كان « سبتمبر» قبل مائة عام.. شهرا مزدحما بالأحداث، ففى سبتمبر 1923، كان أهالى مصر يستعدون لاستقبال الزعيم سعد زغلول (1858- 1927) العائد من المنفى ، ويودعون الشيخ سيد درويش(1892- 1923) الذى وافته المنية منتصف سبتمبر أيضا. فى نهايات الشهر ذاته من عام 1923، جرت وقائع أحد أهم القضايا فى النصف الأول من القرن العشرين. قضية شغلت الرأى العام ليس فى مصر وحدها، ولكن فى أنحاء العالم.
والمحاكمة تلك لم تتناول وقائع الجريمة والمتهم بها فقط لا غير. لكنها كانت أيضا محاكمة للتقاليد والعادات الشرقية، وكذلك طباع الزوج المصرى. ووضع الجميع فى قفص الإتهام، بجوار الزوجة الفرنسية، مارى مارجريت، قاتلة زوجها المصرى، على كامل فهمى، والتى اعتبرها الغرب ضحية لتلك «الحياة الشرقية البدائية!».
كانت الأجواء السياسية فى تلك الفترة، تعد أرض خصبة ملائمة لجعلها قضية رأى عالمى بحق. فكانت مصر قد تخلصت لتوها من الحماية البريطانية، بعد صدور تصريح 28 فبراير 1922، والذى تضمن الاعتراف بمصر كدولة مستقلة ذات سيادة. وقد وجد المحامى البريطانى للقاتلة، السير مارشال هول، فى هذه القضية فرصة عظيمة لإثارة الرأى العام ضد المصريين من جانب، والإستئثار بعواطف الشعب الفرنسى، حلفاء بريطانيا فى الحرب العالمية الأولى (1914-1918)، والتى كانت لا تزال آثارها قائمة.
وستستعرض السطور التالية ماكان من تفاصيل القضية، وردود أفعال العالم من شخصيات عامة مصرية وغربية، وذلك وفقاً لما جاء فى «الأهرام».
وقائع «الجريمة» سيطرت
على الصحافة فى وقتها
استيقظ قراء «الأهرام» على عنوان لافت فى العدد الصادر بتاريخ 11 يوليو 1923 هو «مقتل على كامل فهمى بك فى لندن». وأدنى العنوان، ورد: «نشر بوليس لندن البلاغ الآتى اليوم: إلقاء القبض على مارى مرغريت فهمى، زوجة على كامل فهمى بك الفرنسوية الاصل، بتهمة إطلاق الرصاص على زوجها فى رواق الدور الرابع من اوتيل سفواى، على باب الجناح الذى كانا ساكنين فيه، وقد نقل المصاب إلى مستشفى شارنج كروس، حيث توفى على الأثر، وعندما نشر هذا البلاغ أحدث دهشة كبيرة فى لندن..».
جاءت هذه الأنباء لتتفاعل مع واقع سياسى محتدم. فقد أشار الكاتب الصحفى والمؤرخ الكبير صلاح عيسي(1939-2017) فى كتابه «مأساة مدام فهمى، حكايات من دفتر الوطن» إلى ذلك، قائلاً:«.. حوالى خمس سنوات كانت قد مرت على انتهاء الحرب العالمية الأولى، ومرت أربع سنوات على ثورة 1919، وكل شئ يبدو باعثا على القلق والخوف، لأن كل شئ كان لا يزال فى كفة الميزان، انتهت تضحيات سنوات الحرب العالمية الأولى، وسنوات الثورة بتصريح 28 فبراير 1922 الهزيل، الذى أعطى مصر استقلالا ذاتيا شكليا».
وعلى هذه الخلفية، تم القبض على زوجة على كامل فهمى بك، وإيداعها السجن، وبدأت محاكمتها. وكان تأهب القاتلة للدفاع عن نفسها ليس بالهين العابر، فقد ذكرت الأهرام فى عددها الصادر بتاريخ 6 سبتمبر 1923، أن مدام فهمى طلبت من أعظم المحامين البريطانيين فى القضايا الجنائية الدفاع عنها، وهما السير مارشال هول، والسير كورتيس بنيت.
«هول» .. محام قلب الموازين
هول .. بطل القضية
بعد عدة جلسات من المحاكمة، ظهر فى الأفق بطل جديد نال نصيب وافر من الأضواء، وهو محامى القاتلة، السير إدوارد مارشال هول (1858-1927)، الذى استطاع ببراعة أن يغير مجرى القضية، من حادث قتل زوجة لزوجها، إلى صراع حضارى بين الشرق بتقاليده، والغرب بتقدمه وانفتاحه. فصور الزوج القتيل كرجل شرقى همجى وسئ الطباع، اضطرت الزوجة المغلوبة على أمرها قتله دفاعا عن نفسها.
ففى عدد «الأهرام» الصادر بتاريخ 13 سبتمبر 1923، وتحت عنوان فرعى «مرافعة الدفاع»، نقلت أقوال هول، والتى ورد فيها: «انظروا الى العلاقات بين الشرق والغرب، والى الاعجاب الذى ينظر به الرجل الشرقى الى امرأة غربية، ..ان المرأة المتزوجة فى مصر تكره على لبس ثياب المرأة المسلمة، وفى وسع الرجل أن يطلقها باقامة شاهدين على انه تخلى عنها، مع انه يستطيع ان يبقى على اتصال بنساء كثيرات».
والتزم هول بهذا النهج ففى جلسة أخرى للمحاكمة، واصل المحامى الهجوم على الشرقيين. فجاء فى عدد «الأهرام» بتاريخ 15 سبتمبر، وتحت عنوان «محاكمة قرينة على كامل فهمى بك، الجلسة الرابعة»، وأوردت «الأهرام»: «عاد السير مارشال هول اليوم الى الحملة على الشرقيين والمصريين، وتكلم عما كان لفهمى بك من سيادة شرقى على امرأة، وسأل المحلفين ألا يضعوا موضع الاعتبار انه كان اصغر سنا من زوجته بعشر سنوات، ثم قال انه لم يكن يبلغ سوى الثالثة والعشرين من العمر، ولكنه كان منغمسا فى كثير من الرذائل، ...اريد ان تفتحوا الباب لكى تستطيع هذه المرأة الغربية ان تخرج لا الى ظلمة الليل فى الصحراء، بل الى اصدقائها الذين يحبونها بالرغم من ضعفها، ...اقول افتحوا الباب ودعوا هذه المرأة الغربية تعود الى ضوء الشمس التى خلقها الله».
وجاء رأى المحلفين على هوى «هول» ببراءة الزوجة مارى مارجريت.
ونشرت الأهرام تفاصيل حكم البراءة فى عددها الصادر بتاريخ 17 سبتمبر 1923، وعبرت عنه بأنه كان نتاج ما نُشر دون صحة عن أخلاق الزوج المصرى، فكتبت «ولا يمثل المحلفون سوى شعور الطبقة الاعتيادية من الرجال والنساء، فعندما ذكرت حوادث الهمجية المزعومة، واذاعتها الصحف، عطف الجميع على المتهمة، وآلامها المزعومة، راجين براءتها».
شراء البراءة..وطلب الميراث
لم يكن صدور الحكم بالبراءة هو نهاية المطاف، بل كان بداية. فمن خفايا حكم البراءة، كان ما صرح به سكرتير القتيل، سيد العنانى، ففى عدد 3 أكتوبر 1923، وتحت عنوان «حول قضية مدام فهمى، وما انفقته هى عليها»، ذكرت «الأهرام» أنها التقت مع السكرتير الخاص لعلى كامل فهمى، والذى صرح للمحرر الأهرامى بأن مارجريت، أو مدام فهمى، قد اعطت للسير مارشال هول مبلغ 3 آلاف جنيه، ولمساعده ألفى جنيه، ومساعده الثانى 500 جنيه. ولم تكتف بذلك، بل دفعت للصحف الإنجليزية والفرنسية 4500 جنيه، ثمنا للكتابة عن الظلم والقهر الذى تعرضت له على يد زوجها المصرى. وذلك لكسب تعاطف الرأى العام معها، لكن بعد مرور ثلاث أيام، ورد خبر تكذيب له، أرسله سيد العنانى إلى رئيس تحرير الأهرام، فى عدد الأهرام بتاريخ 6 سبتمبر 1923، ينفى فيه كل ماذكر عن المبالغ المالية تكون «مدام فهمى» قد دفعتها مقابل براءتها. وبدورها جاء رد «الأهرام» فى عدد 8 أكتوبر 1923، حيث ورد: «...وفى استطاعتنا ان نؤكد انه روى ما نقلناه لثلاثة او اربعة ادباء، ليس بينهم من يخترع الاخبار اختراعا، وربما كان له عذر فى تسطير ما كتب».
وكان من التوابع المثيرة لهذا الحكم، هو عودة مارجريت إلى مصر، والمطالبة بحقها فى ميراث زوجها على كامل فهمى، فقد نشرت الأهرام فى عدد 23 أكتوبر 1923، العنوان التالى: «مدام فهمى قادمة الى مصر»، وجاء فيه «نشرت الجرائد التى صدرت فى لندن اليوم تلغرافا من نابولى، يفيد ان مدام فهمى مسافرة الى مصر، لتطالب بنصيب من تركة زوجها، ويحار الناس هنا كيف يقابلها المصريون، وماذا يفكرون فى امرأة تطالب بميراث من زوج قتلته»، وبالفعل وصلت «مدام فهمى» إلى مصر فى 23 أكتوبر 1923، وكتبت «الأهرام» فى 25 أكتوبر 1923 واصفة مشهد وصولها: «.. فنزلت من الباخرة بسكون وتواضع، وركبت سيارة سارت بها مع بعض اصدقائها، ولكن الشعور العام ثار هذا الصباح عندما ذاع انها ستصبح أما لولدا، وهذا الخبر جعل مسألة الميراث امام طور جديد». لكن اتضح لاحقا عدم حملها، وبالتالى عدم أحقيتها فى الورث.
واللافت أن مارى مارجريت ظلت محتفظة بلقب زوجها حتى وفاتها، حيث ذكر صلاح عيسى فى كتابه: «نشرت جريدة الفيجارو الفرنسية داخل مربع صغير فى ذيل عمود الوفيات إعلانا يقول: طلب إلينا أن نعلن أن البرنسيس فهمى قد رحلت عن الدنيا فى 2 يناير 1971..».
يوسف وهبى
يوسف وهبى: « يؤلمنا تحديها كرامة الشرقى» .. وسيدات مصر يحتججن
كان لقضية «مدام فهمى»، صدى واسع حيث إن مهاجمة الصحافة البريطانية ومحامى المتهمة على الرجل الشرقى والمصرى، خلفت الكثير من الغضب فى نفوس المصريين. فدفع ذلك ببعض الشخصيات العامة إلى رد الهجوم على الصحافة البريطانية والمحامى السير مارشال هول.
ومن أبرز المتصدين إلى الدفاع، كان عميد المسرح العربى يوسف وهبى (1898-1982)، حيث بعث إلى الأهرام رسالة، موقعة باسمه «يوسف وهبى، مدير مسرح رمسيس»، وتم نشرها فى العدد المؤرخ بـ 15 سبتمبر 1923، تحت عنوان «صدى محاكمة مدام فهمى بين الممثلين والممثلات فى مصر»، وجاء فيها: «احتج بالنيابة عن نفسى وعن جميع الممثلين والممثلات فى مصر، على التنديد والاهانات التى وجهتها جرائد انجلترا الى الشعب المصرى، فى حادث المرحوم على بك فهمى، ويؤلمنا جدا تحديها كرامة الشرقى، ووصفه بأخلاق هو برىء منها، ونرجو من حكومتنا الاحتجاج على ذلك».
أما نقيب المحامين، مرقس حنا، فراسل الدوائر القضائية فى بريطانيا، يحتج فيها على إهانة السير مارشال هول للشرقيين والمصريين، وقامت الأهرام بنشرها بتاريخ 16 نوفمبر 1923، تحت عنوان «نقابة المحامين، ودفاع السير مارشال هول فى قضية المرحوم على فهمى»، ومما جاء فيها: «لقد تتبع المحامون المصريون فى قضية المرحوم على فهمى بشئ كثير من الدهشة والأسف، واذا كانوا اعجبوا بمهارته، فانهم دهشوا عندما رأوه يتعدى حدود الدفاع كما رسمتها ألسنة والكرامة الفنية فى العالم المتمدن، ...وقد اجترأ وهو محام كبير على اصدار حكم على مصر وعلى الشرق بناء على حادثة فردية، ...وهو لا يعرف عن مصر لا قليلا ولا كثيرا، لا تخلو امة من الامم من وجود الفاسدين، ...انه يعلم بلا شك الفضائح التى ظهرت فى بعض القضايا امام المحاكم الانجليزية، وان ابطالها كانوا من اعلى طبقات الهيئة الاجتماعية الانجليزية، انه يتألم ويسخط اذا رأى مدافعا يعمم حكمه على الامة الانجليزية، لهذا يحتج محامو مصر بكل شدة على الطريقة التى اتبعها السير هول فى دفاعه، تلك الطريقة الظالمة الممقوتة».
ولقد اهتم النائب العمومى الإنجليزى فى ذلك الوقت بهذه الرسالة، وأرسلها إلى السير مارشال هول، وطلب منه الرد عليها، وعندما أرسل هول بالرد إلى النائب العمومى، ارسلها بدوره إلى نقيب المحامين المصريين، ومما جاء فى الرد: «يخيل الى أن الصحف لابد أن تكون روت روايات لم أطلع عليها، ولا تطابق الواقع، فإنه كل طعن أكون وجهته فى هذه القضية، إنما كان مبنيا على تعليمات صريحة وصلتنى من مصادر مصرية، وكان موجها ضد على فهمى شخصيا، لا ضد المصريين باعتبارهم امة، وإذا كانت التعليمات التى وصلتنى صحيحة، فكل ما فهمت به عن هذا الشخص كان فى محله، وأتذكر انه ليس فى كل ما قلته ما يحتمل سوء التاويل، الا قولى انه من الخطأ أن تتزوج امرأة غربية من رجل شرقى، إذ أنه قد أخذتها فى رواية تدور حول النظرية الشرقية من أن الزوجة ملك للرجل، وكأن الزوج اميرا عربيا من الطبقة الراقية، وإذا ارسل الى نقيب المحامين روايات الصحف التى تشير إليها، فإننى مستعد لاخباره فى الحال عما إذا كانت مطابقة لما قلت أم لا، على انه لو حدث أن خانتنى عبارتى فى حدة الدفاع، فساقتنى أن أقول شيئا قد يعتبر طعن فى المصريين كامة كاملة، فإنى أكون أول المبادرين إلى إنكار مثل هذه النية، وإلى الإعراب عن الاسف، إذا كان قد نسب الى ذلك».
ولم يكتف المصريون بذلك فقط، فقد ارسل «البيلى بك»، محامى مصرى» بمقال إلى الجريدة البريطانية «ديلى كرونيكل»، تحت عنوان «احتجاج محام مصرى»، وقد نشرت الأهرام نبذة عنه فى عدد 22 سبتمبر 1923، تحت عنوان «مقام المرأة فى مصر»، وذكرت جزءا من المقال «الاسلوب الذى جرت الحملة به فى محاكمة مدام فهمى على المصريين خاصة والشرقيين عامة، يهيج الإستياء فى البلدان الشرقية ضد بريطانيا، وقد صرحت مدام فهمى نفسها وهى فى قفص الشهادة، بأن جميع أخوات فهمى بك يتمتعون بحرية تامة، وهذا يدل على أن المصريين ليسوا أمة تعامل نساءها كالامتعة، ثم ان للمرأة المصرية كل الحق فى التصرف بما تملكه، ويبيح القانون المصرى للزوجة الطلاق من الزوج بسبب القسوة او باسباب شرعية أخرى.
وكان للسيدات المصريات كذلك دور فى الدفاع، ففى عدد الأهرام الصادر بتاريخ 28 سبتمبر 1923، جاء خبر بعنوان «احتجاج السيدات على مطاعن محامى مدام فهمى»، وجاء هذا الاحتجاج موقع ب «عن سيدات عابدين:حرم المرحوم يوسف بك فهمى، وكيل محكمة مصر سابقا، وكريمتها عائشة فهمى»، وعائشة فهمى هى شقيقة القتيل الثرى على بك فهمى، وكانت زوجة للفنان يوسف وهبى.
وورد أدنى العنوان: «نضم صوتنا الى صوت حضرة صاحبة العصمة السيدة هدى هانم شعراوى، فى الاحتجاج على المطاعن التى وجهها المستر مارشال هول، المحامى عن مارجريت فهمى، الى عموم الشرقيين والمصريين خاصة، وقد كنا نرفع الاداب الانجليزية عن التدنى الى هذا الحد، فخليق بالامة المصرية جمعاء ان ترفع صوتها عاليا، لتغسل هذه الاهانة الماسة بكرامتها واخلاقها وتقاليدها القومية».
رابط دائم: