الأمريكية.
المحدد الأخير يتعلق بإيران، فرغم الهجمات التى تعرضت لها، هى ووكلاؤها فى المنطقة، فإنها رفضت التصعيد ضد إسرائيل، وتتحدث عن رغبتها فى عدم توسيع الحرب.
والواقع أن تفسير الموقف الإيرانى يعود إلى تخوفها من أن التصعيد ودخول إيران كطرف مباشر فى الحرب، قد يعطى الذريعة لإسرائيل لتدمير البرنامج النووى الايرانى، او تزايد الضغوط. لسقوط النطام، وهى سيناريوهات تسعى إيران لتجنبها، ولا مانع لديها من ضبط النفس والتضحية ببعض الوكلاء للحفاظ على أهدافها الاستراتيجية فى استكمال البرنامج النووى، والحفاظ على الجمهورية الإسلامية.
باختصار، المحددات السابقة تقودنا نحو المزيد من التصعيد واتساع نطاق الحرب بالمنطقة.
لمزيد من مقالات د. محمد كمال رابط دائم: