رئيس مجلس الادارة

د. محمد فايز فرحات

رئيس التحرير

ماجد منير

رئيس التحرير

ماجد منير

مع صلاح جاهين

مما أعتز به وأذكره كثيرا وأحن له، تلك الأيام التى جمعتنى بالشاعر الفنان صلاح جاهين... وكان هو بطاقاته وإبداعاته وحياته كلها صورة حية لهذه الأيام، ورمزا جامعا معبرا منها، ولا يزال حتى اليوم. لم يكن صلاح جاهين ينظم أشعاره ويرسم نكاته، ويكتفى بالنظم والرسم، وإنما كان يعيش ما ينظمه ويرسمه بكل خلجة فى كيانه، لم يكن شاعرا وقت نظمه للقصيدة فقط ولم يكن فنانا وقت رسمه للنكتة فحسب، وإنما كان وهو يعمل، وهو يكف عن العمل، فى ساعات النهار، وفى ساعات الليل، كان على الدوام صلاح جاهين الشاعر الرسام الفنان، المصرى بكل معنى من معانى هذه الكلمة، الإنسان بكل معنى من معانى هذه الكلمة كذلك، يقول كأنك أنت القائل، ويرسم كأنك أنت الرسام، لأنه يقول ما كنت تود أنت أن تقوله، ويرسم ما كنت تود أنت أن ترسمه، وهو بما يقدمه لك يكشف لك عن نفسك، ويفسر لك الغامض، ويستدعى الهارب المنزوى، ويسلط الضوء على البعيد المجهول، ويريك إلى أى حد تشبهه، لست أنت وحدك، بل أنت وغيرك من البشر، لأنه وهو يخاطب فيك مصريتك بملامحها المتميزة يكشف لك عما وراء هذه الملامح مما يشترك فيه الناس جميعا، فهو المثقف المفكر الفنان المعبر، وهو ابن البلد الطيب المرح المضياف الرقيق الحاشية، وهو الوطنى الغيور المعتز بمصريته، وهو الإنسان الواسع الأفق اليقظ الضمير المنفتح على العالم كله عربه وعجمه، شرقه وغربه، وشماله وجنوبه.

وصلاح جاهين يعبر عن شخصيته هذه برحابتها وعمقها وغناها بأعماله التى تنقل فيها بين مختلف الفنون، كما يتنقل صاحب البيت الواسع من غرفة لغرفة، ومن شرفة لشرفة، ومن البهو إلى الحديقة، فهو شاعر، ورسام، وهو كاتب سيناريوهات سينمائية، ومسلسلات تليفزيونية، وهو ممثل فى عدد من الأفلام، وربما خطر له فى بعض اللحظات أن يرقص ويغنى، وهو فى كل ما قدمه فى هذه الفنون المختلفة مبدع معبر كأنه فى كل فن، وفى كل عمل يؤديه متفرغ له متخصص فيه لا يشرك به فنا آخر أو عملا آخر.

وصلاح جاهين فى إنتاجه الغزير يتناول كل ما يخطر له من العواطف والخواطر والأحاسيس والقضايا والأفكار فى العلاقات الإنسانية، وفى المسائل السياسية، وفى القضايا الاجتماعية والثقافية، يعبر عن الحب، والحزن، والفرح، والغضب، والأخوة، والصداقة، ويدافع عن الحرية، والكرامة، والعدالة، وحرية المرأة، وحرية الفكر، وحقوق الإنسان، ويتناول كل الموضوعات والقضايا والمشكلات التى طرحت نفسها عليه وعلينا، وعلى العالم كله منذ بدأ ينظم قصائده فى الخمسينيات الأولى من القرن الماضى حتى ودعنا فى العام السادس والثمانين، الحرب والسلام، والثورات الوطنية والاجتماعية والأعياد القومية والعالمية، وهكذا كان بالنسبة للأجيال التى عاصرها، وسيبقى هكذا بالنسبة للأجيال المقبلة التى ستظل تراه وتتخيله وتقرأه لتتعرف على مرحلة فريدة غنية بالأحداث والتحولات التى غيرت مصر والمنطقة والعالم كله، وأصبحت تراثا وطنيا وإنسانيا يتلقاه جيل. وصلاح جاهين بسيرته وبإنتاجه الأدبى والفنى كنز حافل بالمعلومات والروائع التى أنجزها منفردا أو مع غيره من الشعراء والكتاب والفنانين، ولهذا لا أستطيع، ولا يستطيع غيرى أن يحيط به، ويعطيه حقه فى مقالة أو مقالتين... وكل ما أستطيع أن أقدمه هو أن أذكر به الذين يعرفونه ليعاودوا النظر فى أعماله التى ستفصح فى كل قراءة عن معنى جديد، وأدعو الذين لم يعرفوه لأنهم لم يعاصروه لأن يسعوا لمعرفته والإطلاع على ما تركه لمصر والمصريين، لأنهم سيجدون فيما تركه زادا لا ينفد من المتعة والمعرفة. وأنا عرفت صلاح جاهين منذ اليوم الأول الذى انضممت فيه لأسرة تحرير مجلة «صباح الخير» التى صدرت فى العام السادس والخمسين من القرن الماضى، وكان هو قد سبقنى بعام ليعمل فى مجلة «روز اليوسف» وليشارك فى إصدار «صباح الخير» مع الكاتب الكبير أحمد بهاء الدين الذى رأس تحريرها، وأفسح فيها مجالا لفن الكاريكاتير الذى برع فيه صلاح جاهين، بما كان يملك من ثقافة واسعة، وخفة ظل، وقدرة خاصة على مخاطبة الجمهور القارئ، فضلا عن براعة فى الرسم واختيار الشخصيات المضحكة، وقد كانت رسومه هو وغيره من الفنانين مادة رئيسية فى المجلة، لكنه كان فى الوقت ذاته ينظم أشعاره التى بدأ، يجمعها فى دواوين صدر الأول منها «كلمة سلام» فى العام الخامس والخمسين من القرن الماضى، واستقبل بحفاوة عبر عنها الشاعر كمال عبدالحليم فى المقدمة التى كتبها للديوان، كما عبر عنها نقاد آخرون فى تلك السنوات التى شهدت تحولات واسعة فى الأدب المصرى الحديث، فى الشعر، وفى القصة والرواية، وفى النقد، والمسرح، ومن أجمل قصائد الديوان قصيدة «الشاى باللبن» التى كنت أظن أن صلاح نظمها تعبيرا عن سعادته بأيامه الأولى مع الفتاة التى أحبها وتزوجها، لكنى تبينت أنها كانت تعبيرا عن حلم لم يتحقق إلا بعد أن نظمها بعامين، وهذا ما أكد لى صدق انطباعى عن شعره الذى يهزنى بصدقه حتى، وهو يتحدث فيه عما يتخيل :

أربع إيدين على الفطار

أربع شفايف يشربوا الشاى باللبن

ويبوسوا بعض، ويحضنوا نور النهار

بين صدرها وصدره وبين البسمتين

ويحضنوا الحب اللى جمعهم سوا

على الفطار

وكان صلاح يقرأ لى مما ينظمه، وكنت أقرأ له أنا أيضا ما أنظمه حتى قيل أن تكتمل القصيدة، ثم ما لبث رفيقنا الثالث صلاح عبدالصبور أن انضم إلينا فى «صباح الخير» فاكتملت به الحلقة التى كان لها فى حركة تجديد الشعر دورها المعروف.ونحن لم نكن مجرد زملاء يجمع بيننا العمل وحده فى مكانه وزمانه، وإنما كنا أصدقاء تجمع بيننا روابط مختلفة، أولها الشعر طبعا، فضلا عن العمل فى «دار روز اليوسف» التى كانت مدرسة تطبع المشتغلين فيها بطابعها، فتتقارب أفكارهم وأذواقهم، كما كانت تجمع بيننا الأمسيات التى كنا نقضيها مع الفنان الملحن المغنى سيد مكاوى فى منزله، وخاصة فى الأيام التى كان فيها الشاعر والملحن يقدمان الروائع التى جمعت بينهما، ومنها أوبريت «الليلة الكبيرة» وغيرها من الألحان التى غنتها الأصوات الجميلة التى ظهرت فى تلك المرحلة، فضلا عن كوكب الشرق، أم كلثوم التى غنت من كلمات صلاح جاهين، كما غنى منها أيضا عبدالحليم حافظ، وخاصة فى المناسبات الوطنية.

وفى الأربعاء القادم أواصل هذا الحديث


لمزيد من مقالات أحمد عبدالمعطى حجازى

رابط دائم: