احتفت الصحافة العالمية والعربية ومنصات التواصل الاجتماعى خلال الأيام القليلة الماضية بخبر إنتاج صورة لوجه الملك أمنحتب الأول (1504-1525 قبل الميلاد). وجاء فى تفاصيل الخبر أن مصمم الجرافيكس البرازيلى شيشرون مورايس قام بإنشاء صورة رقمية لوجه الملك المصرى الذى كان أول من دفن فى وادى الملوك. وبالتواصل مع مصمم الجرافيكس البرازيلي، قال إنه بنى عمله الذى تصور فيه شكل الملك أمنحتب الأول بناء على أبحاث الدكتورة سحر سليم أستاذ الأشعة التشخيصية فى كلية الطب بجامعة القاهرة والدكتور زاهى حواس عالم الآثار والمصريات. وأضاف شيشرون أن لديه خبرة فى استعادة رسم الملامح المفقودة لأنه يتعاون مع الشرطة فى مثل هذه البرامج للعثور على المجرمين.
من جانبه رفض الدكتور زاهى حواس عالم الآثار والمصريات رفضا قاطعا أى محاولات غير علمية لاستنتاج ملامح ملوك المصريين القدماء مثلما فعل مصمم الجرافيكس البرازيلى وقال إنه لا يستبعد أن تكون هذه المحاولات مشبوهة. وقال إنه لا يحق لهذا الرجل بأى حال من الأحوال أن يستخدم الدراسات التى قام بها هو والدكتورة سحر سليم الخبيرة فى المومياوات المصرية فى صنع تصورات غير علمية تماما.
> المشروع المصرى الكندى لتصميم مجسم لوجه الملك توت عنخ أمون
وقال حواس إنه لا يستبعد أن يكون هذا المصمم البرازيلى مدفوعا من جماعات الافروسنتريك، ليظهر أصحاب الحضارة المصرية بأنهم أصحاب بشرة سوداء. وأشار إلى أنه عندما أثار هذه القضية فى الولايات المتحدة الأمريكية قامت ضده مظاهرات فى عدة مدن أمريكية نظمها دعاة الافروسنتريك المزورون لأصول الحضارة المصرية. مؤكدا أنه سيظل واقفا ضد هذه المحاولات وأنه سينظم حملة للرد عليها فى الصحافة العالمية وكل المنتديات العالمية.
وبالرجوع للدكتورة سحر سليم التى تعد واحدة من أهم الخبراء العالميين فى مجال أشعة الآثار والأشعة المقطعية للمومياوات، أكدت أن رسم المصمم البرازيلى ليس إلا عملا فنيا من وحى خياله وليس بناء على ما نشرته فى البحث العلمي. فهذا العمل لم يتم نشره فى أى مجلة علمية بل هو خبر إعلامى بحت. كما أن هذا الرسم المشار إليه هو ناتج من عيوب جسيمة فى المنهجية، ونقصان مقلق فى الدقة يجعله غير مقبول علميا، ولا يمثل الوجه الحقيقى للملك امنحتب الأول.
وفى المقابل توضح الدكتورة سحر أن الدراسة عن مومياء أمنحتب الأول نشرت فى الدورية العلمية «فرونتيرز أند مديسين» وتم خلال الدراسة إجراء أشعة مقطعية للمومياء وتجميع آلاف المقاطع والصور المتناهية الدقة بسمك جزء من الملليمتر. وتمكنا من فك اللفائف عن المومياء افتراضيا بواسطة الكمبيوتر وعمل نموذج مجسم ثلاثى الأبعاد لرأس الملك والكشف عن وجهه الحقيقى لأول مرة بعد 3500 عام. وظهر وجه مومياء الملك أمنحتب الأول بأنف دقيق وشعر مموج بعض الشيء بما يشابه ملامح عموم المصريين.
أما تجارب الرسام البرازيلى فتعتمد على استخدام صور قليلة للمومياء منشورة على الإنترنت والتى بالطبع لا تعطى المعلومات الكافية لعمل صور ثلاثية الأبعاد. ونتج عن ذلك قياسات غير دقيقة بنى عليها المصمم تصوره لشكل الملك، بل قام بتركيبها على أشعة مقطعية لرأس شخص على قيد الحياة، فكانت النتيجة لمثل هذه المنهجية المعيبة إعطاء تصور تخيلى خاطئ لشكل وملامح وجه الملك أمنحتب الأول يختلف تماما عن وجهه الحقيقى كما أظهره فحص الأشعة المقطعية وهو ما سبق أن حدث أيضا فى تجارب سابقة لهذا المصمم مع محاولاته لإنتاج صور غير دقيقة لوجوه ملوك من الحضارة المصرية القديمة مثل سقنن رع ورمسيس الثاني.
> الرسم التخيلى المشوه لـ «أمنحتب الأول»
وأضافت أن من حق الجميع الاطلاع وتداول ما نشرناه فى الدوريات العلمية من صور أشعة مقطعية للمومياوات الملكية، ولكن لا يمكن أن يتم استخدام هذه الصور فى مثل هذه المشاريع وبناء صورة تخيلية وغير دقيقة علميا فى محاولة لإضفاء طابع علمى عليها، فهذا أمر مرفوض تماما.
وحذرت أستاذة الأشعة التشخيصية فى كلية الطب بجامعة القاهرة من أن انتشار مثل هذه الصور المغلوطة التى ترسخ عند العامة ملامح غير حقيقية للمصريين القدماء بينما هم أقرب شكلا لنا نحن، أحفادهم وتوضح د. سحر أن التصور الصحيح وإعادة تركيب وجوه المصريين القدامى وخصوصا الرموز والملوك بشكل علمى له أهمية كبيرة للمصريين والعالم حيث تمكننا من إعادة إحياء تاريخهم والتواصل مع الحضارة المصرية العريقة، والذى توصل إليه الباحثون المصريون لشكل الملك أمنحتب الأول يختلف تماما عما روج له مصمم الجرافيكس البرازيلي.
وعن تجربة إعادة ترميم وجوه المومياوات التى خاضتها هى وعدد من الباحثين المصريين قبل ذلك، تقول د. سحر سليم إنه من خلال عملها كعضو فى المشروع العلمى لدراسة المومياوات الملكية ودراستها بالأشعة المقطعية لأكثر من 40 مومياء ملكية مع رئيس المشروع د. زاهى حواس شاركت فى دراسات لبناء تصور لوجوه ملوك مصر القديمة باستخدام الاشعة المقطعية وبشكل علمي. ففى عام 2005 نفذ الدكتور زاهى حواس عمل ثلاث تجارب مختلفة لإعادة تركيب وجه الملك توت عنخ آمون بالاستعانة بشكل مستقل بفريق مصرى وآخرين فرنسى وامريكي. وفى عام 2022 تم التعاون بين دكتورة سحر سليم مع فريق كندى مكون من عالم أجناس قديمة ونحات متخصص فى عمل نموذج مجسم لرأس ووجه الملك توت عنخ آمون باستخدام تقنية الطباعة ثلاثية الأبعاد والذكاء الاصطناعي. كما تم التعاون مع فريق بحثى من جامعة ليفربول لإعادة تركيب وجه الملك رمسيس الثانى وتم نشر البحث العلمى فى مجلة (جورنال اوف اركيولوجيكال ساينس) فى عام 2023. وفى دراسة علمية جديدة نشرتها دكتورة سحر تظهر بالرسوم المتحركة كيف تغير وجه الفرعون الأشهر رمسيس الثانى من مرحلة الشباب إلى الشيخوخة. وتعتبر سليم أن هذا النوع من المشاريع البحثية يعد من الأكثر دقة علميا، حيث يتم الاعتماد على معلومات دقيقة من علم الأجناس، ودراسات مقاييس وجه المصريين القدماء، كما يتم الاستعانة بمتخصصين فى الطب الشرعى ونحاتين، حتى يخرج التصور للوجه الحقيقى فى أدق شكل ممكن.
وتقول إن العلم قادر على أن يمنحنا فرصة ركوب آلة الزمن، فمشاهدة الملوك العظام مثل رمسيس الثانى وهو يتقدم فى العمر، من شأنه أن يعطى نظرة قوية وعاطفية تجاه ملك قاد معركة قادش والتى تعد الأهم فى تاريخ المعارك القديمة. وتعيد د. سحر نجاح هذه التجربة إلى أنها كانت أكثر التزاما بمعايير العمل العلمي، معبرة عن أملها فى انتشار الصور الصحيحة لملوك مصر القدماء حتى يترسخ التاريخ فى أذهان المصريين والعالم والأجيال القادمة من بعدنا بعيدا عن التشويه والتشويش.
رابط دائم: