حين نشاهد اليوم العرض المسرحى «حدث فى أكتوبر»، للمخرج الكبير الراحل كرم مطاوع وتأليف إسماعيل العادلى، الذى قدمه على المسرح القومى تزامنا مع اندلاع حرب استعادة الأرض والكرامة سنة 1973، يبدو لنا الأمر وكأنه يُقدم اليوم.. نفس الحماس..
نفس المشاعر الوطنية الفياضة.. نفس الغيرة على كل ذرة من رمال الوطن.. نفس الإصرار على الحرية والتحرير.. وحتى تاريخ الأطماع الصهيونية منذ بداية النكبة فى الأراضى الفلسطينية لم يتجاهلها العرض حرصا على حفرها فى ذاكرة الأيام كى لا ننسى.
أكثر ما لفتنى فى العرض هو قدرة كرم مطاوع على الطرح الدرامى والفلسفى العميق لفكرة الاحتلال والمؤامرة الصهيونية العالمية لاغتصاب الأراضى العربية بخطط محكمة الصنع وبرعاية الأمم المتحدة، فلم يقدم رصدا وثائقيا لتاريخ هذا الصراع وأحقية مصر وفلسطين ولبنان فى أراضيهم فحسب، ولكنه اشتبك مع التاريخ المصرى وتفاعل معه واعتمد نظرية التفكيك حتى فى طرحه لأسطورة إيزيس وأوزوريس بهدف مناقشتها وطرح الأسئلة ودفع الجمهور على التفكير فى المعادلة الأصعب: هل السلام وحده يكفى للبشرية أم أنه يحتاج دائما إلى سيف يحميه؟!
يبدأ العرض بوصول أعضاء فرقة المسرح القومى إلى مقره بالعتبة، مع توالى إعلان بيانات النصر فى الإذاعة المصرية، سهير المرشدي، محمود ياسين، شفيق نور الدين، أشرف عبدالغفور، أحمد الناغى، وغيرهم، يعبرون عن فرحهم ونشوتهم بعد سماع البيان رقم 16 معلنا تحرير مدينة القنطرة شرق، ويكشف حوارهم تفاصيل الحياة اليومية تحت دوى القنابل، وفرحة أهالى القنطرة بالتحرير، خاصة أنها أكبر مدن سيناء بعد العريش.
المسرح عارِ تماما من الديكور باستثناء مستوى فى المنتصف، ومستوى أعلى فى عمق المسرح تتم فيه الاستعراضات ومشاهد التعبير الحركى وبعض المشاهد الفرعونية كخيال للظل من خلف ستار، ومشاهد أخرى لأسطورة إيزيس.
الصراع الدائر فى العرض يدور بين أعضاء الفرقة حول السؤال الأبدي: ماذا يمكن أن يقدم المسرح فى مثل هذه الظروف؟ هل يصمت الممثلون متابعين ما يحدث على جبهة القتال دون مشاركة فعالة مكتفين بالتبرع بالدم وجزء من الراتب، أم أن الأمر أكبر من ذلك بكثير؟، وانه إذا توقف الممثل عن المشاركة فمن حق الطبيب والمهندس أيضا التوقف عن عملهم.. حوار طويل مناسب لكل زمان ومكان، ومشاهد فى غاية القوة رغم بساطة الصورة البصرية، تنقل فيها الممثلون -على الطريقة البريختية- بين حوارهم الحقيقى كممثلين وبين مشاهد تؤكد أهمية الكلمة حين ألقى محمود ياسين مونولوج «الكلمة» لعبد الرحمن الشرقاوي، قائلا فى شموخ: اتعرف ما معنى الكلمة؟ الكلمة نور وبعض الكلمات قبور.. وحين يعبرون عن فرحتهم بالنصر بأداء الكورس أغنيات سيد حجاب البديعة، وعلى خلفية الطبول والآلات النحاسية، لتبرز شموخ الكلمات وعنفوانها وهم يشدون: احنا ولاد مصر.. للى عايز يفهم.. احنا غنوة الألم بين شفايفها، احنا شمسها المضيئة فى الليالى السوداوية.. واحنا كلمة الحقيقة ع الرباب والسمسمية.. من خطوتها الجريئة والرصاص والبندقية.. بينا ينبض المَكَن وتخضر العيدان.. مصر تحت الشمس فى أشرف مكان.. مصر حرة بإيد ولادها من زمان.
ناقش المخرج والمؤلف أسطورة إيزيس وأوزوريس بذكاء لما بها من رمزية طغيان الشر، حين استعرض غدر «ست» بأخيه أوزوريس وقتله طمعا فى السيطرة على العالم، وإصرار أوزوريس على التمسك بالسلام قائلا: «لو يقتلونى فى أيديا سلامى.. احسن ما اعيش فى الرعب نايم صاحى.. الصهيونية نايمة ادام بيتى.. طمعانة ف بيتى وغيطى وزيتى.. أنا مش هموت سُكيتى»، وهو ربط واضح وصريح بين الأسطورة والواقع.
ومع البيان رقم 17 يُصدم الجميع بإعلان ضرب إسرائيل بيوت الأهالى فى بورسعيد، فيتذكرون حمامات الدم التى ارتكبوها فى مدرسة بحر البقر، فمونولوج من عرض «وطنى عكا» استعرض من خلاله شفيق نور الدين فكرة الثأر لكل من ناضل ضد الاحتلال، الثأر للأرض ولشهداء النكسة والفلسطينيين. ويحتدم الصراع بين أعضاء الفرقة وتعترض سهير المرشدى على تمسك أوزوريس بالسلام فقط لأنه هو ما أودى بحياته، فيأتى الحل من قبل المخرج من خلال انتقام ابنه حورس طائر الانتقام رغم دهاء عمه «ست» لينتهى العرض بالدعوة إلى التكاتف حتى النصر وأنه لا حماية للفأس دون السيف.
وتعبر كلمات سيد حجاب عن المعنى العام للمسرحية بكل وضوح حين يقول: «ماحناش بنحب الحرب الحرب.. لكن لازم نحارب.. ونصد الضرب الضرب الضرب.. يا شعبنا المحارب.. ماحناش بنحب الحرب الحرب.. لكن بنحب ولادنا.. وف عز الضيق والكرب الكرب.. نفدى بالدم بلدنا».
رابط دائم: